المرأة والكتابة: مواجهة أنساق الذكورة في الثقافة العربية
تشهد الساحة الثقافية العربية حضوراً خافتا للمرأة في مجال الكتابة الفكرية والنقدية، مقارنة بحضورها في مجال الكتابة الإبداعية، فهي قد فرضت وجودها في حقلي الرواية والشعر، ما جعلها أقرب إلى روح الإبداع الأدبي. فقد نحصي أسماء قليلة عُرفت باهتماماتها الفكرية والنقدية على غرار فاطمة المرنيسي، ألفة يوسف، أم الزين بنشيخة المسكيني، آمنة بلعلى، هالة الوردي… إلخ، في مقابل هذه الأسماء سنجد صعوبة في ذكر الأسماء النسوية الإبداعية، فهنّ من الكثرة ما لا يتسع لهنّ هذا المقال برمته.
بقي أن نعيد مرة أخرى اجتراح السؤال القديم: لماذا يقلّ حضور المرأة في حقلي الفكر والنقد؟ هل يعكس ذلك طبيعتها الجوهرية التي تميل إلى العواطف والانفعالات، ما يجعل الإبداع الأدبي هو أكثر الأشكال التعبيرية الملائمة لها؟ ومن جهة أخرى هل يعني هذا بأنّ التفكير وظيفة ذكورية لا يمكن للمرأة اقترافها؟
في كتابه “المرأة واللغة” عرض علينا الناقد السعودي عبدالله الغذامي موقف الثقافة العربية القديمة من المرأة المثقفة، وتحديدا علاقتها بالكتابة وبالتفكير والإبداع. وسننهي قراءة الكتاب باستنتاج خطير وهو أنّ الثقافة العربية القديمة وضعت المرأة خارج دائرة الثقافة، بل اعتبرت ممارستها للتفكير وللكتابة، على وجه خاص، خطرا يتهدد المُجتمع. وقد سرد علينا الكثير من الاقتباسات التي استلّها من أمهات الكتب التراثية، اتفقت في معظمها بضرورة الحيلولة دون ممارسة المرأة للكتابة.
لقد تحدث الغذامي عن القسمة الثقافية كما استنتجها من خلال قراءته للتراث العربي القديم؛ وقد أبرزها في نقطتين: أوّلا أنّ الرجل يمثّل اللفظ/الدال، في حين تمثّل المرأة المعنى/المدلول. وثانيا: يحتكر الرجل الكتابة، أما المرأة فنصيبها هو سرد الحكايات.
لقد بلغ بالنحويين العرب إلى القول بأنّ اللغة مذكّرة، وأنها تنتمي إلى الممارسات الذكورية، لهذا يكون دخول المرأة غمار الكتابة اقتحاما لعرين الرجل؛ إذ كيف يُمكنها استعمال لغة هي نتاج للمركزية الذكورية؟ يقول الغذامي “ليست المرأة فيها (أي في اللغة) سوى مادة لغوية قرّر الرجل أبعادها ومراميها وموحياتها” (المرأة واللغة، ص 8).
تنتمي اللغة في نسق الثقافة العربية إلى الرجل بكل حمولاته الثقافية والسياسية والاجتماعية؛ فالمرأة لا تعدو أن تكون إلا موضوعا لتلك الثقافة وليست طرفا فاعلا فيها، كما هو الشأن لحضورها في الأعمال الأدبية شعرا ونثرا؛ فهي تحضر في شكل موضوع لا في شكل ذات.
وضمن ثنائية الموضوع والذات، كانت رمزية شهرزاد في قصص ألف ليلة وليلة، محاولة كسر هذه الثنائية، حيث أصبحت، أي شهرزاد، صاحبة سلطة على السرد وعلى الرجل في الآن نفسه، وإذا استعرنا تعبير الغذامي دائما، فالحكاية كانت بالنسبة إليها طريقة لترويض الذكورة ممثلة في شخصية شهريار. لكن يبقى السؤال المُحرج: ألا يُمكن أن تكون شهرزاد نفسها صناعة ذكورية؟
وعلى طول التاريخ الثقافي للمرأة العربية، فلقد كانت موضوعا للكتابة أكثر مما كانت فاعلا للكتابة، ناهيك عن أن حضورها اقتصر في نظم الشعر أو سرد الحكايات، وندر حضورها في مجال الفلسفة والفكر والنقد وحتى الفقه.
وفي العصر الحديث، وإلى غاية بداية القرن العشرين كان صوت المرأة غائبا في الثقافة العربية التي كانت تشهد عصر نهضتها، وباستثناء حضورها في فضاءاتها الخاصة، فقد كانت غائبة عن الفضاء العمومي؛ ففي مصر، على سبيل المثال، كان ظهور الكتابات النسائية باهتا جدا، بل لم يكن النشر بالنسبة إليهنّ إلاّ بتفويض من الرجال أمثال محمد عبده وسعد زغلول ولطفي السيد وطه حسين. ومع ازدياد انفتاح المجتمعات العربية على الثقافات الأوروبية والغربية طرأت تحولات كثيرة فيها، ومن مظاهرها اقتحام المرأة للفضاء العمومي، وظهور أصوات نسوية على غرار مي زيادة وباحثة البادية ونبوية موسى، اللائي كتبن عن اضطهاد المرأة في المجتمع العربي (يُنظر: كتاب “النساء يطالبن بإرث الإسلام”، ميريام كوك، ترجمة رندة أبوبكر، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2006).
وفي هذه الفترة، بدأت الشخصيات النسوية تتبوّأ مكانا في سرديات الروائيين العرب، و”سواء أكانت صورهن واقعية أم مثالية رومانسية، قامت النساء بأدوارهن في هذه الروايات، ولكنهن لم يكن يتحدثن بأصوات نسائية عن مفاهيم أنثوية” (ميريام كوك، ص 124).
نفهم هنا بأنّ قمع المرأة تجلّى حتى داخل هذه الروايات من خلال حجب أصواتهنّ وتحويلهنّ إلى مجرد كائنات بلا أصوات. لقد استعار لهن الرجل صوته، وهذا في ذاته ينتمي إلى أفعال الاستلاب. وهنا نذكر رواية “زينب ” لمحمد حسين هيكل، ورواية “دعاء الكروان” لطه حسين التي نشرها عام 1934.
لقد ظهرت المرأة في هذه المرحلة إما كرمز للوطن، أو في صورة العاهرة، “إنّ الشخصيات النسائية التي نالت تصويرا أكثر وضوحاً هي شخصيات العاهرات. ويبدو أنه بسبب وجودهن على هوامش المجتمع، لم يكن عليهن الاندماج في نسيجه كأمهات أو زوجات أو أخوات أو بنات. لم يلمسن للوضع الراهن. لقد كنّ في المجال العام ولكنهن لم يكنّ فيه” (ميريام كوك، ص 129– 130). بمعنى آخر، فإنّ الروائي– الرجل كان السبّاق إلى إعطاء أدوار سردية للشخصيات النسوية في أعماله الروائية، لكنه لم يمنحها صوتا أو أصواتاً.
كان على المرأة إذن أن تتجاوز الكوجيطو الأفلاطوني ”أنا أفلاطون، أنا الحقيقة”، حيث اختزل أفلاطون هذه الحقيقة في شخصه بوصفه ذكرا، ما يستلزم بأنّ الرجل هو حارس الحقيقة، وهو حامل مفاتيحها، مقصيا الصوت الآخر الذي هو صوت المرأة. إنّ معركة المرأة لم تكن فقط لأجل الدفاع عن حقوقها الاجتماعية والسياسية لكن أيضا دفاعا عن حقها في امتلاك الحقيقة وفي امتلاك صوتها الخاص.
صحيح أنّ هناك أصواتا نقدية وفكرية نسوية استطاعت أن تزاحم جوقة الرجل، بل وتفرض نفسها لا بوصفها “تابعا يطالب بحقه في الكلام”، إذا ما أخذنا بمصطلح غياتري سبيفاك، لكن بوصفها ندّا في هذا الحقل.
نودّ في هذا المقال أن نأخذ نموذجا مهما لأحد الناقدات الجزائريات، وهي الدكتورة آمنة بلعلى والتي تُعدّ صوتاً نقديا وأكاديميا نسوياً مهما، ليس في المشهد النقدي والجامعي الجزائري فحسب، بل تجاوز حضورها حدود الجزائر؛ فكتاباتها النقدية والأكاديمية هي من الثراء والتنوّع والأهمية ما بوّأها المقام العالي في ساحة البحث والنقد.
آمنة بلعلى، أستاذة التعليم العالي بجامعة مولود معمري بتيزي وزو، وهي أيضا ناقدة استطاعت من خلال متابعاتها النقدية للمتون الأدبية الجزائرية والعربية أن تُحرّك المياه الراكدة، وتدفع بالممارسة النقدية إلى مستوياتها العالية، حيث يتمازج الطرح الأكاديمي المنهجي من حيث مقارباته العلمية الدقيقة بالأسئلة النقدية والثقافية الحيوية التي تمسّ الإنسان والخطاب في الجزائر.
ويُعرف عن الأستاذة بلعلى تخصصها في مناهج تحليل الخطابات الأدبية والثقافية، متجاوزة الإطار النظري الصارم لهذه النظريات، لأجل استنطاق النصوص الأدبية من الداخل. ولها مؤلفات عديدة ومتنوعة منها “المتخيل في الرواية الجزائرية من المتماثل إلى المختلف” (2011)، “تحليل الخطاب الصوفي في ضوء المناهج النقدية المعاصرة” (2010)، “سيمياء الأنساق: تشكّلات المعنى في الخطابات التراثية” (2013)، “أثر الرمز في بنية القصيدة العربية المعاصرة” (1995)، و”تجليات مشروع البعث والانكسار في الشعر العربي المعاصر” (1995).
تحظى بلعلى باحترام في الوسط الجامعي أساتذةً وطلبةً، فقد كان لها الفضل في تكوين أجيال من الباحثين، صاروا اليوم ينشطون في الجامعات الجزائرية والعربية، لتكسّر بذلك احتكار الرجل للكتابة النقدية.
إنّ المتتبع لكتابات بلعلى يجد تنوعا مثيرا، فهي لا تجد صعوبة في الانتقال بين النص التراثي بأسئلته القديمة، وإشكالياته المتعددة وبين النظريات الحديثة والحداثية التي اقترحت أدوات جديدة لمقاربة الخطاب المعرفي قديمه وحديثه؛ فقد كتبت عن التصوف كتبا ومقالات، كما كتبت عن المتخيّل في الرواية الجزائرية بتقديم قراءات في متون روائية جزائرية وتحليلها تحليلا منهجيا عميقا. كما كتبت عن أنساق الثقافة العربية، وهي فضلا عن ذلك لها حضور في المجلاّت، سواء أكانت جامعية أم ثقافية، محلية أم عربية. إنها تمثل الصوت العميق للمرأة الناقدة التي نسفت الكثير من الأحكام الجاهزة في أن المرأة لا يمكن لها أن تفكر منهجيا، ولا يمكن لها أن تخوض في قضايا النقد والكتابة فيه.
تعرّضت آمنة بلعلى في كتابها “سيمياء الأنساق: تشكّلات المعنى في الخطابات التراثية” إلى واقع النقد العربي المعاصر، الذي وصفته بالواقع المأزوم أو المريض؛ وقد أرجعت الأسباب إلى غموض الخطاب النقدي العربي، حيث فقد قدرته على التواصل بالقرّاء. هل نشتمّ، عبر هذه الكلمات، رائحة نقد خفي للنسق الذكوري الذي يمثله المصطلح النقدي الذي ينتمي إلى المؤسسة الذكورية؟ فبغموضه وانغلاقه يصبح النقد مأزوماً، لتأتي امرأة ناقدة، تكشف عن بواطن الأزمة.
لقد انتقدت بلعلى اضطراب المصطلح النقدي واختلافه من متن نقدي إلى آخر، وكذا هيمنة الثقافة الغربية على وعي النقاد العرب، ثمّ عجز هذا النقد عن إقامة علاقة سليمة مع الواقع/النص العربي، ووصفت هذا الإشكال بأنه تاريخي، وفسرته بأنه “نتاج طبيعي لسيرورة الثقافة العربية، ولكن هذه الطبيعة لا تعني الصحة والسلامة فهي بمعنى أدق تصف الحالة ولكن لا تبرّرها” (سيمياء الأنساق، ص 12).
وأمام حتمية “الحداثة”، فليس شرطا أن تنغرس هذه الأخيرة بالقوة في التربة العربية دون مراعاة للشروط الثقافية للمجتمعات العربية. في هذه الحالة، ستغدو الحداثة المفروضة عائقا أمام التحديث والتطور.
إنّ السؤال الأساسي بالنسبة إلى بلعلى يتمثل في البحث عن كيفية جعل الأدب والنقد الأدبي العربيين يؤديان وظيفتيهما التقنية والثقافية، ثمّ كيف يمكن بناء نقد عربي غير منقطع عن تراثه وغير منفصل عن واقعه.
علاقة النقد الأدبي العربي بالمناهج والنظريات الغربية تطرح مشكلات كثيرة، منها أنّ التعامل معها كان في منأى عن سياقها الكلّي، وعدم ربط الجزئيات المفكر فيها بالكليات الصادرة عنها، حيث كثيرا ما تكون الظواهر الجزئية محطّ انهماك نقدي قد يصل إلى درجة التعصب أكثر من واضع تلك النظريات والمناهج. تقول بلعلى “ولعل هذا التعصّب هو الذي أنتج مشكلات في تعاملنا مع المناهج المعاصرة كالإخلال مبدأ الشمول، والسقوط في الانتقاء والتبعية للغرب أو الرفض” (سيمياء الأنساق، ص 13).
تحدثت آمنة بلعلى عن السيميائيات التي توغلت داخل الثقافة العربية؛ حيث تقول إنّ هاجس السيميائيات هو البحث عن مبادئ عامة تنتظم الأنساق الدالة وفقها، وهي تطّلع إلى مختلف الأنظمة الخطابية والتواصلية وإلى مختلف الثقافات، إلا أنها تأسست على مرجعية فكرية غربية تمتد إلى التراث اليوناني. هذا ما دفعها إلى تبنيها لأجل الكشف عن تصورات العرب المسلمين عن العلامة والدلالة ضمن أنساق الثقافة العربية.
ومن بين التساؤلات التي واجهتها “كيف يُمكن أن أنظر إلى الأنساق التراثية سيميائيا، وهل يكفي التعرّف على النظريات الغربية في مجال علم السيمياء حتى يكون الطريق يسيرا لإعادة قراءة هذه الأنساق وتشكلات المعنى فيها؟”( سيمياء الأنساق، ص 15).
يهدف كتابها إلى إعادة تأويل المعرفة التراثية وخطاباتها باعتبارها أنساقاً دالةً صيّر لها أصحابها جهازا منهجيا متكاملا. وتقول إنّ نظرتها إلى مباحث التراث هي نظر في طبيعة اللغة الواصفة التي اصطنعها علماء العربية في فهم كيفية تشكّل العلامة، وإدراك طريقة إنتاج المعنى وتبين السبيل المؤدية للدلالة.
إننا أمام كتاب ذي حمولة معرفية ونقدية لا يستهان بهما، ينطلق من رؤية أنثوية عميقة لإشكاليات عويصة كانت حكرا على الرجال، في حين أنّ الأستاذة آمنة بلعلى فرضت صوتها النقدي بجدارة.