أرض الخيرات الملعونة
زيتونة
السلام عليكم ومباركة ثماركم المقدسة في كلّ حين.
هكذا علموني أن أحيّي كلّ جديد. أنا شجرة زيتون لكني أحبذ أن تنادوني باسمي الأصلي، زيتوني، كما يناديني إلياس الذي تولى تربيتي، وليس بالاسم المحلي -زيتونة- الذي أعطاني إياه جارنا الأب جورج، إذ تتدلى بعض أغصاني على سياج كنيسته الصغيرة التابعة للدير الذي وصلت عصابات الهمج براياتها السوداء لتهديمه قبل أسبوع.
حفظت قصتي عن ظهر قلب: جاء جدي إلى هذه التلال قبل سبعين عاماً وهو ما يزال نبتة يافعة. إلياس الرجل العجوز الذي ترعرعت في حديقته الخلفية طوال حياتي. كان قد جلب جدي معه من قرية زيتون صغيرة على البحر تبعد أميالاً كثيرة من هنا. قيل إنها كانت رائعة الجمال، عليلة المناخ، ولها تربة من ألذّ ما ذاقت الأشجار. قيل أيضاً إنها هدمت، وقُتل رجالها فلاحو الزيتون، واغتُصبت نساؤها صانعات الزعتر، وشرّد من نجا من الاثنين خارج البلاد ليتشتتوا لاجئين في كافة أصقاع الدنيا ما تبقى من حياتهم.
كان جدي إذن نبتة لاجئة مثل إلياس الذي هرب بجلده وبغصن جدي. أما أنا وأبواي وإخوتي فلم يتسن لنا زيارة بلاد أجدادنا الأصلية على الإطلاق. في طفولتي حين كنت أناشد جدي ليردنا إلى بلادنا كان ينهرني بخشونة ثم يواسيني برفق قائلاً إن عليّ أن أشكر الله على نجاتي. لولا هذا السفر الطويل شرقاً طلباً للغربة المحتملة في أرض النخيل الآمنة لوقعنا في أيادي المحتلين الغرباء ولانتهينا في بستان جماعي مع شتى أنواع الشجيرات الدخيلة الوافدة من كافة قارات الدنيا. تلك التي جاءت تزاحمنا، بل تقتلعنا من أرضنا. تلك التي لا تمتّ لنا ولتاريخنا العريق في أرض الوطن بصلة.
لا أدري. لم ألتق بنباتات السوء هذه حتى أكوّن رأيي الشخصي بها. وأحيانا أتساءل إن كان هذا القدر بالفعل أشد سوءا من الأمر الذي حلّ بنا وبأهل الدير منذ قدوم القتلة الأصوليين.
أما إلياس فقد كان يتجنب الكلام عن أصلي وفصلي. حين يسأله الناس من أين أتى بي كان يمازحهم قائلا “هي زيتونة لا شرقية ولا غربية”.
كان يفضّل الاختلاء بي على الثرثرة مع أهل القرية الطيبين. يجلس تحت الظل الضئيل لفروعي بين الحين والآخر حين يغادر جميع أهل الدار ويبكي. يقول إن قريتي محيت من الخارطة، وإن أرضه -موطني- لم تعد هناك بعد اليوم (كيف يمكن لأرض أن تختفي؟). يسترجع ذكرى أجدادي الذين أحرقوا واحداً فواحد ويأخذ بالنشيج. يصرخ متسائلاً: إن الذنب لم يكن ذنبهم فلماذا أحرقوهم؟ ما الذي صنعته بكم أشجار الزيتون لتحرقوها؟ يحاور العدوّ الغائب ثم يحاورني. يعرف كلّ أسمائنا ويقول إننا كنّا ملك أجداده الذين دفنوا هناك. يقول إن الأرض تعود لنا ولأجداده منذ الأزل رغم اغتصابها واندثارها هي وأغوار الزيتون.
يترك التلفاز مشتغلاً على أعلى صوته في الداخل ويخرج يناجيني. يبكي على ماضيه السليب ولا يأبه بالذي يسلبونه منا اليوم هنا. لا يبدو أنه قادر على استيعاب كارثة ثانية رغم أنه يعيشها بحذافيرها اليومية. كارثته الأولى كانت قد استحوذت على فكره بالتمام، لتقيه غلالتها الكثيفة من كلّ الكوارث اللاحقة.
أحياناً حنين إلياس للوطن يصيبني باليأس والقنوط. لم أر الأرض التي يتحدث عنها قط ولا أظن أني سأفعل، رغم أن المناخ هناك، وفقا لإلياس، هو أنسب بكثير لي. لا أعرف أجدادي الذين يثيرون بكاءه ولا تمدني بهم صلة مادية محسوسة. أستشعرهم من الحكايات فقط. يعدّل من جلسته على التختة الصغيرة ويسترسل مكملاً كلامه كأنه يحدث نفسه: مع أن الجميع كان يكدح ويكدّ وفي المحصلة بالكاد يسدّ رمقه ورمق أطفاله، إلا أن الحياة كانت أكثر عزة وحلاوة وسهولة.
ما أقسى الغربة وما أقسى أن نعيش في بلد المضيف المجزأ اليوم. لا أملك مفتاح داري القديمة كما يفعل إلياس. ولا حتى أملك ذكرياتي الشخصية عما هو وطني الأول. أما وطني الجديد فهو ليس وطنا. لا أحد يريدنا هنا. قالوا إن طاغيتهم كرّمنا بالضيافة وهو يطيح إهلاكاً بشعب البلاد. ثم قالوا إننا عملاء. ثم قالوا إننا لا ننتمي بسبب إيماننا المغاير. لو كنت من البشر لقلت: ليس لي أي إيمان أو ولاء فاتركوني وشأني وتباً لكم!
الأب جورج يلوّح بكفيه الوديعين لإلياس، ويستفسر عن صحته عبر السياج بعد قداس الأحد كلّ أسبوع. وفي أسابيع ما قبل عيد الفصح يأتي بالأولاد إلى الحديقة، يبدأون بتقليم فروعي الواطئة ليزينوا بها جدران الكنيسة، ويبتهلون للعذراء بأنفاس وريقاتي. وفي أحد الشعانين -الذي يسمونه هنا سعانين- يجلبهم منذ الصباح الباكر ويقول لهم خذوا من فروع هذه الزيتونة وتقدّسوا فقد أتت من عند أرض يسوع المسيح. ثم يجلسهم القرفصاء في حلقة تحتي ويلاطفني وهو يحكي لهم قصص الإنجيل عن الزيتون. يقول لهم:
– كان جبين يسوع ممسوحاً بالزيت. هكذا ميّزه تلاميذه عن غيره من الدجلة المرائين.
ثم يلاحظ أن إلياس يسترق السمع لحديثه مع الأطفال فيستأنف ويضيف:
– وفي سفر الخروج ذكرت زيتونة إلياس هذه حين كلّم الله موسى قائلاً “أمر بني إسرائيل بأن يقدموا إليك زيت الزيتون لإشعال السراج على الدوام”.
أحياناً يلاحظ الأب امتعاض إلياس من هذه الاقتباسات والوقع المباشر لهذه العظة فينتقل بغتة إلى حكاية أخرى من أحاديث الزيتون في الكتاب المقدس:
– إن يسوع من أطلق عليه اسم الزيت المراق ولذلك أحبّته العذارى.
ينتهي الأب جورج من دروسه “الزيتونية” فيأخذ الأطفال ويهمّ خارجاً بعد الاستفسار عن صحتي والغذاء الذي يعطيني إياه إلياس. يربت على ذراعه ويقتبس مقولة حول الزيتون من كتابه المقدس للمرة الأخيرة قبل أن يودعه:
– تذكر يا إلياس قول موسى عليه السلام “لا تقطفوا شجرة الزيتون حتى آخر حبة، بل أتركوا عليها بعض ثمارها ليأكل منها الناس والطيور والحيوانات البرية”.
والحق يقال، لم يقصّر إلياس بحقي يوماً. يعتني بي وكأنني ابنته. يوفّر لي الأسمدة والرّي وما أحتاج من نظافة من حولي وضوء وفيء وحكايات. يقتطف ثماري بأقصى عناية ويصنع منها أشهى مخللات القرية شتى. يهرس النوى بعد تجفيفه ويطعمه للدجاجات علفاً شهياً. وقد اشتهر بوصفته الخاصة التي صارت تقصده من أجلها نساء القرية. ومع ذلك، ورغم كرمه وإسهابه في شرح التعليمات مع كلّ موسم قطاف، يقال إن براميل ثماري ظلت هي الأشهى في القرية، بل في كافة ضواحي السهل!
أحياناً، بعد صباح من العمل المضني من حولي، يمسك إلياس بمفتاحه المصدأ ويضغطه بقوة على وجهه ويبكي. يريد الرجوع. لمَ لا؟ ألا يمتلك مفتاح داره؟ أقول هذا رغم أني أعرف في قرارة جذوري أنه إذا رجع فسيتخلّى عني، سيتركني هنا في هذه الأرض القاسية. أحيانا يقول، بنبرة موسيقية عذبة، بأننا سنرجع يوماً. يقول إن عندليباً حدثه بالأمر رغم أني لم أشهد أيّ عندليب في هذه الحديقة وقد قضيت جلّ حياتي هنا! أقضي هنا أكثر بكثير من الوقت الذي يقضيه هو في الحديقة. أحيانا أتساءل، وقد أكون على خطأ، إن كان أمر حق العودة برمّته خدعة من خدع البشر الكثيرة؟ وأتساءل أيضاً إن كان يحاول خداعي أنا أم مخادعة نفسه؟
القوش 2015
*************
عنبر
لست قيء الحوت الذي يحضّرون به العطور بل أنا حبة رز، أو “تمّناية” كما يسمونني هنا. وهناك، حيث ولدت قرب شط المشخاب، كانوا يسمونني شِلِب حين يتباركون بزهوري العطرة ويشبّهونها بالعطور العنبرية. لو تركتكم تخمنون مكاني الحالي لما حزرتم حتى حلول الجمهورية الثانية.
بديهياً، كان مكاني الأول في الأرض المستصلحة. أتوا بي في كيس الخيش المكتنز من طريق النجف هدية لهذه العائلة التي ستحل بها النكبة بعد قليل. جلست في مخزنها المظلم الرطب أنتظر أن تجيء ساعتي في قدر التمّن النحاسي على موقد الحطب مع آلاف حبات العنبر الأخريات لكنني انتقلت بين ليلة وضحاها من تلك الأماكن الأليفة المأهولة بالرز إلى أبشع حالة من حالات العزلة. وانتهى أمري في مقبرة جماعية للبشر. وضعت في قلب موقف كبير للعربات. كيف؟ تتساءلون.
يوم نضوجي على النار: كما هو الحال في كلّ حفل، استيقظت البنات والنسوة قبل الرجال بكثير. صلّين صلاة صباح العيد شاردات الأذهان إلى غبطة اللمة ولقاءات العيد التي قد تؤول إلى قصص الحب أو الزواج ثم احتشدن في المطبخ لتحضير الوليمة استعداداً لمراسيم البار متسفا. كان اليوم هو عيد الشفوعوت أيضاً، إذ قرر والدا شمعون ضرب عصفورين بحجر. اعتزما إدخال ابنهما ذي الثلاثة عشر ربيعاً إلى عالم الفرائض والشريعة في يوم الاحتفال بالأسفار الخمسة اقتصاداً بالمؤونة التي شحّت على أسر الحوش الستّ مع استمرار حرب العالم.
طبختني تمارا، ابنة العم الأكبر لشمعون، في القدر الكبير. نضجتُ ونضجتْ حبات العنبر البيضاء من حولي وفاحت رائحتنا الزكية بكلّ ما في صحن التبيت من لحوم وتوابل، في حين كان رجال البيت ما زالوا يغطون في نوم عميق بعد سهر الليلة الماضية في كنيس مئير طويق لتلاوة نصوص التوراة وترتيل أناشيد العيد. ظهراً بدأ الضيوف المقرّبون بالوصول وجلست سلال الفواكه وصحون الألبان الضحلة تنتظر طقوس أكل المساء. وقفت قربها الصغيرة مريم تبعد عنها الذباب والبعوض حين كادت الوليمة تحضر ويوضع طبق التبيت -طبقي- على المائدة قرب أطباق الخضار والمقبلات وصحون العيد الأخرى. فجأة تعالت أصوات الصراخ من البيوت المجاورة. صراخ الجيران ورصاص المعتدين. بعد نقاش وجدال وبكاء تحوّل إلى همس وتوسل قفل رجال دارنا على نسائهم وأطفالهم في القبو وفروا هاربين.
علقت بأسفل جورب شمعون المثقّب وهو يفر حافيا من الحوش. ركض الغلام لاهثاً عبر الطرقات يبحث عن شرطي أو مسلم ينجده وأهله من المجزرة، وأنا معه أتطاير. رأيت طوابير المفرهدين تعبر من الرصافة الى الكرخ ومن الكرخ إلى الرصافة. جوقات محمّلة بغنائمها أو تعتلي معاصمها السيوف، حشود تهوّس باهتياج:
حلو الفرهود كون يصير يومية!
في العشية، حين أجهزوا عليه، كنت قد انهرست إلى لطخة لزجة كريهة على باطن جوربه الأسود المثقوب، بدلاً من صعود جبل سيناء الأخضر في عيد البواكير هذا، أنزلونا تحت الأرض المقفرة في الحفرة التي حفروها لإيوائنا جميعاً بعد أن ارتوى عطشهم للدماء وحلّ الندم والخزي محلّه.
أزيلت المقبرة وطاقها الطابوقي ما أن توارى عن البلاد كلّ ذي صلة بالموتى وأعيَت ذكرى المجزرة ما تبقى من قومها العربي المضطرب. لكنني والجورب المهترئ تحللنا هناك، حيث جاءت دماء أخرى تتوالى على موقعنا بين الموسم والآخر. وكأن أحدهم استجاب لدعاء ملزم وصار يعيد ويلحّ على أبناء البلاد:
حلو الذبح كون يصير يومية!
گراج النهضة 1941 تصدر عن دار بانيبال بالعربية ديسمبر 2019 وبالإنكليزية في ربيع 2020