الجمعية الأدبية فوق السطح: الدبكة رقم خمسة
هبطتُ من باص النقل الداخلي المزدحم بصعوبة من يخرج من شجار لا ناقة له فيه ولا جمل، كانت الحافلة الحكومية خضراء اللون مكتظة بالأهالي العائدين إلى بيوتهم بعد يوم عمل متعب، مرهقين ومتعبين وغاضبين كمن كان يحفر في الصخر طوال النهار.. ارتديت أجمل ما لديّ من ثياب كنت قد اقترضتها من صديقي المتأنق دائماً، زير النساء، فاروق، وفاروق هذا شاب يعمل صحفياً في إحدى صحف الخليج العربي التي ترسل له أجراً عن كل مقالة يرسلها لهم بحوالة تذهب مباشرة إلى بيته وما عليه هو إلا النزول إلى إحدى شركات الصرافة واستلام المبلغ بالليرة السورية وليس بالدولار لعدم وجود الأخير متوفراً في البلاد كعملة أجنبية، وكانت هذه العملية بين المبلغ المرسل والمبلغ المقبوض تصبّ في مصلحته من حيث فرق العملة لصالح العملة الأضعف طبعاً وهي في هذه الحالة عملة بلادنا التي تكثر أصفارها أمام الدولار الواحد..
هذه الوظيفة الحرة كانت قد أكسبته بحبوبة مالية كبيرة جداً في الحياة وجعلته يستأجر شقة صغيرة ولكن في أحد أكثر شوارع العاصمة قرباً للحياة الثقافية من مقاه و مسارح ودور سينما وصحف.. وأسواق و غيرها.. مما جعله على الدوام أحد النجوم المتجددين في الصحف والدعوات و حفلات الكوكتيل والعروض المسرحية الافتتاحية، وكان كل ما يزيد لديه من ملابس انتهت موضتها يعطيها لي أنا بعد سهرة صغيرة أقضيها في بيته كلما واتتني فرصة القدوم إلى العاصمة لإرسال مقالاتي أو استلام مخصصاتي من الصحف الحزبية الصغيرة المحلية المتناثرة هنا وهناك ممن لا تدفع إلا النزر اليسير من النقود بالمقارنة مع ما يقبضه هو بالدولار من الصحافة سابقة الذكر..
كنا نحن الاثنين سعيدين بهذه العلاقة الجيدة المتبادلة بيننا كلينا، فأنا قد تعرّفت عليه منذ سنوات طوال في أحد العروض المسرحية حينما كان مثلي تماماً صحفياً مغموراً يعمل في الصحف المحلية التي تدفع ثمن أي مقال مبلغاً قد يخجل أي بقال أو نجار من تدني المبلغ .. ولطالما تجولنا طويلاً في شوارع العاصمة وأكلنا ليلاً من باعة اللحم المشوي السيء جداً في كراجات القطارات و الباصات الليلية، ودخنا السجائر الرخيصة تحت جسور الاسمنت التي تخترق المدينة بكل جسارة.. كنا صحفيين شابين طموحين جداً، هو كان وسيماً مختبئاً خلف فقر أعمى وأنا كنت متوسط الطلة مختبئاً خلف فقر أخرس، هو كان لا يقدر أن يراه أحد في تلك المدينة المتحولة من الانغلاق إلى الانفتاح بسبب فقره كما كان يزعم وأنا كنت لا أكترث بتاتاً لشؤون المظاهر بسبب عدم وصولي إلى مرحلة الانطلاق اللغوي والفصاحة التي يمتلكها هو، فكان صوتي وكانت أفكاري غير مسموعة أبداً.
ولكن الأحوال منذ سنتين تغيرت وها هو يعمل في صحيفة مشهورة جداً يتمنى أغلب الصحفيين المحليين العمل بها لأنها تدفع أموالاً كثيرة لقاء ما يكتب، صحيح أنه غيّر كثيراً من أفكاره التي كان يلقيها عليّ بصوته العالي ليلاً وبنبرته المرتفعة الطموحة الجارحة لسحب الملل المغلف للماضي.. وتخلى أيضاً عن كتابة الشعر والعمل الثقافي، مقابل تتبعه للنشاطات الثقافية التي يقوم بها الآخرون فقط، ولكنه يبدو سعيداً الآن أكثر مما كان فيما مضى، شاعراً على الرصيف.
أما أنا فقد تمسكت أو دفعتني الظروف للتمسك بهويتي الشعرية المضطربة قليلاً بالنسبة إلى الآخرين ولكنها جلية في عيوني جداً، وبقيت أرسل أشعاري عبر البريد إلى الصحف الحزبية والمحلية المتناثرة هنا وهناك، تلك التي لا يقرؤها حتى موظفوها، بسبب عدم قدرتي على الوصول إلى إحدى تلك الصحف العابرة للعقول والتي بات أغلب مثقفونا يطالعون عناوينها صباحاً مع قهوتهم الباكرة ويشتمونها ليلاً مع كأس العرق الأبيض وسهرات هتك عرض الإمبريالية والرأسمالية والمال السياسي.
هكذا هي الدول الاشتراكية في الشرق، عائلة كبيرة جداً، وكعكة صغيرة يتقاسمها الجميع، ولا تشبع أحداً بالطبع، مع أن الجميع يتدخل في شؤون الغير ويعرفون قصص وحكايات بعضهم، حتى الحميم منها.. إلا أنهم جميعاً يعلمون أن الحاجة المالية باتت أهم من الشعارات المتهاوية على أبواب الشوارع والوزارات الضخمة.
مرة زرت صديقي فاروق في منزله الجديد، طبعاً بعد أن صدع رأسي خلال أسابيع بحكاية أنه لا وقت لديه وأن العمل لا يبقي له أي وقت للحياة الاجتماعية وضرورة التنسيق والتنظيم، ثم شكرني أنني أقلعت عن عادة المجيء دون أخذ موعد وضرب لي موعداً بعد ثلاثة أسابيع.. وحينما انقضت تلك الأسابيع بسرعة في منطقتي النائية هرعت إلى العاصمة وحافلاتها المكتظة وشوارعها الصاخبة بالنساء الجميلات والرجال الغاضبين.. ومنها إلى بيت صديقي… الذي ما أن فتح الباب حتى تجهم وكأنه لم يكن يتوقع مجيئي، قلت له ببراءة، موعدنا منذ ثلاثة أسابيع، أليس كذلك، فجأة تذكر ما بيننا من مودة و أدخلني وأكرم وفادتي، تغدينا يومها فروجاً مشوياً من السوق اشتريته أنا من المحال المنتشرة أسفل شقته بعد أن أعطاني هو ثمنه، وأضفت إلى الفروج السمين البنيّ اللون زجاجة مشروبات غازية أحببت أن أضيفها كهدية إلى المائدة..
وبعد أن انتهينا من انتهاك الدجاجة المشوية التي أكلناها بروح شباب التسكع والتشرد، قال لي بجدية: إلى متى ستبقى شاعراً هاوياً وتتقاضى أجوراً سخيفة على ما تنشر، يجب عليك أن تقتحم الصحف الرسمية الحكومية، صحيح هي صحف ثلاث فقط ولكنها معتمدة وأساسية.. أجبته بأنني لا أعرف أحداً في الوسط الثقافي في العاصمة ولا أفهم في السياسة ولا في التفرعات الحزبية للقطاعات الثقافية…
أجابني لا تقلق، سأرسلك إلى مكتب أحد كبار عتاة الصحافة في البلد، أنا لا أعرفه جيداً ولكنني جالسته منذ سنوات في مقهاه الثقافي حيث يشرب البيرة كل يوم بعد الغداء..اذهب إلى مكتبه غداً إنه في جريدة الثورات العربية..
بت الليلة عنده في الصالة بينما قضى ليله يحادث إحدى الفتيات عبر الهاتف، أما أنا فلم يغمض لي جفن، من شدة الرهبة، فأنا غداً سأذهب لملاقاة أحد عتاة الوسط الثقافي السوري، الأستاذ عبدالمنعم حسكيرو، لقد اتصل صديقي بأحد أصدقائه الصحافيين والذي أكد له بدوره أن السيد عبدالمنعم يأتي كل يوم لشرب القهوة ومتابعة أمور الثقافة في حدود الساعة الثانية عشرة.. إلى الجريدة..
يا إلهي، ماذا سأقول له، كيف سأواجهه، من المعروف عنه أنه رجل كبير في السن وعصبي المزاج، يقال بأن الشاعر الشاب الجديد ما أن يغادر غرفته بعد أن يقدم له مجموعته الشعرية كهدية موقعة مع إهداء متميز، حتى يلقي بالكتاب في سلة المهملات.. مباشرة وأمام بقية الحضور..
ثم افترضوا أنني لم أجده، أو أنه كان يجالس ثلة كبيرة من الناس، هل سيسخر مني، هل سيطلب مني تقديم نفسي هكذا، أمام الجميع، مثل تلميذ أمام صفه، ثم تخيل لو أنه طلب مني أن ألقي شعري أمامهم جميعاً، يا إلهي، هو حتماً لا يعرف بأنني مصاب برهاب الوقوف أمام التجمعات، ومن يصدق أن هنالك شاعرا يظن نفسه شاعراً وهو مصاب برهاب الجمهور، ثم ماذا لو أنه ضغط عليّ وأًصر، هذا من الممكن أن يجعلني أتلعثم وأبتلع الحروف دون قدرة مني على نطق الشعر، مما سيعني نهايتي ليس فقط كشاعر بل ككاتب وصحفي، ولن أتمكن من العودة إلى العاصمة أبداً من جديد..
لا لن أذهب إلى موعد الغد، يا إلهي، كيف لك أن تصبح شاعراً كبيراً وأنت تهاب لقاء أحد في مجالك نفسه، إن لم تذهب غداً فإنك ستبقى على الدوام كما وصفك اليوم صديقك أثناء تناول الفروج، شاعر مهمل، غير أنك لم تعد صغيراً ولا بد لك من كسر القوقعة التي تعيش فيها.
لكن افترض أنه كان فظاً معك أو طلب منك المجيء في موعد، أنت تعلم أنك لا تعرف كيفية التصرف مع الأوغاد وأنك تخجل وتتصرف مثل الأطفال حال إحراجك، ثم تذهب مثل عادتك إلى أقرب حديقة وتبدأ بمراقبة الطيور والأشجار وتدخن سيجارتين وتواسي نفسك وتمضي عائداً بالقطار إلى بيتك وحبيبتك القصيرة البريئة أستاذة الأطفال الأشرار.
-لا… لا بد لي من المواجهة، والذهاب وليكن ما يكون.. لكن لماذا أصر عليّ صديقي أن أذهب إلى هذا الشخص بالذات، هل يعلم ضمنياً أنه سيهينني وبالتالي يعلم أنني لن أعود بعدها إلى العاصمة ويستريح مني، كي يتفرغ لعشيقاته اللواتي لم يأتين إلى بيته اليوم بسببي..
لا لا أظن بأنه بهذا القدر من الخبث، هو يحاول مساعدتك وحسب، وأنت تعلم بأن نجاة، حبيبتك التي تنتظرك الآن تقول على الدوام بأن الإنسان يجب أن يتوقع الخير من الآخرين فأما الشر فهو الاستثناء.
حسناً.. سأذهب غداً..
في الصباح، دخلت الحمام و اغتسلت وحلقت لحيتي القصيرة جداً، شذبت شعري بماكينة الحلاقة الكهربائية، ووضعت كريما مطرياً على وجهي من أغراض فاروق الثمينة، دون أن يعلم صديقي بما فعلت، وخرجت وأنا أشعر أنني ذاهب إلى عرسي..
هبطت الدرج الأبيض سعيداً ومنه دلفت إلى الشارع المكتظ الذي كان مشمساً جداً، يا إلهي كم هي جميلة شمس العاصمة، هي تفرق عن شمسنا الحارة والجافة.
اشتريت جريدة الثورات العربية، الناطقة باسم الحزب الحاكم، وذهبت إلى المقهى أشرب قهوتي وأستمتع بقراءة جريدتي التي دفعت ثمنها اليوم على غير العادة.
حينما فتحت الجريدة طالعتني على الفور الأعلام الحمراء والأيدي المقبوضة الغاضبة وشعارات النضال والكفاح، ومن بعدها على الفور صور الأستاذ عبدالمنعم، وهو يرفع يده بعنف مواجهاً الجمهور، وكأنه يريد أن يرمي حجراً عليهم أو ربما كرة صغيرة.. قرأت المقال على الفور وأحسست برهبة شديدة من لغته العربية، الصعبة، القوية، كان يستخدم كلمات منحوتة من الصخر، لا نستخدمها مطلقاً في حياتنا، وكان يصر أن يتحدث في ندواته بهذه اللغة.. شعرت برهبة أكبر، بددت كل بشاشتي بهذا الصباح الجميل.
باق على موعدي معه ساعة ونصف وأنا لا زلت أشرب الماء مع فنجان القهوة.. يجب أن أكلم نجاة من الهاتف العمومي ومن ثم أن أستقل المواصلات نحو مقر جريدة الثورات العربية الضخم..
كان مبنى الجريدة مرعباً جداً، ضخماً للغاية، وفيه آلاف الشبابيك، وعلى الباب الخارجي هنالك براميل ملونة بعلم البلاد، والكثير من الجنود المسلحين الذين لا يكترثون فعلياً للداخل ولا للخارج سواء كان نزار قباني أم المتنبي، المهم هو تفتيشه جيداً قبل الدخول.. أحسست نفسي ضئيلاً جداً وصغيراً حينما هبطت من الحافلة الخضراء. وبعد أن دلفت من الباب، ذهبت إلى الاستقبال وسألتهم عن مكان تواجد الأستاذ عبدالمنعم، وحينما سمع الموظف اسم الأستاذ عبدالمنعم رفع رأسه لأول مرة لأراه ويراني، أجابني وهو غير مقتنع بي بأنه موجود في الطابق السادس.
ومضيت..
كان عدد الزوار هائلاً، أو ربما هو عدد الموظفين، مشيت مع من يمشون نحو المصعد، انتظرت معهم، وحينما فتح الباب الفضي القديم، دخل أكثر من عشرين شخصاً إلى المصعد وكنت بينهم، لم ينظر أحد إلى الآخر، وفجأة نزل ربع من كانوا في الطابق الرابع، ثم توقف المصعد في السادس، ونزل الربع الثاني، ونزلت معهم، كانت الردهة التي تواجه المصعد طويلة ومعتمة، لا يضيئها إلا مستطيلات الشمس المتداخلة مع الأبواب المفتوحة للمكاتب، وهناك عدد كبير من السعاة ممن يحملون صواني الشاي والقهوة داخلين وخارجين من المكاتب، أوقفت أحدهم سائلاً إياه عن الأستاذ عبدالمنعم.. فأشار لي أنه في غرفة نائب رئيس التحرير..
كانت الغرفة في آخر الردهة وكان ظل بابها كبيراً، تخرج منه أصوات ضحك كثيرة، اقتربت بهدوء من الباب، ثم توقفت، لوهلة وددت أن أمضي عائداً إلى المصعد ومنه إلى البوابة حيث يقف الجنود ومنها إلى الحافلة ومن ثم إلى القطار كي أصل إلى بيتي وأدس رأسي تحت مخدتي الطرية وأنام.. ولكنّ صوتاً هاتفاً قال لي: اطرق الباب.
بعد أن فعلت، جاءني الصوت تفضل، وحينما دخلت بجسدي إلى باب الغرفة.. رأيتهم جميعاً، كان في الغرفة حوالي العشرين شخصاً، وعلى طرف مكتب النائب جلس الأستاذ عبدالمنعم، يشع، أمامه فنجان قهوة وسيجارة مشتعلة، وهو يتكلم مع الجميع، كان لديه شعر أبيض ناصع كثيف فوق جبهته العريضة، وجهه كان يشع بياضاً وثقة بالنفس، للوهلة الأولى بدا شخصاً أعرفه جيداً، ارتحت بشكل استثنائي حينما رأيت ابتسامته ترتسم حينما تلاقت عينانا.
صمت الجميع، وأراد أحدهم أن يكسر الجمود ليعرف من هو هذا الزائر الضيف الذي قطع حبال الحديث والحوار الجدلي، نظر الأستاذ عبدالمنعم إليّ بشعره الأبيض وأنفه المعقوف وشعره الأبيض الذي يعطيه هيبة لا نظير لها، خصوصاً حينما يحمل سيجارة وينفث دخاناً في الجو، خلته لثوان أنه سوف ينهرني ويطردني من الغرفة بعد هذا الاقتحام غير المبرر الذي قمت به لخلوتهم الأدبية، أحسست بدوار بسيط يلف رأسي وكادت الحقيبة الجلدية السوداء التي أتأبطها على الدوام أن تسقط من تحت إبطي، ولكنني أسندت جذعي إلى حافة الباب حتى أتاني صوته الأجش طالباً مني الدخول والتعريف بنفسي..
تقدمت خطوتين في عمق الغرفة مثل طلاب المدرسة في الصفوف المبكرة وقلت اسمي: “أحمد أحمد أحمد” شاعر من الأمكنة البعيدة…
ضحك الجميع لهذا الاسم الثلاثي المكرر، ولكن عبدالمنعم وبطريقة أبوية لطيفة طلب مني الدخول والجلوس والاستماع للحديث.
ارتفعت حرارتي حتى الدرجة الألف ولكن توتري انخفض قليلاً لطريقته الودودة في ضمي لفريق المستمعين، دخلت إلى المكتب المكتظ بالشبان والشابات واندسست إلى جوار شاب يرتدي بنطالاً بني اللون وقميصاً أزرق، كان أنيقاً نوعاً ما، ابتسم لي وأفسح لي القليل من المكان للجلوس..
بينما كان صوت الأستاذ ملعلعاً في المكان وهو يتحدث عن تهافت الشعراء المعاصرين ممن يقتفون أثر قصيدة النثر، حسب قوله.. لكنني لم أستمع أكثر إلى ما يقوله وإنما كنت أدرس وجوه من حضروا، أشكالهم، أعمارهم، درست المكان وما يشربون، أسلوب الأستاذ وطريقته العنيفة في تحريك يديه وجبهته ورقبته التي تتيح له النظر في عيون جميع من يتحدث إليهم، ومنهم أنا… رمقني ثلاثة مرات بنظرات عابرة ولكنه لم يعلق أبداً.. شرب الجميع القهوة ودخنوا بكثافة لا تصدق، كان المكان الذي من المفترض أن يكون مقراً لجريدة وطنية، قد تحول إلى مدخنة حقيقية، لكنني كنت معتاداً على التلوث والدخان بسبب عملي الطويل في الفرن في حينا البعيد.. وما أن انتهى من الكلام، حتى نظر إلى ساعته قائلاً: أووه لقد تأخر الوقت ولا بد لكم من مراجعة صفحات الجريدة قبل أن تذهب للإخراج والطباعة.. ثم استل حقيبته التي تشبه إلى حد بعيد حقيبتي، ونهض دون أن يعيرني أي اهتمام.. وخلال ثوان بسيطة انفض الجمع تماماً، وبقيت وحيداً مع رجل يجلس خلف المكتب الكبير، كان ينظر إليّ باستغراب، فقلت له أنه من المفروض أنني على موعد مع الأستاذ عبدالمنعم، فقال لي: لقد خرج من قليل، اركض خلفه..
وركضت خلفه فعلاً لا أعرف لماذا أفعل كل هذا، وللحظة شعرت بنفسي مثل كرة تتقاذفها الأرجل دون أي معرفة لم وكيف ولماذا أفعل ما أفعل .؟
وصلت إلى الأستاذ الذي كان ينتظر المصعد، وهناك صعدنا سوية في المصعد المكتظ ..التصقت به إلى حد كبير، كان المصعد كالعادة ممتلئاً حتى آخره ..نظر إليّ بصمت، فأحسست أنني يجب أن أقول شيئاً، فقلت له بأنني من أشد المعجبين بكتاباته، وأنني أثق برأيه ثقة عمياء، وأنني أرغب منه أن يقرأ لي أشعاري ويعطيني رأيه، شعر الأستاذ عبدالمنعم بغبطة كبيرة لما قلته له، فصوتي كان عالياً بما يكفي ليسمع جميع من في المصعد، فانتشى قليلاً مما قلت، أحسست ذلك من نظرة عينه، فما كان منه إلا أن مد يده إلى حقيبته وأخرج منها كتاباً وأعطاه لي، ثم فتح الصفحة الأخيرة من الكتاب وكتب لي عنوان بيته، ثم قال لي، أنتظرك يوم السبت القادم الساعة السادسة في بيتي.. بالمناسبة لقد أحببت طريقة تقديمك لنفسك أمام الجميع: شاعر من الأمكنة البعيدة، جميل، بكل الأحوال،لا تحضر معك أيّ شيء فقط تعال بعد أن تقرأ الكتاب، فجأة حصل تدافع في المصعد نتج عن شجار بين سيدة وشاب التصق بها بطريقة غير مؤدبة، مما أدى إلى سقوط حقيبة الأستاذ عبد المنعم، رأيت الغضب في عينيه فقد كان هو رجلاً صارماً وحاداً في مثل هذه المواقف، على الفور هبطت لألتقط حقيبته فدفعني الشاب الذي كان خلفي فسقطت على ركبتي بالقرب من قدمي الأستاذ ولكنني عاودت النهوض وأنا أعانق حقيبتي وحقيبته حتى انفض الشجار، قدمت له حقيبته معتذراً عما حصل، فما كان منه إلا أن أخذها وهو يشتم ومضى دون أن يلتفت إلى الخلف.
فتح باب المصعد وخرج الجميع من المصعد بمن فيهم الأستاذ عبدالمنعم، وبقيت أنا وحيداً مذهولاً.
قررت العودة إلى محطة الباصات المركزية مشياً، والتي منها سأستقل الباص الأخضر عائداً إلى بيت صديقي الذي أبيت لديه في إقامتي في عاصمتنا الرهيبة، وبينما أنا أسير بدأت الأفكار تتدفق في رأسي ما الذي يريده مني الأستاذ عبدالمنعم، ولماذا اهتم بي فجأة، هل هنالك شيء غريب ومريب في هذه الدعوة أم أن الرجل مضياف وكريم ومرحب دائم بالكتاب الجدد، حسناً لو أنه كذلك لماذا لم يدع غيري إلى بيته، وما أدراك هل ذهبت ووجدت بيته فارغاً إلا منك؟
ثم لماذا تنتقص من نفسك ومن قيمتك، أنت في النهاية كاتب مهم ولا يقدر الرجال إلا الرجال ومن النظرة الأولى طبعاً، هه هل تمزح، أتود الكذب على نفسك مجدداً هل من المعقول أن تلفت نظره وأنت ترتدي هذه الثياب الرثة والحذاء المغبر أنت تبدو كسائق حافلة أكثر من شاعر لقصيدة النثر والتفعيلة، حسناً حسناً لن أذهب وليحدث ما يحدث.
هه أنت فاشل وستبقى كذلك ما حييت، خجلك ومخاوفك هي من جعلتك مرميّا في أبعد نقطة جغرافية عن العاصمة وعن الأوساط الأدبية، انظر إلى صديقك لقد بات الكل يتمنى رضاه فقط لأنه جريء ومقدام وأنت تعلم وهو يعلم أن أشعاره الأولى كانت عبارة عن قصاصات مسروقة من شعراء عدة وأن جمله الشعرية مكرورة ومنسوخة بابتذال ولولا الصحافة وشخصيته الفذة لم يكن سوى أحمق يرتاد المقاهي الأدبية…
أووه كم أحتاج وأتمنى أن أصبح وجهاً أساسياً من أوجه الوسط الثقافي، حيث الشهرة والقبول والنساء والمآدب السريعة والكتب المهداة مجاناً والمقالات النقدية التي لا تنتهي لأعمالك.. أووه.
وفجأة انتصب الباص الأخضر أمامي كغول كبير ينتظر مني أن أصعد إليه، كانت الحرارة مرتفعة جداً والشمس حارقة والعرق يتصبب من وجهي من شدة المشي، الشمس العامودية كانت تنهال على رأسي مثل المطرقة الحديدية، صعدت إلى الباص وانتحيت على النافذة المطلة على الشارع، السيدة إلى جواري كانت مريبة نوعاً ما، بدأت تحضّني على عدم الاقتراب منها أنا وحقيبتي، كانت سيدة بدينة قليلاً وجسمها يتجاوز كرسيها ليصل إلى الكرسي المجاور حيث أجلس أنا، قالت لي ثلاث مرات أن أبتعد حتى كدت أرمي بنفسي من الشباك، مددت كوعي ورأسي وبت أراجع أفكاري، هل أذهب أم لا أذهب، تحرك الباص المكتظ بالناس والموظفين والطلاب، وبدأ النسيم الدمشقي يهب على رقبتي معدلاً مزاجي الغاضب المحتار، مما شجعني على بدء تخيل منزل الأستاذ عبدالمنعم وتحوّله التدريجي لصديق لي سيساعدني في اقتحام تلك الأجواء التي أحب، النساء والشعر، يالله كم هذان العنصران يشكلان رديفاً للسعادة، أنا لا أقصد أنني سأخون نجاة حبيبتي البريئة، ولكن من الجميل أن يكون الإنسان شاعراً ومن الجميل أكثر أن يكون شاعراً مع معجبات من الفتيات الجميلات، فجأة نزلت على كتفي يد قاسية فالتفتُ بسرعة لأرى من يمسك بكتفي، إنه مفتش الباصات وهو يسألني عن تذكرتي، في تلك اللحظة تمنيت أن تنشق الأرض وتبتلعني لأني نسيت تماماً أن أشتري تذكرة باص ذات السعر البسيط، وخلال ثوان بدأت نظرات الجمع في الباص تتركز عليَ، منهم الشامت ومنهم المتعاطف ومنهم الفضولي، حتى السيدة البدينة إلى جواري بدأت تصرخ بالمفتش بأن يأخذني بعيداً فلقد أتعبتها من شدة التحرش كما قالت، يا لحظي التعيس فالجميع ومنهم أنا لم نر أيّ مفتش للتذاكر منذ سنين ولكنه حظي التعيس ما جعلني أول حالة في هذا الباص فجميع من لم يحجزوا التذاكر فروا من النوافذ وهم يضحكون عليَ وعلى المفتش ما جعل الأخير في حالة غضب أمام من بقي من المواطنين الصالحين ممن دفعوا نقوداً ثمناً لتذاكرهم.
نزلنا من الباص وتوقفت وجهاً لوجه مع المفتش الذي سألني لماذا لم أقتطع التذكرة وحينما بدأت اقول له إنني مواطن محترم وإنني شاعر وصحفي وهذه أول مرة، استشاط غضباً وطلب هويتي لأن مثل هذه الأفعال لا يمكن قبولها من إنسان عادي فما بالك المثقف الذي يحمل لواء التنوير في الوطن، بدأت أعتذر منه وأحاول التملص من الغرامة المالية أو من الذهاب إلى قسم الشرطة حيث ستصبح فضيحتي مدوية وعندها لن أكون قادراً على وضع عيني في عين أيّ أحد في هذه المدينة،وحينها سقطت الفكرة على رأسي كالصاعقة، ماذا لو مر أي أحد يعرفني و شاهدني أقف هذه الوقفة المذلة.
وكي ينهي الحديث حرر لي المفتش مخالفة بقيمة خمسين ليرة سورية، و طلب مني دفعها فوراً أو أنه سيجرني إلى قسم الشرطة الذي سيحولني بدوره إلى القضاء وما تعنيه هذه الكلمة من توقيف قد يطول جداً، بدأت الدموع تترغرغ في عيني و لكن لم أكن أملك أيّ قدرة على التملص، نظرت إلى الأفق كان هنالك الكثير من الناس لا يزالون يتابعون مراقبة الحادثة، فتحت حقيبتي لأخرج منها أوراقي الثبوتية والخمسين ليرة التي هي مبلغ الغرامة في استسلام كامل، ولكن الصاعقة المدوية الأخرى التي كادت أن تسقطني أرضاً هي في رؤية هوية الأستاذ عبدالمنعم بدلاً عن هويتي، لقد بدأت الجموع التي تراقبنا تدور حول رأسي مثل العاصفة التي تتمركز حول رأس جبل، أحسست بدوار رهيب وهبط الدم من رأسي بسرعة البرق نحو قدمي أحسست برجليّ ثقيلتين إلى حد لا يصدق، بينما كانت دقات قلبي تزداد لدرجة أحسست بها أنه سينفجر من شدة الخوف، كيف وماذا تفعل صورة الأستاذ على هويتي، وكيف أتت إليّ، يا إلهي إنه هو، الأستاذ وهذا مكان ميلاده وهذه هي بلدته التي ينحدر منها، لا لن أجرؤ على قراءة اسم أمه يا لها من ورطة، لقد استبدلت حقيبته بحقيبتي، وهذا يعني أن حقيبتي الآن بين يديه بكل ما فيها من أوراقي و مسودات أشعاري و حتى سندويشة الزعتر التي وضعتها نجاة منذ أيام وفيها أيضاً صور خاصة وو. يا إلهي لقد انتهيت للأبد ..ولكن ما أيقظني من حفلة جلد الذات هو صراخ المفتش، أعطني الهوية بسرعة..
ولكني رفضت للوهلة أن أعطيه الهوية، وهممت أن أخبره بأن هويتي في الحقيبة التي يحملها الأستاذ عبدالمنعم وأن هذه هي حقيبة الأستاذ وهذه هويته، ولكن المفتش كان قد وصل إلى حده الأقصى معي في الانتظار، كانت الشمس قد أصبحت حارقة جداً و الجموع التي تتفرج بدأت بالضحك على المشهد والمفتش الذي غطّى العرق جبهته تماماً يريد أن يحرر المخالفة والذهاب إلى باصات أخرى لالتقاط متهربين آخرين مثلي عن الدفع ..فقال على الفور: يبدو أنك تريد المتاعب.. وبدأ يتلفت حوله باحثاً عن الشرطة.. وطبعاً من سوء حظي أني رأيت الشرطة تتقدم من البعيد نحو مكان وقوفنا، ولكنه لم يرهم بعد..
كان الموقف غاية في الإحراج، وكنت عاجزاً ومكبلاً ومصدوماً لدرجة أصابتني بالشلل حتى عن الكلام، فما كان من المفتش إلا أن انتزع بطاقة الهوية من يدي نزعاً وبدأ بتحرير المخالفة لي ولكن باسم عبدالمنعم حسكيرو، وخلال ثلاثين ثانية حررها ومزق أصولها واستبقى لنفسه نصف المخالفة ومد يده بالنصف الآخر مطالباً إياي بالدفع الفوري: خمسون ليرة!
مثل المنوم مغناطيسياً مددت يدي نحو محفظة الأستاذ عبدالمنعم واستللت خمسين ليرة من نقوده وقدمتها له قبل وصول الشرطة وتحويل الرجل المحترم إلى القضاء.
أخذ المفتش النقود ومضى بينما جلست أرضاً، وأنا أشعر أن نهاية العالم أزفت وأني عاجز حتى عن إخبار الآخرين بما فعلت، إنها تهم حقيرة تحرش وتهرب من دفع المال العام، من سيدافع عني ومن يجرؤ حتى على تصديق قصتي تلك، التي إن أضفت إليها سرقة حقيبة ونقود الأستاذ فهي ستكون فضيحة حقيقية لا مفر منها.
بات الهدف واضحاً، رفعت رأسي بقوة، فجأة بدت الأفكار واضحة في رأسي بشكل لا مثيل له، قررت الذهاب والمواجهة والاعتراف بكل شيء، بالحقيبة والنقود وحتى بنصيحة فاروق ووضعي كشاعر بائس في بلد يعج بالشعراء والكتاب.
أمسكت الحقيبة اللعينة وما أن نهضت حتى أحسست أن مثانتي قاب قوسين أو أدنى من أن تنفجر، بدا وكأن جسمي يخونني، يخون عقلي، وقراراتي..عدوت مسرعاً نحو الخرائب المحيطة بالكراجات وأفرغت ضيقي هناك وأنا أرتجف من أن يراني أحد ما، وأنا الشاعر النظيف الأنيق.
مرّ اليوم بسرعة وحان وقت موعد الأستاذ، لم يتصل بي مطلقاً ولا حتى بحث عني كي يعيد الحقيبة مما أثار ريبتي فعلاً ولكن لا بأس، سألتقيه وأحدثه عن كل شيء، لم أخبر أحد بقصتنا مطلقاً، الحقيقة تبدو دوماً مخيفة ولكنها وحش يلتهمك بسرعة ولمرة واحدة أما الكذب فهو مريح ولكنه عبارة عن ذئاب صغيرة تنهشك يومياً دونما توقف ولا كلل أو ملل.
كانت صورة شعرية ممتازة تلك التي خطرت في بالي وأنا أضع تذكرة الباص في مكانها مثل كل المواطنين الصالحين، ابتسمت وجلست في مقعدي، حل المساء سريعاً وهبت نسمات الصيف الدمشقية التي أبردت جسمي المتعرق، وصلت إلى الحي الذي يسكن فيه، كانت تلك أول مرة أنزل في هذا الحي، عمارات كبيرة ومئات الشقق من السكن الشعبي، الآلاف من الرجال والشبان والأطفال المتناثرين في الشارع منهم من يلعب الطاولة ومنهم من يتحادثون بصوت عال ومنهم من يلعبون الكرة، بينما كنت أنا أشق طريقي مطرق الرأس نحو العنوان المكتوب على الصفحة الأخيرة من الكتاب، الذي قرأته في ساعات الليل، تهت بين الأبنية وبين أرقام العمارات واضطررت أن أسأل عن عنوان رقم البناء وما أن دللت حتى وجدت نفسي أقف أمام بناء ضخم بعشرات النوافذ المنسدل الغسيل من فوق شرفاتها بلا اهتمام، كان منظراً مريحاً لي ولكن تدافع الأصوات والموسيقى والصراخ من الجوار وترني مجدداً، كانت حقيبة الأستاذ تحت إبطي بحرص لامتناه، وصلت إلى المدخل ولكن مثانتي أطلقت إنذارها مجدداً، وياله من توقيت، هل أصعد وأطلب منه دخول الحمام، لربما تضايق من تبولي في حمام بيته من المرة الأولى، أم أرجع بخطاي وأجد مقهى ما وأطلب منه الدخول إلى الحمام، وهكذا سأتأخر عن الموعد وسأغرق في أخطائي الكثيرة أكثر فأكثر.. لا.
وبقرار سريع ركضت إلى خلف العمارة حيث يضع الجيران هناك الصناديق والعلب المنسية في عتمة الليل المسيج بسياج من أسلاك، انتحيت إلى جدار العمارة وبدأت أبول على جدار عمارة الأستاذ، شعرت بلذة كبيرة ولكن الخوف لم يبارحني، تخيلت فجأة أن يمسك بي أحد ما ويعلم أنني زائر للأستاذ، لم أكمل ما أفعله بل لململت نفسي وصعدت إلى المدخل حيث المصعد الذي ركبته وحيداً.
طرقت الباب متوجساً، عدلت من ربطة عنقي ومن ثيابي وانتظرت، لم يجب أحد على الجرس، كان باب البيت معتماً للغاية، حاولت تلمس الإضاءة في داخل العمارة، ولكنني لم أفلح، قرعت الجرس، وانتظرت، بعد دقيقتين سمعت حركة متثاقلة تشتم وتلعن تقترب من الباب، ولكن بصوت نسائي، توجست قليلاً ولكنني ثبتّ في مكاني، وحينما فتح الباب، انفجرت من البيت غيمة من بخار الطبخ محملة بروائح البصل والثوم والخضار، وقفت السيدة البدينة تنظر إليّ بلا أيّ مبالاة، فعاجلت إلى سؤالها عن الأستاذ وهل هو موجود، قالت ألا تسمع صوت الموسيقى إنهم فوق، في السطح يتراقصون مثل الدببة، وهمت بإغلاق الباب، ولكنها قبل الإطباق قالت لي انتظر، خذ معك صحن السلطة هذا، وأعطه لعبدالمنعم، أنا تعبة جداً ولا رغبة لي بالصعود إلى فوق.
ذهلت من تسميتها له بعبدالمنعم، ولكنني أدركت أن السيدة هي زوجته، يا إلهي كم يقلم الزواج من أظافر الإبداع.
وصلت إلى السطح حيث كانت عبارة مدونة على بابه، (الجمعية الأدبية فوق السطح) وفي الداخل كان العديد من الكراسي والطاولات متناثرة في المكان والكثير من الطعام والمشروب موزع فوق الطاولة، كان صوت الموسيقى عالياً.. والجمع الذي جلس بشكل صندوق مفتوح كما الاجتماعات الاشتراكية التي كنا نعقدها في بلدتي البعيدة، كان منهمكاً في الكلام تارة والشرب والأكل تارة أخرى، الأستاذ كان متصدراً الطاولة تحت أضواء النيون البيضاء وخلفه أصص نباتات الزينة التي وضعها، شاهدني الأستاذ وطلب مني الدخول ووضع السلطة في المنتصف بإشارة من يده، تناولت الطبق مني شابة في الأربعين من عمرها، ابتسمت لي ووضعته في منتصف الطاولة الذي سرعان ما انتزعه المتجادلون فوراً وبدأوا بتذوقه..
كان الجمع يبدو متعارفاً منذ فترة وأنا هو الوحيد الجديد، والجدل الساخن كان يتناول “أحقية الشاعر في انتهاك نصه أم قدسية النص أمام النقاد”، كان الموضوع غريباً قليلاً ولكنني جلست أستمع بصمت إلى الحوار الذي ترأسه الأستاذ بصخب صوته العالي الذي كان مدوياً بين أساطيح البنايات المجاورة، وفجأة وقف الأستاذ على قدميه ورفع كأسه عالياً جداً في الهواء فرفع الجميع ومنهم أنا الذي رفعت كأس الماء، وشربوا نخب القصيدة الجديدة للأستاذ الذي تلفت قليلاً باحثاً عن شيء ما، حينها فهمت أنه يبحث عن حقيبته، فهممت أطلب إذنه للحديث، ولكنه أشاح لي بيده أنه لا يريد سماعي الآن وطلب تأجيل الحديث لوقت لاحق في السهرة، ثم طلب من أحد الشبان الذي بدا عليه أنه من معجبيه الدائمين، النزول إلى المنزل وجلب حقيبته كي يرينا شيئاً، على الفور أدركت أنه لم يدرك بعد أنه فقد حقيبته الخاصة، مما فتح الاحتمالات كافة أمامي وكان أسهلها أن أبدّل الحقائب من جديد دون أيّ شروحات تتعلق بإحراجات المخالفة والخمسين ليرة والتحرش، ولكن الخمسون اللعينة كانت هي من يلوي ذراعي فالأمر سيبدو وكأنه سرقة وأنا أكره أخذ شيء ليس لي.
نهض الشاب ونزل عدواً إلى أسفل وعاد بعد دقائق وهو يحمل حقيبتي، نعم إنها حقيبتي التي ابتعدت عني يومين، وضعها إلى جانب الأستاذ، وكنت أرقبها منتظراً اللحظة التي سيكتشف بها أنها ليست حقيبته وهنا قررت أن أتدخل وأعترف بالغلط الذي حصل، ولكن الموقف طال وصبّ الكؤوس أيضاً، وحتى الطعام والشراب الذي انغمست به سعيداً بتلك الأجواء التي لطالما تمنيت أن أنتمي إليها، فها هي الجنة تجلس أمامي وأنا في قلبها، شكراً يا فاروق، وكم أتمنى أن أنظر إلى جواري فأجد حبيبتي نجاة ولكن بشرط أن نكون بظرف أكثر راحة دون موقف الحقيبة المحرج جداً، بدأت بالتهام الطعام الجيد فعلاً، إنها تلك الزوجة البدينة الرائعة تلك من تحضّر هذه المقبلات العظيمة، وقد فهمت من الحديث أن كل شخص من الحاضرين قد أحضر معه شيئاً ما في هذه الأمسية في الجمعية الأدبية، وما هي إلا لحظات حتى شب شجار وتدافع بين اثنين احتدم النقاش بينهما حول موضوع سياسي ما، صوتهما كان مرتفعاً ومشحوناً بالشتائم لدرجة أن الجميع كان ينظر إليهما بصمت، ولكن تدخل الأستاذ بعنف بضربة على رأس الأول كان كافياً لإيقاف الشجار ولكن الثاني نهض بقوة إحساسه بأن الأستاذ دعم موقفه، وحاول مهاجمة الأول فصرخ به الأستاذ بعنف وطرده من الجمعية، فعم الصمت بينما جرَ الثاني ذيول هزيمته خارجاً من السطح، صرخ الأستاذ قائلاً أنا لا أحب لعب الأطفال أبداً، تلك الحركات لا بد من الرد عليها فوراً.. لوهلة اقشعر بدني وكأن كلامه كان موجهاً إليّ.
طلب الأستاذ بعدها إيقاف الموسيقى، فلقد توتر الجو العام ولا بد من تغيير المزاج، قرر أن يقرأ علينا شيئاً من أشعاره الجديدة، ومد يده إلى الحقيبة وأخرج منها دفتري، يا إلهي، يا إلهي، ماذا يفعل الأستاذ، يجب عليّ أن أوقفه وأعلن عن خطئي ولكنه أمسك الدفتر قبل أن يسمح لي بالنهوض، شعرت بخزيان شديد وخجل لا نهاية له وأنا أراه يقلب في دفتري الشعري الأسود الذي أكتب عليه مسودات قصائدي الشعرية، أمسك الأستاذ بالدفتر ولسبب ما لم يدرك أنه ليس دفتره، وبدأ بقراءة قصيدتي الأخيرة أنا، كان الموضوع محيراً ومحرجاً، هل أنتظر لأسمعه يقرأ ومن ثم يشتم عمّن ذا الذي وضع تلك القصائد الرديئة في حقيبته أم أنتظر حتى ينهيها وأتدخل، أم أنتظر بالفعل وأسمع منه رأيه الحقيقي دون مواربة بأشعاري، بل ورأي الجمهور الصعب هنا في تلك الأشعار، كان الموقف محرجاً جداً وصعباً عليّ، لا لن يحدث هذا مطلقاً فهو لن يقرأ أكثر من سطر واحد وسيعلم على الفور ورغم ما شربه من كحول بأن هذه الكلمات ليست من شعره، فلغته أقوى وصوره الشعرية أكثر جزالة وتماسكاً مني أنا المغمور المهمل في أقاصي الدنيا.. ولكنه أكمل، أكمل في قصيدتي التي كتبتها لنجاة، حبيبتي، ولكنني لم أعطها لها لأنني ظننت أنها ضعيفة وركيكة.
كان يقرأ وكنت أتمتم معه كلماتي الصادقة، قرأ صورة مجازية لم أكن راضياً عنها ولكم وددت أن أصححها ولكن الكسل الشعري كان قد أصابني فلم أفعل، وأكمل بصوته القوي وإلقائه الفذ قصيدتي تلك، ولوهلة أحسست أن تلك القصيدة ليست لي من فرط جمال لغتها وهي تخرج من فمه، كانت قصيدة عذبة تتدفق من حنجرته كتدفق النبع من الصخر القاسي، وكان الجميع يستمعون إليه في غاية الإنصات والشغف، لم أكن لأقرأها بمثل هذا الجمال الأخّاذ، وتوالت مقاطع قصيدتي “الرقص تحت إيقاع السماء” على مسامع جميع من حضر بدأ بوصف وجه حبيبتي وجمال جسدها وبدأت أتوتر فلم أعد أميز بين الشعر والواقع وبين قصيدتي وقراءته، هل هذه فعلاً كلماتي أم أن الأستاذ رأى صورنا معاً في الحقيبة وأثارته براءة وجمال نجاة، أم أنني فعلاً من كتبت هذا المجون الشعري، كان الجميع ينصتون ملء أسماعهم ومنهم من يتأوّه لصورة ما ومنهم من يهز رأسه لفكرة شعرية أخرى، بدا الجمع في لحظة لا نهاية لها يمتص قصيدتي بصوت الأستاذ، حتى لتبدو وكأنها تحفر أخاديد في أرواحهم، وحينما وصل إلى وصف عنقها وأسفل رقبتها انتفضت، بدأت أشعر بغيرة ما ورغبت أن أنهض وأصرخ بأن هذه القصيدة لي وأن هذا الدفتر لي، ولكن من سيصدقني، كنت على استعداد للطلب بأن يقلب أحد ما في الدفتر ليجد رسوماً بقلم الرصاص لنجاة حبيبتي رسمتها لها منذ فترة حينما كنا على ضفة النهر، أو ليروا اسمي وتجارب توقيعي على الصفحة الأخيرة وأنا أتمرن باحثاً عن توقيع جميل أعتمده نهائياً ولكنني لم أفعل، لم أفعل، لم أفعل. شعرت بدلاً من هذا برغبة كبيرة في التبوّل والذهاب إلى الحمام، كانت مثانتي تضغط عليّ وكأنها ستنفجر مما جعلني أتشوش وأشعر باضطراب كبير، تابع الأستاذ قراءة المقطع الأخير من قصيدتي وشهقات النساء قبل الرجال تتناوب على شفاه من يسمع، قرأ السطر الأخير، والكلمة الأخيرة وأتبعها بكل هدوء، بالإهداء، إلى نجاة.
صمت مقفلاً الدفتر وكأنه لم يفعل شيئاً، كان بين سكرة و صحوة مبتسماً لسيل التصفيق الذي انهال عليه، متبوعاً بقبل ومصافحات وكؤوس وأنخاب، بينما جلست محتقناً بوجهي الأصفر أكل نفسي من الداخل، نهض الجميع وأطلقوا العنان للموسيقى من جديد.
بينما أمسك الأستاذ عبدالمنعم بيدي شابة وشاب وبدأ يرقص رقصة الدبكة الشهيرة، وحينما رآني صرخ بي بعينين تلتمعان وبسمة صفراء خاصة لي، قائلاً: ضع صحنك على الطاولة وتعال ارقص معنا، هذه الرقصة من اختراعي، أسميتها “الدبكة رقم 5”.. إنها تشبه الأغنية التي يبثونها على التلفزيون المسماة “المامبو نمبر فايف”، نظرت إليه أستطلع جديته، بدا لي بشعره الأشعث الأبيض الذي استطال يمنة ويسرة وكأنما وجهه بدأ بالتحول إلى الشيطانية، بدا وكأن عينيه تقدحان باحمرار مخيف وجسمه العجوز يضج بالحركة والصخب مثل المرضى المنبعثين من الموت، كان شكله مخيفاً، ومقززاً.
لم يكتف الأستاذ بنهب قصيدتي، بل نهب إحساسي بها، مشاعري العاطفية التي حولتها إلى قصيدة في ذلك اليوم، لم يتبق إلا أن يسرق قبلتي التي اختلستها سراً من المارة لشفاهها الوردية مما جعل وجهها يحمر حمرة البنات الصغار، لقد انتهك قصيدتي وانتهك حبيبتي كذلك، وأنا كنت صامتاً ساكناً، أتفرج عليه يشرح للناس تفاصيل جسد حبيبتي، بينما كان عبدالمنعم يتقافز وهو يدبك دبكته المسماة “الدبكة رقم 5” وهو في غاية السعادة والفرح، التي لربما استعارها من أحد ما أيضاً. في حين الجميع يتسابق ويتهافت لكسب وده ورضاه، كيف لا وهو بتلك الحساسية والرهافة والقوة أيضاً.. لثوان.
وفي خضم تلك الفوضى، نهضت دون أن يراني أحد وخرجت من باب السطح المكتوب عليه “الجمعية الأدبية” وهبطت الدرج وعند باب بيته رميت حقيبته ووضعت مخالفة المفتش على الباب ومضيت، وحينما وصلت إلى باب العمارة، ذهبت إلى خلفها وبدأت أتبول بقوة وشدة على جدار الجمعية الأدبية من الأسفل، استقللت الباص الأخضر وخلال عشرين دقيقة كنت جالساً في مقعدي في الباص المتجه إلى بلدتي البعيدة، لا أريد من كل هذا الدنيا سوى أن أبتعد وأبتعد وأبتعد، وأنا أضحك لوجه نجاة التي تنتظرني.