مشانق لليهود ولغير اليهود على صفحات الرواية العربية
أعترف أني كثيراً ما تجنبت قراءة أو مشاهدة الأعمال العربية التي تتناول الشخصية اليهودية، أو تمر خلال تضاريسها أطياف اليهودي. ليس لموقف مسبق من الفكرة، بل لأن النمطية المتشكلة عن خيال الكاتب وعن كيفية تناوله لليهودي، تكاد لا تخرج عن إطار محدد متوقع سلفاً. ما يحمّل القراءة المزيد من الأعباء قد تضرب بقية زوايا العمل الفني المعني.
لماذا تم تصوير اليهودي في الرواية العربية بتلك الصورة؟ وفي أحسن الأحوال؛ لماذا تم تجنب تصوير اليهودي كبطل اعتيادي من أبطال المشهد الروائي داخل النص مثله مثل غيره من الأبطال المنتمين إلى عقائد أخرى؟ من هنا يبدأ السؤال وليس من بعد أن قرر الروائيون العرب التجرؤ علـي المحظور وتقديم يهود في أعمالهم بطريقة مختلفة.
وقد يتبادر إلى الذهن أن السبب هو تنميط اليهودي، وتنزيل العديد من صفات الشر عليه عبر الموروث العربي وأن هذا تسلل إلى الرواية العربية الحديثة. غير أن زاوية نظري تفارق هذا اليقين المنتشر. الواقع أن الصور في الخيال العربي كلها نمطية، وليس فقط صورة اليهودي. فما الذي يختلف به البطل المسلم في رواية نجيب الكيلاني أو إحسان عبدالقدوس عن البطل المسلم في رواية عبدالرحمن منيف أو حنا مينا؟ وما الذي يتمايز به البطل المسيحي في رواية عربية ما عن بطل مسيحي آخر في رواية عربية أخرى؟ بل إن صورة البطل بحد ذاتها تكاد تكون ظلاً لتنميط اجتماعي عربي ثقيل ينعكس على النص الروائي العربي. وحال ذلك العنصر كحال غيره من مفردات الرواية العربية.
إن القالب الذي يضع الروائي فيه شخصية من شخصياته التي يخلقها، لا يأتي من فراغ بطبيعة الحال. بل هو قادم من واقع مواز يخلقه هو بناء على معرفته بالذي يكتب عنه. والمعرفة العربية حتى وقت قريب مريضة بالجهل بالآخر مهما كان عرقه أو دينه. فكيف إذا كان آخر بيننا وبينه ما صنع الحداد؟
حين وجدت نفسي أكتب عن “إخاد” اليهودي في “يوميات يهودي من دمشق” وعن شقيقتيه “راحيل” و”زينب” في الحارة القديمة المنثنية خلف طالع الفضة، لم يكن هناك أي سيناريو مسبق أو “لائحة شيندلر” ما معدة سلفاً لكي يتم تدوينها في رواية جديدة أكتبها. بل إن الواقع الحار المحيط بك، والتزامك بنقل أدق تفاصيله إلى قارئك جعل من ظهور هؤلاء اليهود أمراً يشبه اكتشاف المنحوتة الجديدة بين يدي النحات الذي يتعامل مع صخرة دون فكرة. وكما كانوا في الحياة بسياقهم الطبيعي، صاروا في الرواية في سياق طبيعي.
ولكن قبل أن نبدأ بمشاهدة يهودي طبيعي في الأعمال الروائية العربية، لنعد قليلاً إلى الوراء حيث يمكن طرح السؤل بهذه الصيغة؛ هل كان لدى الكتاب العرب عداء للسامية ثم فجأة استيقظ فيهم وعي بضرورة استحضار يهودي جديد داخل أعمالهم الروائية؟
في الذهن المشرقي، وهو ما يمكنني إعمال النظر فيه أكثر من غيره، يأخذنا السؤال إلى زمن الحرب العالمية الأولى، حينها كانت تتشكل دولة جديدة اسمها المملكة العربية السورية، وتحاول أن تتحرر من الحكم التركي العثماني الذي دام أربعة عقود. حينها حاول مجموعة من المثقفين السوريين العرب خلق حركة وطنية قومية تستعيد الهوية العربية التي كانت قد بدأت تتآكل بسبب التتريك، ومنع استخدام اللغة العربية بشكل رسمي. كتب هؤلاء المثقفون عهداً وطنياً يدعو لدولة ديمقراطية لكل مواطنيها، وتحت الخوف من حاكم دمشق جمال باشا الذي أعدم من قبل طبقة من السياسيين السوريين وسط دمشق، قاموا باستدعاء فيصل ابن شريف مكة حسين وطلبوا منه أن ينقل ذلك العهد الذي صار اسمه “وثيقة دمشق” إلى والده في مكة وإلى البريطانيين والفرنسيين أعداء الأتراك، فخبأ فيصل الوثيقة في حذائه ونقلها من دمشق إلى مكة.
بعد سنوات قليلة عاد فيصل هذا ملكاً على سوريا، وكان أول شيء فعله هو تعيين واحد من هؤلاء المثقفين وهو إلياهو ساسون، اليهودي الدمشقي رئيساً لتحرير أول صحيفة قومية عربية رسمية وأطلق عليها اسم “الحياة”. حينها لم يكن هناك أيّ شعور بالعداء للسامية ولم يكن اليهود يختلفون بأيّ شيء عن المسلمين والمسيحيين. فلدى الجميع قضية قومية عربية واحدة.
كانت دمشق، حينها، تطبع كتب موسى بن ميمون، الفيلسوف اليهودي الذي يقول عنه يهود العالم اليوم “لم يخلق الله بعد موسى مثل موسى سوى موسى” ويقصدون مقارنة شخصية ابن ميمون بشخصية النبي موسى مؤسس اليهودية. وعلى مر العصور كان العرب المسلمون يصنفون ابن ميمون على أنه مفكر عربي إسلامي، ويذكرون أنه يهودي دون أيّ حساسية، وهو القادم مطروداً من الأندلس على يد المسيحيين الإسبان الذين اضطهدوا المسلمين واليهود وأمروا بتهجيرهم عن الأندلس إلى شمال إفريقيا. ابن ميمون كان وزيراً في دولة صلاح الدين الأيوبي وطبيباً وحكيماً ويعتبر أكبر شارح للتوراة في التاريخ.
إن القالب الذي يضع الروائي فيه شخصية من شخصياته التي يخلقها، لا يأتي من فراغ بطبيعة الحال. بل هو قادم من واقع مواز يخلقه هو بناء على معرفته بالذي يكتب عنه
قريباً من دمشق وعلى مسافة خمس ساعات بالسيارة نحو الشرق، كان المسلمون يقرأون القرآن الكريم الذي كان يطبع في بغداد في مطابع اليهود، مثل مطبعة الحاخام العراقي عزرا روبين دنكور. ولم يكن أحد غير هؤلاء يملكون المطابع التي بوسعها أن تطبع القرآن في ذلك الوقت، أي حتى مطلع القرن العشرين. وكان لدى البغداديين ثقة مطلقة في تلك النسخ ولم يشعروا بأيّ عداء للسامية تجاه اليهود، خاصة حين ظهرت شخصة الوزير حزقيل ساسون في العراق الملكي، الذي أحبه الشعب كله، ووثقوا به واستأمنوه على مالية العراق كله.
رياح هبّت من جهة الغرب
من يبحث عن مشاعر معادية للسامية في جذر الحياة العربية المعاصرة سوف يصعب عليه أن يجدها قبل 100 عام من الآن. العرب يعتبرون أنفسهم ساميين، وهم ساميون بالفعل، كما اليهود ساميون، ولذلك سوف لن يكون مقنعاً أن يعادي العرب ذاتهم وهويتهم، وهم يعرفون أن الأديان الثلاثة خرجت من أرضهم في جزيرة العرب وسوريا الجغرافية، ولذلك فإن مشاعر مثل هذه لم تكن موجودة في ذلك الوقت. لكن العداء لليهود كان يتشكل في مكان آخر وبصورة أخرى أبعد قليلاً في التاريخ وكان لهذا تأثير كبير على نقل المشاعر المعادية لليهود إلى العرب لاحقاً.
حين أقرأ، عادةً، في تاريخ أوروبا، وتحديداً في اللحظات التي سبقت ظهور عصر النهضة، يكون أكثر ما يشدني هو انتقال المعرفة ما بين الحضارات. ومع تلك المعرفة كانت تنتقل أيضاً العادات والذهنيات التجارية. كانت مدينة فينسيا الإيطالية في العصور الوسطى معبراً هاماً لانتقال الحضارة ما بين الشرق والغرب، فهي التي تحوّلت إلى ساحة تبادل تجاري واسع، وباتت عاصمة اقتصادية عالمية، ومنها كانت تأتي البضائع التي تصل من الشرق العربي الإسلامي، ومنها تذهب بضائع أوروبا إلى الشرق. مع هذه التيارات التي تشبه حركة مياه النهر، انتقلت أيضاً المحرّمات الدينية، وحين انتعشت التجارة انتعاشاً كبيراً اصطدمت مع تلك المحرمات. من بين هذه الأمور المحرمة في التجارة “الربا” الذي تمنعه المسيحية ويمنعه الإسلام. ولكن اليهودية لم تذكر أيّ شيء يمنع اليهود من التجارة الحرة. ولكن التجار الكبار كانوا بمعظمهم من المسلمين في الشرق والمسيحيين الأوروبيين الغربيين، وهؤلاء يريدون أن يطوّروا تجارتهم ويزيدوا رؤوس أموالهم ومرابيحهم، ونتيجة نفاق رجال الدين فقد أصدروا حيلة فقهية تسمح للتجار المسلمين والمسيحيين من الجانبين مزاولة التجارية التي يشوبها “ربا” ولكن من خلال وكيل يهودي. وهكذاً نشأت أسر يهودية شهيرة تراكمت لديها الثروة بسبب نفاق التجار المسلمين والمسيحيين في ذلك الزمن، ونشأ حقد جاهل ضد اليهود، لا علاقة له بدماء المسيح على الصليب، ولا بالقدس ولا بغيرها، أساسه تركيبة جمعت الثروة في أيدي اليهود وخلقت مشاعر من الحقد الشعبي العام ضدهم، لا سيما في عصر الملكة البريطانية إليزابيث الذي يعتبر ذروة عصر النهضة الإنكليزية وعهدا ذهبياً كما يصفه المؤرخون.
وفي يوم 7 يونيو 1594 تم تنفيذ حكم الإعدام بالطبيب اليهودي ردريغو لوبيز، طبيب الملكة إليزابيث، بتهمة قبول رشوة ليدس السم للملكة. فانتشرت المشاعر المعادية للسامية ولليهود في أرجاء لندن وبريطانيا كلها، منتقلة إلى أوروبا عبر ازدهار الآداب والفنون في زمن الملكة إليزابيث، ولعل مسرحية “تاجر البندقية” وشخصية اليهودي شايلوك في أدب شكسبير أفضل مثال على صورة اليهودي في ذهنية الأوروبيين في ذلك الوقت.
وهكذا أخذت تتشكل صورة اليهودي في الذهن الأوروبي أولاً. قبل أن نراها في الأعمال الروائية العربية على صورة إنسان جشع يحب المال ويستميت من أجله.
بالطبع هناك أسباب كثيرة، سابقة ولاحقة، لكن هذا المفصل يعتبر هاماً بشكل خاص، لأنه يتقاطع مع انتقال تلك الصورة في اتجاهين؛ ما حصل في الأندلس والتمييز الذي تعرض له اليهود فيها على يد المسييحيين الإسبان وما حصل في فينيسيا تجاه اليهود، فهي التي نشأ فيها أول حي لعزل اليهود في التاريخ، وبعد أن توافد اليهود على تلك المدنية التجارية في القرن الثالث عشر، قادمين من أنحاء أوروبا وحتى من العالم العربي والإسلامي وسوريا تحديداً، انقلبت عليهم السلطات في المدينة، وتم إجبارهم على التجمع في حيّ واحد أطلق عليه اسم “غيتي” وهي الكلمة التي كانت تعني في روما “الطلاق” أو “الانفصال”، وهي أصل كلمة “غيتو” التي باتت مصطلحاً يدل على الحي اليهودي في العالم كله. ولم يكن يسمح لأي يهودي بمغادرة هذا الحي المُسوّر إلا خلال النهار، بشرط ارتداء اليهود لثياب تحمل علامة تدل على أنهم يهود. واستمر هذا الحال المأساوي حتى عهد الإمبراطور الفرنسي نابوليون بونابرت حين دمّر بنفسه جدران الغيتو ليحرر اليهود من العزل. وتقول الوثائق إن نظام الغيتو قد تم فرضه في العام 1616م لأول مرة على يهود فرانكفورت، بناء على اتفاق خاص بذلك بين مجلس المدينة وسكانها اليهود. وبعد ثمانية أعوام فقط، فرض هذا النظام مجدداً في مدينة فيينا أيضاً. أما روسيا القيصرية فكانت تمنع اليهود من السكن في مناطق معينة فيها، لكنها ابتدعت نظام فصل يختلف عن الغيتو الذي ابتكرته أوروبا الغربية. إذ منعت اليهود من ترك مناطقهم الأصلية في بولونيا، وأجبرتهم على البقاء في تلك المناطق، فظهرت “منطقة الاستيطان” نهاية القرن الثامن عشر، والتي سرعان ما تحولت إلى غيتو كبير تحت شروط معيشة قاسية.
وهنا في ألمانيا أعلن أدولف هتلر فكرة تجميع اليهود في “غيتوات” ونقلهم إلى معسكرات للعمل لمراقبتهم والسيطرة عليهم. وكان آخر غيتو تمت إبادته من قبل النازيين غيتو “لودز” صيف العام 1944م. بعد أن تمت إبادة غيتو وارسو الكبير قبلها بسنة واحدة.
حارة اليهود في دمشق
كان كل ذلك يحدث، بينما كان الحي اليهودي في دمشق مفتوحاً، ولم يكن معزولاً خلف أسوار، وكان أشهر الحرفيين وصناع القطع الشرقية الفنية من النحاس من اليهود. ليس هذا فقط بل كانواً من كبار التجار والنخب، ومن بينهم اليهودي عنبر أفندي صاحب مدرسة “مكتب عنبر” التي خرّجت غالبية الطبقة المثقفة في دمشق حتى بدايات القرن العشرين، فما الذي تغير؟
في لحظة ما، رأت القوى التي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولى أنه من الأفضل أن لا يكون هناك تفاهم ما بين العرب واليهود، ولم يعد هذا بحاجة إلى دليل، فالأدلة عليه أكثر من كثيرة، إذ بعد أن وقّع الملك فيصل ملك سوريا اتفاقية “فيصل وايزمان” مع حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية اليهودية عام 1919 في باريس، والتي تعتبر عهداً بالسلام وتقاسم الأرض والعيش المشترك في المنطقة ذاتها، عملت بريطانياً وفرنسا على هدم تلك الاتفاقية. وقامت فرنسا باحتلال سوريا وخلع الملك فيصل وطرده خارج البلاد.
ومن مفارقات ذلك الوقت أن مناضلاً قومياً عربيا يهوديا، ذكرتُه قبل قليل، هو إلياهو ساسون، شعر بالخيبة بسبب تدمير مشروع الدولة الديمقراطية في سوريا فقرر الهجرة إلى فلسطين التي سيصبح اسمها إسرائيل، وسيتحول ساسون فيها إلى شخصية هامة جداً متولياً عدة مناصب هامة. فحقق حلمه هناك وليس في دمشق مدينته التي أحبها.
نجمة وهلال وصليب
حتى ذلك الوقت كانت الصحافة تنقل صوراً من المظاهرات الشعبية في المدن السورية التي تخرج ضد الاحتلال الفرنسي والمتظاهرون يرفعون فيها الهلال والصليب والنجمة السداسية التي اتخذها اليهود رمزاً لهم. وهي صور متوفرة حتى الآن في الأرشيف ويمكن لأيّ كان مشاهدتها وعرضها.
ساهم الصراع في أوروبا بانعكاس مشاعر العداء لليهود وما يسمى بالعداء للسامية، وكان تأسيس “فيلق عربي” في الجيش النازي أحد أهم وأخطر الأسباب التي أدت إلى تسلل مشاعر العداء لليهود مبكراً. وقاد هذا المشروع مفتي القدس أمين الحسيني الذي ربطته علاقة صداقة مع هتلر.
الأمر الذي عمل على تغيير طبيعة الصراعات في الشرق الأوسط من صراعات حضارية ما بين قديم وجديد إلى صراعات دينية.
فتبنت جميع الأنظمة العربية التي تعاقبت على حكم الدول التي نشأت عن تفكيك سوريا التفكير ذاته، وأصبح اليهود مع الوقت أعداء ليس للدين الإسلامي بل لمشروع الدولة العربية المستقلة حسبما روّجت الأنظمة السياسية. وأخذت صورة اليهودي في الذهنية تنتقل من المرابي إلى المتآمر الخائن.
وبدأ مشروع تهجير اليهود من المجتمعات العربية في مصر والعراق في الفترة ذاتها، ومن لم يهاجر كان يتعرض للضغوط الكبيرة، من الطرفين، من جهة الطبقة الجديدة التي نشأت في إسرائيل والتي فهمت ما تريده القوى الغربية، ولذلك بدأت تعزف على الوتر ذاته. ومن جهة ثانية الأنظمة التي أثارت ذعر اليهود العرب بعمليات مثل عملية “الفرهود” في العراق، لكن هذا المشروع لم يلق آذاناً صاغية في سوريا، فبقي اليهود يعيشون في دمشق وحلب والقامشلي دون أيّ مضايقات مثلهم مثل بقية أفراد المجتمع من المسلمين والمسيحيين.
بين الواقع والأدب
قناعتي الأكيدة أن صورة اليهودي في الذهن العربي العام، هي ذاتها صورته في الرواية العربية؛ الصورة السلبية والإيجابية منها حتى. وهي صورة فرضتها الأنظمة العربية التي لعبت باليهود العرب كورقة على طاولة المفاوضات، سرية أو علنية، وكانت تضيّق عليهم كي تحصل على تنازلات من الأقوياء في العالم، وتفسح لهم في مجالات الحياة والسفر، كي تحصل على مكافآت سياسية واقتصادية تطيل عمر الاستبداد.
ووصولاً إلى اللحظة التي تمرّد فيها النص الروائي على السلطة، أخذنا نرى أن صورة اليهودي في الرواية العربية تخلقت على شكلين لا ثالث لهما؛ فهي إما سلبية منسجمة مع الطروحات الطائفية والقومية الرسمية المتّصلة بالصراعات الدائرة. أو احتفائية مبالغا فيها، كردّ فعل على الصورة الأولى، متهافتة على الشخصية اليهودية، مرتمية تحت قدميها، حتى انطبقت عليها الاتهامات بأن إيرادها أساساً في هذه الرواية أو غيرها، إنما هو إيراد ملفّق الغرض منه لفت نظر لجان التحكيم ومموّلي الجوائز الأدبية في العالم، وفتح آفاق الترجمة أمام الكتاب.
تعرّضت الشخصية اليهودية العربية بدورها لدرجات متتالية من الظلم والاستثمار، سواء على يد الأنظمة أو الطبقة السياسية الإسرائيلية والحركة الصهيونية الأوروبية البيضاء أو على يد الكتّاب العرب أنفسهم، وهنا كان عليّ شخصياً أن ألتقط شخصية حساسة وجوهرية وأنسج من حولها في مشهدية تتطلبها وتستحضرها في روايتي “عين الشرق”. إنها هي شخصية إلياهو كوهين المتهم بالتجسس لصالح إسرائيل في أواسط ستينات القرن العشرين، والذي تم امتصاص دمه من قبل الفريقين السوري والإسرائيلي للبرهنة على إخلاص كل منهما للصراع مع الآخر. ولم يكن كوهين سوى مثال إلى جانب أمثلة كثيرة غيره، من اليهود العرب الذين لاقوا المصير ذاته، ولم يكن ضرورياً أن يتم شنقهم على مشانق الساحات، بل كثيراً ما كانت مشانقهم تلك تعلّق على صفحات الروايات. وما الذي كان يفعله ذلك كله سوى تكريس وعي منحرف عن الآخر ساهم به كبار الروائيين العرب لم تتوقف حدوده عند اليهودي بل شملت الآخر المختلف كله؟
أخيراً يبدو لي اليوم، كما كان الأمر على الدوام ومنذ البداية، أن التحدي الذي يضع الكاتب العربي نفسه أمام الشخصية اليهودية هو نوع فريد من التحديات. ميزان لاختبار ذاته وقيمه، وفي الوقت ذاته انحيازه لقضاياه العادلة، ومن جهة ثالثة محك لحرية التفكير والحوار والعمل، ورابعة احترامه لذاته واسمه وكيف يتوقع أن يتم النظر إليه من القراء عموماً ومن النقاد الأدبيين وسواهم. هذا كله ولم يبدأ بعد الحديث عن الشكل الفني الذي يرسم فيه الروائي العربي مشهداً أقرب إلى الإقناع منه إلى التلفيق والفبركة.