الشعر جناح مقاوم
نجوان درويش شاعر فلسطيني من مدينة القدس، صاحب صوت مختلف في القصيدة الفلسطينية الحديثة حقّق لنفسه حضورًا بارزًا بين شعرائها وترجم شعره الى لغات عدة واحتفي به كصوت معبر عن آلام شعبه الفلسطيني تحت الاحتلال. أصدر العديد من الدواوين الشعرية. صدر له مؤخرًا ديوانان معًا، الأول بعنوان "كلّما اقتربت من عاصفة" وذيّله بعنوان فرعي "فصل في لندن" وهو يحتوى على قصائد كتبها الشاعر في الفترة ما بين (تموز 2014 وكانون الثاني 2015). والديوان الثاني بعنوان "تَعِبَ المعلَّقون" وقصائده كُتبت قبل 2014. وكلاهما صدر عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" و"دار الفيل".
الديوان الأول - وهو موضوع هذه المقالة - يحتوي على 67 قصيدة، تتراوح ما بين القصر والطول، يحمل الديوان عنوان إحدى القصائد، وهي قصيدة تأتي متأخرة نسبيًّا، عن الفقد والخسارة. القصيدة على لسان الشاعر، وهو يخاطب ذاته المنفصلة عنه، متخيلاً هذا الانفصال، وعواقبه: "هَبْني هذا الصباحَ أفلتُّ يدي/ فهل إلى أبد الآبدين سأفقدك"، وكأنها تدريب على انفصال الذات عن أناتها، وتوطين نفسه على معنى الخسارة، وهو ما يدفعه لأن يقدّم سيناريوهات لحالته، وإن كانت تتساوى فيها النتائج بعد الانفصال فكما يقول "هل إلى أبد الآبدين سأخسر نفسي"، وماذا تعني بالنسبة إليه هذه الخسارة، فقد خسرها بالأمس، وفي الغد، على نحو ما يقول "هذي التي خسرتُها بالأمس/ وخسرتُها في الغد". لاحظ دلالة استخدام الماضي "خسرتُها" مع المستقبل "الغد" للتأكيد على أن لا شيء يتغيّر، كما أن الأقدار "لا تعيدُها … إلا لأخسرها".
تتميز قصائد الديوان بالتلقائية والتركيب معا، وتعتمد لغة طليقة، وهي في حقيقة الأمر لغته الشعرية التي لا توغل في المجازات أو الاستعارات، وكأنه يتمثّل قول وتمان في الشعر إن "الهدف من الشعر -بالطبع- ليس الصور، بل معرفة العالم والعلاقات التي تربط بين الناس، ومعرفة الذات، وتطوّر الشخصية الإنسانية في عملية التقدّم والاتّصال الجماعي". لذا تبدو لغته مألوفة ومتداولة، ومن ثمّ جمالياتها وبلاغتها ليس في غرابتها، أو في جنوحها، وانحرافها عن دلالتها المباشرة، بل على العكس تمامًا يكمن جمالها في بساطتها ومباشرتها وفي إفصاحها، لا في إضمارها وغموضها، وإن كانت تكتنز بدلالات شعرية جمّة، تصنع بها حالة شعرية مُتماسكة، تُظهر انقسام الذات واغترابها، النفسي والمكاني على حدٍّ سواء. فمهمة اللغة كما يقول هوسرل "هي التواصل". تأمل مثلاً هذا المقطع: "وإن ذهب الذاهبون/ فلِمَ أبقى أنا/ وإن رجعوا/ فلِمَ إذن تركوني؟". شاعرية النص تتفجر عبر المفارقة القائمة على التلاعب اللغوي بالمفردات واستخدام التضاد، وهو ما يولّد مفارقة شكلية وذهنيّة في الوقت نفسه تعكس حالة الحَيْرة التي تُعانيها الذات الشاعرة وعجزها عن تقبل واقعها المربك.
يشغل الموت -بكافة تنويعاته- الموت الفيزيقي (الطبيعي، أو بصورة الاغتيال) والموت المعنوي، ملمحًا أساسيًّا في تجربة نجوان درويش الشعرية. ويحضر هنا لا بحكم العلاقة الجدلية/الصراعية، أي أنه ضدّ الحياة، أو تعبيرًا عن الفَقد والوحشة اللتيْن يتركهما على الذات؛ تلك الذات التي لا يريدها منكسرة أبدًا، حتى وهي مهزومة يدعوها للمقاومة "كوني الأنواء تقاوِم البحرَ". فهي في كل وجوهها تبتغي فعل المقاومة وعدم الاستسلام: "مهزومة وتقاوم" وأيضًا "منتصرة لأنها تقاوم".
وإنما يأتي الموت -أولاً- دليلاً على وحشية المحتل وعدوانية آلياته وغطرستها. وثانيًا، وهو الأهم باعتباره هو البداية، وهو ما يمنح المفردات مفاهيم جديدة، بعيدة عن المعنى المتداول، تقترب بها من حدود الفلسفة، وعلى إثرها يصير الموت هو البداية، و"نجمة الميلاد المخاتلة" تصير -وإن كان لا يريد أن يظنّها- "نجمة موت". وكذلك الوطن يصير مثل شجرة "جذورها ماء نهرٍ يجري/ إن توقفت تموت" وإن "لم تتوقف تموت" أيضًا. وهو تطلع جمالي تسعى إليه الذات الشاعرة بما تمتاز به من رؤية للعالم لا تعتمد على معطيات العالم الخارجي، بل بما تبتكره هي من معطيات جديدة في صراعها مع واقعها، مبتعدة عن قانون الواقع الطبيعي بقدر اقترابها من قانونها الداخلي؛ لترويض ما تعجز عن امتلاكه أو حتى فَهم أسبابه بعدما عمّت حالة من الفوضى بغياب أساسيات وجودية؛ كالحق في الحياة وغياب العدالة ذاتها، حتى أنه يدعو الذات الشاعرة، في إحدى ثوراتها ضد القانون الذي لا يراه "سوى زنزانةٍ يُرَكَّعُ فيها الحقّ مقيَّدًا"، لأن تكون "ضدّ العدالة" المفروضة وغير العادلة، فينشدها "كوني أنتِ العدالة".
وهذه المناشدة لا تأتي لتكريس سُلْطة المواضعات الاجتماعية والاعتداد بها، في مقابل الخروج عن سلطة القانون، بل العكس تمامًا تأتي كنوع من المقاومة للسلطة المنقوصة، السلطة العاجزة عن تحقيق العدالة، وهو ما يجعل الذات في فعل مقاومة مستمرّ، لا ترضخ للقوانين العرجاء وغير العادلة الناتجة عن هذه السلطات. خاصة وقد صار فعلًا يوميًّا حتى أن صورة فلسطين لا تحضر إلا "منحنيةً على ماكنة "سنجر" تخيط أكفاناً وأقمطةً. تطرق. تطرق، وكأنها لا تسمع أصواتنا". بل ويحيل صورة الموت على كل شيء يراه.
ومن ثم ستصير هي التيمة التي تلازمه حتى بعد ارتحاله عن مدينته، وهو يعبر "وادي ظلّ الموت" في حالة من اليأس، تتقاذف هذه الذات الأهواء "مثل ليلٍ لا فجر له/ مثل فجر ٍلا ليل بعده". وإن كان سيضاف إليها ملمحًا آخر، يتمثّل في الإحساس بالاغتراب، وهو ما يستدعي حضور المكان، لا باعتباره ذكرى، أو طللًا يرثيه، بل في صورة تخيليّة محبّبة، يستعيده كأحلام فالذات تفكّر "ببيتٍ صغير في بلدةٍ على البحر" على الرغم، ما يُعانيه من دمار وخراب وقتل بفعل وحشية الاحتلال، إلا أنه أهون عليه من هذه الغربة، التي يرى فيها ذاته مجرد "شبح يذرع شوارعها"، دون الوصول إلى هدف. أو مجرد الاهتداء إلى هذه الذات التي ضاعت، كما ضاعت بلاد وشوارع وذكريات وأحبّة أيضًا. ولن يبقى لهذه الذات الخالية "من كل أمل" سوى "انتظار النهاية" كما يشير عنوان القصيدة الأولى في الديوان "وأنتِ تنتظرين في النهاية". وهذه المراوغة في حضور المكان بهذه الصورة المغايرة لما عليه في الواقع، يكسب الذات قدرة على المقاومة، لا في مقاومة الخراب والموات اللذين تراهما كفعل يومي، بل مقاومة الواقع الجديد برأسماليته المُوحِشة، وردّ لهزيمة لا يعترف الشاعر بقبولها.
الذات كفعل مقاوم
تُقدّم الذّات الشّاعرة في قصائد ديوان "كلّما اقتربت من عاصفة"، لا بوصفها ذاتًا مُلتصقة بأناتها، بل منفصلة عن هذه الأنا، كأنّها مجهولة لها. هي أشبه بذات أخرى تحمل سمات وخصائص تميّزها عن الذات المنبثقة منها، فتراه يتساءل في أسى وحيرة "مَن أنا في كلّ هذا؟" وبعدما يُقرّرُ بأنّه "لا طاقةَ لي أن أسال" يفصح عن هويته "أنا أسيرُ نفْسي الأمّارة/ بما لا يحتمل جسدي".
الانفصال لا يتأتى بفعل الإبدال الذي تحدثه لُعبة استبدال الضمائر، بتحويل (الأنا) إلى مخاطب هكذا (أنت/ك) "يا سيِّد/ ماضيك أصبح لشخصٍ آخَر/ وأنت الآن آخَر "، وإنما بفعل الهُوة التي صنعها الانفصال عن المكان/الوطن . وهو ما يؤكده بإثبات جملة "فصل من لندن" كتذييل للعنوان، وكأن وطأة الإحساس بالانقسام الداخلي في حاجة إلى هذا الاغتراب المكاني؛ حيث مدينة المنشأ تُستدعى على الدوام في مكان الارتحال، ليكتمل مشهد الاغتراب الكُلّي الذي تعيشه الذات، ولا تريد أن تنفصل عنه أيضًا في مشهد يُوحي بالغرابة والاندهاش، وكأنها ألفته. كما تضفي الذات المغتربة غربتها على ما حولها فتبدو "الشوارعُ كلُّها سِيامِيّةٌ للغريب في فجرٍ بارد/ والأشجارُ بلا هُوية". ويتحقق فصل الذات عن أناتها عبر انفصال الذات عن شبحها، وتأملها وهي "تذرع الشوارع الطويلة" مع شبح منقسم بدوره: "شبحي الصامتِ أم الآخَرِ الذي لا يتوقّف، مثل التنّين، عن قذف الماضي؟".
حالة الاغتراب المكاني واضحة على الذات الشاعرة، وهي ما يدفعها لأن تتأمّل أيام مكوثها، وتتساءل عن كمّ الكؤوس التي تحتاجها لمعرفة قادمات أيامها:
"من عَدَدِ كؤوسِ قهوة الصباح
(قبل أن أنزل من السَّكن
ويجرِفَني الصباحُ الظهيرةُ الليلُ
قبل أن...)
عرفتُ كم يوماً مكثتُ في هذه المدينة.
من ثلاث كؤوسٍ عرفتُ أيامي السابقات
كم كأساً سأحتاج لأعرف قادماتِ أيامي؟"
فالشاعر يقدّم بطاقة هوية لذاته التي تعيش في متاهة، وإن كان فيها وجد طريقه. تلك الذات المفقودة تارة، الباحثة عن إدراك ذاتها التائهة وغير المهتدية إلى كينونتها الخاصة، فما إن يفتح الراديو "على أملِ أن أسمعَ أُم كلثوم منطلقةً في "حبيبي يِسْعِد أوقاته""، حتى تفشل هذه الذات في العثور على مرادها "فلا أجدُ سوى سيمفونيات". ومع أنها (أي الذات) لا تعدم الحيلة، كأمل للعثور على الذات العميقة، يفتح "الراديو على كلاسيك FM " ولكن يلازمه الإخفاق "ولا أعرف شيئًا عن "أوقات حبيبي"".
ومع إحساس ذات الشاعر بأنها منفصلة عن أرومتها وعن هويتها، وهو ما دفع به لأن يصيح تأكيدًا أو تثبيتًا لحالة الانفصال "ليس لي بلدٌ لأرجع إليها/ ليس لي بلدٌ لأُنفى منها"، أما المدينة (لندن) التي يكتب فيها فهكذا فيعُرّفها: "هذه بلدٌ مثل إناء الدِبْس/ مثل مِعصرة زيت في الفجر / مثل برزخٍ لا يصل السائرون عليه إلى جنّةٍ أو جحيم/ منقوعةٌ في الضباب ومتروكةٌ". وفي غياب "البيت" يفتقد الإحساس بالنوم فينادي "البلد البعيد": "كم غرفةَ نومٍ أحتاج/لأجد النوم" والأهم "كم طريقًا لأسير إليك أيها البلد البعيد". وبالمثل أوجاع هذه البلد حاضرة في مكان اغترابه، فتطارده رائحة الدماء في كوابيسه، وتلازمه في نومه فيعلن "أنام في سريري البعيد/وأنتم هناك/في سرير الدم". ويتساءل الشاعر: "وكيف سَيَفْهَمُ الناسُ أنَّا كنّا نعيش تشبُّثاً/ بين أن نُقتلَع وأن نبقى متشبِّثين/ وكيف سأفهَمُ/ أنَّني كُلَّما اقتربتُ من عاصفةٍ تذكّرتُ بيتنا؟".
لكن مع هذا الإحساس بالاغتراب وانسحاق الذات في غربتها، وسعي الشاعر لأن يلوذ بمكان آخر غير ذلك الذي فقده، لا ينفك عن مواجهة دعوات "أولئك الهاربون ونسوا مما هربوا/ الذين يجبنون على قطع الشارع" يصرخون "اهرب من هذه الجزيرة"، وكأن تيمة المطاردة والارتحال ملتصقة به.
وفي ذات الوقت تتولّد خشية تكاد تفتك به، وهو الذي تقلّب بينهم، وقُتل بعيدًا عنهم فيستنكر موقفهم ويتساءل مستنكراً "ثم لا تطالبون بجثتي…". اللافت حقًّا أن هذه الذات بكل ما تشعر به من انتهاك وتآكل وعدم وجود، تظهر وكأنها أشبه بطائر العنقاء، تقاوم صور الخراب لتحيا من جديد، تحيا وسط خراب العالم ودماره ورأسماليته الموحشة، التي تُضفي معاني ودلالات جديدة على الأشياء فالجنازة "تُباع الخطوة فيها بالسنتمتر المربع" إشارة إلى هذا التوحش وانسحاق الذات أمام سطوة هذه الرأسمالية وماديتها المرعبة. فتقف أبيّة تارة تقاوم الهزيمة "كوني الأنواء تقاوم البحرَ"، وتارة لا تفقد الأمل، فكما يدعوها " "لكنّك تظلُّ واقفاً تُفكِّر ببيتٍ صغير/ يخبِّئه النسيمُ/ وتفضحه الأشجار عند سفح الكرمل".
وطن جذوره في الماء
الوطن في غيابه الواقعي (حيث شعور الذات الشاعرة بالفقد وبخسارته) وحضوره على مستوى المشهد الشعري يتساوى مع الذات في المقاومة، فما بين الغياب والحضور، وما بين الخسارة والفقدان، كلاهما يجري مع نهر جذوره في الماء وبلاده مثله "إن توقّفتْ تجف/إن توقّفتْ تموت" وأيضًا كلاهما لا يقف مستسلمًا بل يجنح إلى الخيال والأمل " وكلانا يجري مع نهرٍ من شُعاع الشمس/ من غبار الذهب المصّاعد من جراحٍ أثريةٍ/ ولم نكن نتوقف/ كلانا كانا يجري/ لم نفكِّر مرّة أن نتوقّف لنلتقي".
وهذا الوطن الذي غادره، ولا يملك فيه شيء حيث "لم يكن لي أهل أراسلهم" إلا أنه يحمل فجره وإن نسي ملامحه، ويحمل ذكريات يستعيدها "وكنت في بيت رحب الحجرات" يطل "من هناك" بكافة تفاصيله، في تأكيد لنفي الغياب أو الفقدان، فيعود "إلى تلك الغرفة" و"تلك البلدة وذلك البيت"، وإن كان لا يوجد آثار لساكني البيت، فهم عظام تحت الغرفة ورغم أنهم في حالة غياب بفعل الموت، إلا أنهم "يعرفونه، ولا يعرفهم" كما أن فعل العودة بمثابة الامتثال للمقاومة التي تبديها الذات الشاعرة، وتشبثها بالمكان رغم مظاهر التغييب والفقدان لأشخاصه، وفقًا لمسلّمة جوهرية "أعود/ لأن الإنسان لا بد أن يعود" وإن كان يجعل من العودة فعل بعث، فيضع سببًا جديدًا للعودة "لأن الميّت لا بد أن ينهض". ومن ثم نراه في موضع آخر، يستعيد بتقدير واضح تلك المدينة (أو الوطن) التي تتشكّل "في أنفاقها وأخاديدها/ ومغائرها التي تسيرُ فيها القوافل سنينًا/ ألف بيت وألف قصة/ ومدينة تحت طبقات مدينة".
أما صورة هذا الوطن أو مفردات تشكيله؛ الباص، القطار، البحر، فلطالما تأتي مقترنة بحضور العدو/ المحتل.. يقول "في ذاكرتنا صفيرُ قطارٍ واحد/ أحياناً يذهب بالأبناء/ وأحيانا يأتي بمستعمرين". لا يبقى من صورة هذا الباص أو القطار إلا ما يرتبط بالفاجعة، أو ما خلّفَهُ العدو فـ "صفيرهُ صمتُ الضحايا/ (و) دخانه تاريخهم"، وأمام بحره "لم ترسُ سوى سفينة واحدة/تُقلُّ مستعمِرين/وتهْرَبُ بالضحايا" هكذا صارت صورة الوطن ما بين هارب ومستعمِر.
وإمعانًا في إظهار قوة هذه الذات وقدرتها على المقاومة، لا يدخل الحرب وهو خاوٍ، أو يدخلها بالأحلام والأمنيات الرومانسية، بل يستعد لمعركته، مُتسلحًا بإيمانه بذاته (حتى لو بدت مضعضة أو مغتربة)، خاصة وأن "الأعداء لم يتركوا لي شجرتين/ أربط بينهما أرجوحتي" كما يقول. وأيضًا متسلّحة بكل أدوات المقاومة "هيا أيها التنّين/ أحفظُ الوصية جيدًا/ حربتي جاهزة"، حتى لو كان استعارَ للقوة بالحربة، وهي هنا أداة رمزية وغير مناسبة بالطبع للمعركة الحالية. فالعدو أو القتلة كما يقول محمود درويش "… يتشابهون/ فَهُم واحدٌ مُوزَّعٌ على أَجهزة معدنية/يضغط على أزرار إلكترونية/يقتل ويختفي" لكن في الحقيقة حضور هذه الكلمة متناسب تمامًا مع طبيعة هذا الفارس المقاوِم الذي لا يتشبه بعدوه الذي "يقتل ويختفي" كما عند محمود درويش، أو يلجأ إلى الخديعة والمكر كما عند أمل دنقل: "كان يمشي معي/ ثم صافحني.. ثم سار قليلاً/ ولكنه في الغصون اختبأ!/ فجأةً: ثقبتني قشعريرة بين ضعليْن/ واهتزَّ قلبي -كفقاعة- وانفثأ!"
هكذا كانت صورة العدو، كما عبّرت عنها الأدبيات، لكن هنا المُقاوِم يتحلّى بصفات نقيضة، يواجهه كالفرسان في الأساطير، الذين يخرجون لمقاومة التنين، فيقفون وجهًا لوجه، دون غدر أو احتيال، الغلبة للأقوى وليست الغلبة للمحتال على نحو ما يرد في "ملحمة جلجامش"، فالوحش الذي يخرج من البحر في صورة أفعى ويطلق عليه «تيامات» يهدّد الخلق جميعًا بالعودة إلى فوضى الخلق البدائية، إلى أن قام لتحديه الإله الشاب البطل «مردوخ»، الذي قاتل تيامات وفصل رأسه عن جسده، وتمكّن من إنقاذ الكون. فالتنين في الملحمة كان يهدف إلى إبادة العالم، وكأنه رمز الشرور، يتوازى مع العدو الذي هو أيضًا رمز للشرور في العالم.
قد تبدو الذات الشاعرة للقارئ وكأنها في أضعف حالاتها، خاصّة وهي ظهر تائهة غير مستقرة، أو مترنحة ("ألا يكفي أنَّ حياتك مترنِّحة/ حتّى يرنِّح الباصُ الدفترَ بين يديك!") بل ضالة في متاهات ودروب الحياة، لكن في الحقيقة هي واعية بماهيتها وكينونتها لدرجة أن وعيها يحدّد صفاتها: "لقد عشتَ حياتك كلَّها دون خارطةٍ/ ولم تميِّز بين الجهات/ وتستغربُ الآن أنَّك ضائعٌ مثاليٌّ بين الحُشود؟"
وأيضًا يقف على أوجاعها عندما يصرخ "ما هذا يا رب، ترميني في بلد تحكمه الأمطار". لذا يخاطبها الشاعر وكأنها شخص أمامه، فيدفعها إلى الكتابة "قلت لها اكتبي في كلّ مكانٍ وفي كل وقت". باعتبار أن الكتابة هي الشيء الباقي، والشاهد على حالات أو تبدلات الذات المتناقضة بين الخسران والربح، والتشييد والهدم.
فالذات في أبهى حضورها، وتمتلك القدرة على المقاوَمة ورفض الاستسلام، حتى تبدو مقاوِمة عنيدة، صُلبة ترفض الهزائم، بل تقاوم هذه الهزائم وتردها، وهذا واضح من اعتراف أو إقرار هذه الذات بهذه الحقيقة "وقلت لنفسي أنتِ عاصية مثل هؤلاء …". كما أنها لا تقلب الحقائق بل تعلم جيدًا أن البرد ليس في الخارج: "البرد في الداخل/ في أعمدة التاريخ وسقائله العشر التي سَقَط عنها المؤرِّخون".
وتتجلى بصيرة الشّاعر في أنه يعطي لها القدرة على تشخيص أوجاعها وسبب معاناتها، الذي يتضح أنه نِتاج فعل الخراب والدمار والموت، وتفشي التوحش الرأسمالي، ومن ثمّ نرى النقمة عليها، عندما يقول "الرأسماليّة لا ينقصها ضحايا ولا يعوزها شهود".
ويتجلّى هذا عبر حضور دلالات الألفاظ التي تشير حمولاتها إلى القوة والرفض، كما يتضح في أفعال الأمر المنتشرة باطّراد داخل النصوص: (اكتبي/تنهّدي/كوني، ...) ومخاطبتها كشخض آخر "قلتُ لنفسي" وأيضًا في صفاتها الفعلية؛ حيث هي ذات حالمة بالبناء وتفكّر "ببيت صغير" وكذلك هي ذات قربانية، تقدّم نفسها فداء للوطن، ففي قصيدة "بلد جرفتها الأمطار"، الذات لا تتهرب من المسؤولية. تجري دراما الضياع والاستعادة في اليقظة والحلم معًا، وما بين اليقظة حيث تتم الإضاعة، وفي الحلم حيث يستعيدها، فتتراوح حيرة الذات بين فعلين نقيضين "لا أنا أفقِدها/ ولا أنا أستعيدها".
ومع كل ما تعانيه هذه الذات من ألم (مكبوت) لا يفصح عنه، إلا بالقليل من العبارات الدالة والألفاظ: "تنهّدي كالملكة على عرش خسائرك الجمّة" في مفارقة بين التتويج والهزائم. فهو يحيل الهزائم إلى انتصارات بل وتتويج. ما دام الزمن تغلب عليه هذه المعارك الطاحنة بين الهامشيين: "سابلةٌ في التاريخ/يفتكون بسابلة".
القوة الروحية للشاعر تتجلَّى في أبهي صورها، عندما لا يعبأ بالموت، ويصوِّره كأنّه نزهة غير مكترث بما يُحْدِثُه في نفسه من شروخ وانقسامات، ولمَ لا؟ وهو نفسه يُعلن: "تنزَّهنا مع الموت/ورَجعنا من النُّزهة كأنْ لا موت" لا نقول عبثية الحياة، أو سخريته من الموت المجاني، بل نستطيع أن نردّ هذا إلى أُلفته للموت الذي صار فِعلاً يوميًّا بامتياز.
في الأخير، نحن مع شاعر بصوت شخصي فريد يحمل هاجس وطنه معه، ويوطِّنُ ذاته على كل أسباب المقاومة لتحيا وتتكيف مع مصيرها؛ متغلبة على كافة الإحباطات التي تفتك بالجسد، بل يتخذ من الكلمة أداة مقاومة، وحيلة لاستعادة (أو بناء وطن متخيّل) الوطن المفقود، وقبلها استعادة الذات المتضعضعة نفسها؛ كي تكون مهيَّأة للتصدي للفاجع في واقعها، ومدرَّبَة على التعايش في أوضاع وظروف قاتلة. وهذا في الأساس غاية الكلمة (الشعر خصوصًا) أن تكون فعلَ مقاومة، وعلاجًا لنيل سَّلام داخلي.