التخطيط المسبق لكتابة رواية
التخطيط الجيد يساعد المبدع على الكتابة وفقاً لجدول زمني محدد، وأيضاً إيجاد الوقت اللازم لمراجعة النص وتجويده قبل النشر. في حالة كتابة رواية على سبيل المثال، فإن كاتبها سيحتاج إلى فترة طويلة نسبياً من التحضير قبل الشروع في كتابة السطر الأول منها. التحضير الجيد المتأني سوف يساعد الروائي على إتمام روايته. أيضاً لا بد أن تكون حبكة الرواية على الأقل واضحة في ذهن الروائي، لكي يتمكّن من رسم مسار صحيح درامياً لأحداث روايته، والإمساك بزمام المنطق الروائي من الصفحة الأولى وحتى الصفحة الأخيرة. إذا أنت جالست أحداً ولاحظت أن كلامه مفكك ويفتقر للمنطق، فإنك ستشرد بذهنك بعيداً. لقد التقيت بالعديد من الأصدقاء الذين انغمسوا في كتابة عملهم الروائي الأول، ولكنهم لم يتمكنوا من المتابعة. وأظن أن السبب يعود إلى أنهم عندما شرعوا في الكتابة كانت البداية واضحة في أذهانهم، لكن بعد مسافة من الترحال في مملكة الخيال، ربما بعد كتابة 40 أو 60 صفحة يشعرون بفقدان الاتجاه. هذا يشبه انطلاق سفينة من ميناء معين لكن دون وجهة محددة. سوف تمخر عباب البحر لكنها لن تصل إلى أيّ مكان. يحتاج العمل الروائي إلى أن تكون النهاية واضحة في ذهن المؤلف، إلا إذا كان مرتاحاً لنهاية مفتعلة، أو قفلة تقليدية منقولة مثل قالب جاهز.
أحد أسوأ أشكال كتابة الرواية هو استخدامها كوسيلة مواصلات لنقل أطروحاتنا إلى الجمهور. تصبح الرواية بيد البعض مجرد “دابة” تحمل أفكار المؤلف، وهو يسوقها بالعصا ليبيع حمولته في الأسواق. هكذا يبدو لي الأدب الذي يتبع خطة أيديولوجية واضحة المقاصد. قد يحسب البعض أن “الرسالة” التي تتضمنها الرواية كافية للحديث عن معمار روائي ما، لكن هذه مغالطة، لأن المعمار الروائي لا يدخل في حسابه المحتوى. ومهما كانت الرسائل التي يتضمنها المحتوى سامية ونبيلة، فإن ذلك لا يشكل وزناً يُضاف إلى القيمة الفنية للرواية. وكمثال فإن معظم ما أُنتج من روايات تندرج تحت مسمى “الواقعية الاشتراكية” تعاني من التكرار واستنساخ المعمار الروائي. وهذا يذكرنا أيضاً بالعمارة الستالينية، حيث أنشئت المدن السكنية والمباني الحكومية بطراز جاف متماثل، ولم يكن للمهندسين المعماريين مجال لإطلاق العنان لخيالهم، وسميت هذه المرحلة من تاريخ العمارة في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية بـ”الواقعية الاجتماعية”.
وإذا أردنا أن نتحرى الدقة، فإن 99 بالمئة من الروايات التي تُنشر في بلداننا العربية تعاني من هذه المعضلة، أي صدور روايات متشابهة تذكّر على نحو ما بنمط العمارة الستالينية الجامدة. يمكننا أن نلتمس العذر لبناة الحوائط والسقوف لأن هدفهم نفعي، أي تلبية حاجة الإنسان للسكن، لكن بالنسبة إلى الروائي ما هو عذره الذي يعتذر به؟! إذا هو ضحى بالجانب الجمالي -وهو هنا المعمار الروائي- والفني لأجل أن يقدم لنا منفعة معنوية، فائدة تثقيفية، فإنه في واقع الحال لا يصلح لكتابة الرواية، ولكن لكتابة المقالة. والمقالة، كما نعلم، تزيح جانباً كل غرض جمالي، وتهتم أولاً وأخيراً بالوضوح والبساطة وحسن العرض لتوصيل منفعة معينة للقارئ. فلا أحد مثلاً سيفكّر في قراءة مقالة لغرض المتعة أو إشباع غريزة الجمال.
بالنسبة إلى الشاعر يمكنه الاتكال على ومضة الإلهام، والاستسلام تماماً لمزاجه الشعري، ومن ثم يمكنه التقدم في مشروعه الإبداعي دون أن تمس الحاجة إلى التخطيط المسبق، وابتكار معمار خاص يتم التحضير له بتؤدة.
والشعر الحديث، وبالأخص قصيدة النثر، فعل لاإرادي، وسوسة تنبت في ذهن الشاعر كما تنبت الورود في الطبيعة. فالوردة ليست لديها خطة مسبقة لتصبح وردة، ولكنه شيء يتشكل في الطين على مهل وضمن تدفق زمني محتوم.
قرأت أن شعراء كباراً في الغرب يكتبون الشعر يومياً، لكن هذا أمر غير مناسب لطبيعة الشعر الذي ينفر من الكتابة الاحترافية، ويُقاوم المنطق وسلطة العقل. إلا أننا نستنتج من هذا الاشتغال اليومي أن هناك نوعاً من “المعمار الشعري” الذي يستهلك طاقة كبيرة من الشعراء الأوروبيين والأميركان، ولأجله يضحون بمقادير هائلة من أوقاتهم. وهذا قد يضعهم على قدم المساواة مع نظرائهم الروائيين، من حيث الحرص والتفاني في تشييد بناء مُحكم للنص الإبداعي. وربما أقرب مثال يرد للذهن قصيدة “الأرض اليباب” للشاعر الإنكليزي توماس إليوت.
من الأمور اللافتة للانتباه أن الشعر العربي في عصر ما قبل الإسلام وفي صدر الإسلام كان لا يخلو من مقدمة طللية تتغزل بالحبيب، ثم يلي ذلك التمهيد دخول الشاعر إلى غرضه الشعري. وهذا يضعنا أمام تفصيلة من تفصيلات المعمار الشعري التي تبين أن الشعر الكلاسيكي كان يسير وفق هيكل بنائي متفق عليه. لكن بمرور القرون، وبسبب استنساخ هذه الخطة الشعرية من جميع الشعراء، جف ماء الشعر، وتحولت القصائد إلى شيء شبيه بالعمارة الستالينية الخالية من روح الابتكار.
الروائي إذا حاول التشبه بالشاعر وطريقة عمله، أي الاعتماد على الإلهام واللغة الشعرية الفخمة، فإنه سيهوي إلى هاوية الارتجال ومحاولة إبهار القارئ بالصور الشعرية، وسوف يتضخم صوت الأنا على حساب خفوت أصوات الشخصيات الأخرى في الرواية. حينئذ ستولد الرواية ميتة، وسوف تدفن تلك الجثة سريعاً.
إن الروائي يحتاج إلى تحكم عقلي وتركيز فائق لينجح في خلق شخصياته وإيجاد مصائرها، وبناء حياة كاملة لها من العدم. كما أن عليه أن يكون محايداً، ويزيح أناه الخاصة إلى الخلفية، تماماً كما هو حال المهندس المعماري في الواقع، فهذا الأخير لا يستحوذ على كل العمل، بل على العكس، يترك المجال للآخرين ليقوموا بأعمال البناء، وينزوي هو في مكتبه بعد أن رسم الخرائط اللازمة لإنجاز العمل.
ويبدو لي أن الروائي الحاذق بحرفته يجدُّ في مسألة التخطيط المسبق، والتحضير الطويل لمادته الروائية، وهذا ما سيمنحه القدرة أثناء شروعه في الكتابة على تكوين عالم فريد من نوعه، يعج بالشخصيات المتباينة، والأحداث التي تلتحم ببعضها في نسيج واحد كسجادة كثيفة العقد، وذات تصميم أصيل وألوان زاهية تخلب الألباب.
التغذية الثقافية
ينجذب كثيرون إلى أضواء الأدب، وتنتابهم رغبة جارفة في الانضمام إلى هذه الجغرافيا السحرية، ونيل حق المواطنة فيها ككتّاب مُقدَّرين ومستحقين للامتيازات التي تضفيها عليهم هالة الأدب.
لكن ما يحدث لهؤلاء المجذوبين، بعد نشرهم نصوصهم الأولى، هو شعورهم بالعجز عن فعل شيء أكبر. يصطدم “مجذوب الأدب” المستجد بجدار قدراته المحدودة، ويجد نفسه محبطاً، ولا يعرف ماذا يفعل لكي تتطور قدراته الكتابية. حينئذٍ يتسرب إليه الشك، وتهتز ثقته بنفسه، ويظن أن موهبته ليست سوى وهم جميل، وأن حفر اسمه على الصخر مع الخالدين مجرد حلم غير قابل للتحقيق.
لكن العلاج الفعال لهذه الحالة من توقف نمو الموهبة هو التغذية الثقافية المتكاملة لتعاود الموهبة الأدبية النمو، وتتمكن الكلمات من التحليق عالياً.
وتأتي التغذية الثقافية للكاتب من عدة مصادر، في مقدمتها بالطبع القراءة الموسوعية، ويا حبذا القراءة المتأنية للأعمال الأدبية عالية القيمة، وكتب النقد التي تتناول العناصر الفنية للكتابة، وكتب السير عن أعلام القصة والرواية والمسرح.
وفعل القراءة هذا لا بد أن يتحول إلى روتين يومي، لأن هناك ارتباطاً عضوياً بين الكتابة والقراءة، فهما الثنائي الذي يحقق للكاتب النجاح والتطور.
المصدر الثاني لتغذية الموهبة الأدبية هو النقاش شبه اليومي حول قضايا الأدب مع جماعة صغيرة من المولعين بالأدب. لا بد أن نكون مولعين حقاً بالأدب، فإذا لم نكن نكتبه الآن، فنحن نتحدث عنه طيلة الوقت، نتلهف لسماع أخباره، ويقتلنا الفضول لمعرفة أسراره، ولا نملّ أبداً من التفكير فيه كما يفكر عاشق مدنف في حبيبته التي يرجو وصالها.
هذه النقاشات لها أهمية قصوى في رفع وعي الكاتب بأدوات الكتابة وتقنياتها وتياراتها والمجددين فيها.
المصدر الثالث لتغذية الموهبة الأدبية هو صقل الذائقة الفنية ةوتربيتها جمالياً عبر الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية، فالنفس عندما تتشبع بهذه الإيقاعات رفيعة المستوى يتجاوب القلم معها، ويردد أصداءها حتى ليكاد القارئ الفطن يحس بتلك الألحان البديعة تترقرق في ثنايا السطور.
وعلى الكاتب الالتفات إلى الفنون المجاورة، كالنحت والرسم وفن العمارة وفنون الأداء كالتمثيل والرقص والغناء وسواها، ليُضمِّن كل تلك الخبرة الجمالية في كتاباته.
المصدر الرابع لتغذية الموهبة الأدبية هو أن يعيش الكاتب داخل كبسولة محكمة الإغلاق -قدر الإمكان طبعا- ليعزل نفسه عن المؤثرات الخارجية. وفي داخل هذه الكبسولة عليه أن يجمع ويُخزِّن الموارد التي سيتغذى عليها وتبقيه حياً -الحياة بالمعنى الأدبي- وهذا يتطلب البحث عن هذه الموارد التي تختلف من شخص إلى آخر، وتتباين من ثقافة إلى أخرى.
ليس مجدياً للمرء الذي يريد الاشتغال بالأدب أن يُزيّن جدران غرفته بصور فاتنات السينما. هذا الإجراء لن يُلهمه كتابة روائع أدبية، لكن غالباً سيذهب بخياله إلى مكان آخر!
إنه بحاجة إلى تأثيث فضائه الخاص بما هو أكثر أدبية من تلك الصور المثيرة، أشياء أو تذكارات تبقيه على صلة وتواصل دائم مع دنيا الأدب.