بيروت أيقونة الحداثة العربية
بيروت المدينة المحبوبة من جميع العرب ولها في وجدانهم المحل الأرفع بين مدن المغامرة الأدبية والفكرية يتطلع إليها من مدينته العربية كل شاعر وروائي وفنان، فهي عنده مدينة الحرية المدللة بين المدن.
***
لطالما كانت بيروت مدينة عربية ثائرة على السائد، ولها قصب السبق في استقبال أحدث الأفكار والموضات الأدبية، وكل ما تجود به الثقافت الغربية من حركات وظواهر جديدة لا سيما في فرنسا، إن عبر الترجمة والنشر، أو عبر التواصل المباشر بفعل ارتباط جزء أساسي من ثقافة لبنان بالحركة الفرنكوفونية، لا بل إن عدداً من الشعراء والأدباء اللامعين في فرنسا كجورج شحادة وصلاح ستيتية وفينوس خوري غاتا هم من أصول لبنانية. بينما يمكن النظر إلى جبران خليل جبران وأمين الريحاني وهما كاتبان عبقريان يتمتعان بخلفية شرقية بامتياز، بوصفهما كاتبين ملهمين في الثقافة العربية، بل إن جبران تحول إلى أيقونة ثقافية في العالم على إثر صدور كتابه “النبي” الذي طبع مئات المرات بالإنكليزية، وترجم إلى عشرات اللغات.
احتضان الجديد ورعايته ليس عملاً دخيلاً على اللبنانيين، بل إنه نزوع كامن في صلب هذه الشخصية المحبة للحياة، المنفتحة على العالم والمرحبة بالاختلاف.
***
منذ أواسط الخمسينات كانت بيروت قد بدأت تتحول إلى عاصمة للشعر الجديد، وملجأ للشعراء العرب المحدثين الباحثين عن الحرية في الكتابة والحياة. وقد شجع على ذلك وجود صحافة أدبية مزدهرة تمثلت خصوصاً في مجلتي “الآداب” لسهيل إدريس و”شعر” ليوسف الخال. وهما المجلتان اللتان احتضنتا بكفاءة لافتة حركات التجديد الشعري، وشكلتا تيارين متنافسين تفاعلت من خلالهما أدوار الجديد وتكاملت خلال عقدي الخمسينات والستينات.
***
شعراء عرب مرموقون هجروا بلادهم، ولاذوا بلبنان، أو هرَّبوا قصائدهم إليها مع المسافرين، أو هم زاروها حصة من الوقت، أو وصلوا إليها خلسة طلباً لهواء الحرية، تاركين وراءهم عواصم كانت عريقة في علاقتها بالثقافة المدينية، ومتفائلة في تطلعاتها الحداثية، ولكنها، باتت وبنوع من القدر الأعمى، ضحية لانقلابات عسكرية متتالية حملت دباباتها إلى قصور الشعب حكاما عسكريين جهلة وقساة أعملوا في مجتمعاتها آلة القمع فصادروا الحريات العامة، وفرضوا على الناس ثقافة القطيع. ازدهرت الرقابة وطالت الكلمة الحرة والكتّاب الأحرار، ولم تلبث الصحف المستقلة أن اختفت وحلت محلها الصحف الرسمية ذات اللون الواحد، وقد طال هذا العمل الانقلابي كلاّ من مصر وسوريا والعراق وهي أبرز بلدان المشرق العربي، وكانت حتى مطالع الخمسينات ماتزال تشكل مع لبنان العواصم المنتجة للثقافة الحديثة في المنطقة.
***
على هذه الخلفية الكارثية، لعلب لبنان دوره البارز والكريم في حياة الهامش الثقافي العربي المتصارع مع شتى أنواع السلط الدكتاتورية العسكرية والعشائرية، فاحتفى اللبنانيون بأبرز شعراء العربية المجددين ممن حققوا خلال عقدي الخمسينات والستينات مكانة شعرية، ومن شرفة بيروت، لمعوا كنجوم في سماء الثقافة العربية، فكان نزار قباني ويوسف الخال وأدونيس وفؤاد رفقة وعبدالباسط الصوفي وعلي الجندي ومحمد الماغوط (من سوريا) وتوفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا وسلمى الخضراء الجيوسي ومحمود درويش (من فلسطين) وبدر شاكر السياب وسعدي يوسف، (من العراق). وغيرهم كثر. ولسوف تشهد سنوات السبعينات وحتى مطالع الثمانينات جيلاً جديداً من الشعراء كسركون بولص من العراق، وسليم بركات من سوريا. وقد نشرت مطابع بيروت ما عجزت مطابع بغداد ودمشق عن نشره، بفعل جرأته الإبداعية أو الفكرية ومعارضته للسائد السياسي خصوصاً.
وعلى مدار نصف قرن من الصراع الثقافي بين القديم والجديد انتصرت بيروت من اللحظة الأولى للجديد، فاستقطبت ندواتها السجال الجمالي والفكري في الشعر، وقدمت منابرها للشعراء وقصائدهم وقضاياهم، وأفردت صحافتها الصفحات بمنتهى الحرية للسجال في قضايا الشعر الحديث وتطلعات الشعراء، وخاضت بشجاعة معارك حرية التعبير في مواجهة آلة القمع العربية المتغوّلة. كيف لنا أن ننسى أن الكتاب الذي يمنع في أيّ بلد عربي لا يجد ناشراً له إلا في بيروت، والأديب الذي يضطهد في وطنه لا يجد له مأوى ولا نصيراً إلا في بيروت!
***
لقد تفوقت بيروت على كل العواصم العربية في احتضان المجددين ورعاية الجديد والدفاع عن حق الشعراء في الحلم والحرية. وقد قرنت بيروت هذه الخصال الحميدة باستقبال المقاومة الفلسطينية عندما لم تعد هناك جغرافيا تستقبل الحلم الفلسطيني بالعودة، وأسست المشاريع الثقافية الأهم التي نظرت لحركات التجديد الفكري على جانب الأدبي، فربطت الكتابة والتعبير الأدب والفني بالحركات السياسية والتطلعات المجتمعية بطريقة مبتكرة وخلاقة. وعندما كسر الاحتلال شوكة المقاومة لم يتمكن من كسر شوكتها الروحية وكرامتها الأخلاقية، وسرعان ما ابتكرت بمقاومة المدينة السلمية والمسلحة دروبا وطرائق خلاقة. كنت في بيروت عندما حوصرت سنة 1982 وكذلك عندما غدرت بها الأمم الكبرى وتركت الإسرائيليين يحتلون المدينة. في تلك الأيام قاتلت بيروت بأسنانها وانتصرت على الاحتلال، بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن الرابطة العربية كلها ورغم الخذلان العربي، نهضت بيروت مجددا.
لم تترك بيروت لقدرها المأساوي، ولهيمنة الطبقة السياسية الفاسدة بالأمس القريب، ولكن ذلك حدث منذ زمن بعيد. أولا عندما تغوّل وكلاء الشركات التجارية، وثانية عندما صادر حاضرَها المدني الاجتماعي والثقافي مشروعٌ ثيوقراطيٌّ خارجي عسكر جزءاً من الاجتماع اللبناني وجعله قطيعا يأتمر بأمر الخارج. وثالثا عندما تحالف الطرفان الخارجي والداخلي وهيمنا على الحياة اللبنانية بأسرها.. وأوصلا الشعب اللبناني إلى اللحظة الفارقة التي انعدم معها الخلاص في ظل الصيغة الطاغية، وبات من المستحيل على الناس الجلوس في البيوت فخرجوا إلى الشوارع ليتخلصوا من كامل الطبقة السياسية الحاكمة وعلى رأسها وكلاء الخارج.
ولقد رأى العرب والعالم كله درجة التحضر الاجتماعي التي عبّرت عنها تحركات الللبنانيين في الشارع ، بل إن مظاهر الاحتجاج عبرت عن صلابة الموقف والنزوع إلى الابتكار معاً.
***
في هذا العدد حوار مع ابن بيروت الكاتب والروائي الفرنكوفوني أمين معلوف يتحدث فيه عن اللحظة العالمية الراهنة انطلاقا من كتابه الجديد “غرق الحضارات” ومقال عن ثقافة الاحتجاج اللبناني مقرونا بملف للصور ورسوم الحائد (الغرافيتي) للناقدة والفنانة التشكيلية ميموزا العراوي، وملف شعري تحت عنوان “الشعراء لم يغادروا بيروت” وهي طريقة في توجيه التحية للمدينة العربية الثائرة اليوم انتصارا لعروبتها ومدنيتها معا، وقد انتهكتا بطرق شتى خلال العقدين الماضيين، خصوصا مع تفاقم مظاهر إلحاق لبنان بالمشروع الثقافي الإيراني الثيوقراطي، وهو ما أخذ يسلب بيروت وجهها الحداثي العربي، ويحولها إلى موقع متقدم في عملية واسعة استهدفت الثقافة المدنية العربية التي اعتبرت بيروت أبرز عواصمها، وذلك من خلال مشروع ظلامي تزيّا بزيّ المقاومة وتوارى وراء أقنعتها.
ليس أدل على قيمة الشعر وابتكاريته من ملاقاة نبرته الثائرة لأصوات الشارع الثائر بلغة جديدة، وقد ملأت ساحات بيروت وطرابلس وصيدا وصور وبعلبك وسائر المدن اللبنانية شرقا وغربا وشمالا وجنوباً، وشق في غضبه سبلا مبتكرة للتعبير عن رفضه القهر الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي ألحق بالناس. شاعرات هذا الملف وشعراؤه قدموا بدورهم من جهات لبنان الأربع.
لندن - نوفمبر/تشرين الثاني 2019