السرد التاريخي والرواية التاريخية
لا يمكن الحديث عن الأدب إلا من خلال أجناسه. كما أنه لا يتأتى لنا تناول أيّ جنس منها بدون الانطلاق من أحد أنواعه. يتقاسم الإحساس بنوعية الأجناس الأدبية كل من القراء والكتاب، ضمنا أو مباشرة. فحين يقرر كاتب ما إبداع عمل أدبي، فهو ينتجه في نطاق القصة أو الرواية أو القصيدة مثلا، ضمن تصور عام للأدب تلتقي فيه كل الأشكال الأدبية. وفي الوقت نفسه، يبدع ذلك الأثر في نطاق النوع الخاص الذي ينشغل به، مراعيا في ذلك القواعد الخاصة بهذا النوع على وجه الإجمال. ويمكن قول الشيء نفسه عن القارئ. فالذي يتجول بين الأروقة الخاصة بالأدب في مكتبة خاصة أو عامة، يختار منها ما يتلاءم مع ميولاته. إن عاشق الرواية البوليسية غير المهتم بالرواية العاطفية، أو التاريخية. وقس على ذلك. وكل قارئ لأيّ نوع تتشكل لديه خطاطات عامة لقواعد أيّ نوع فيمكنه ذلك، عبر التفاعل مع ما يقدمه له الإنتاج الأدبي، من تحقيق المتعة أو الفائدة المراد تحصيلها من وراء عملية القراءة.
الدراسة الأدبية تختلف باختلاف الاتجاهات والمدارس والحقب التاريخية. فالناقد غير العالم، وهما معا غير المربي، أو الإعلامي. فالناقد، حين يدرس الرواية يكون أحد اثنين: إما أنه يؤمن بنظرية الأجناس، ويفرض عليه ذلك التعامل مع العمل وفق إجراءات ومقتضيات النوع لغايات ومقاصد ينشدها من وراء هذا الاهتمام. وحين يكون العكس يشتغل بأيّ نص سردي بغض النظر عن انتمائه النوعي، وتكون لذلك أهداف أخرى.
الأدب ونظرية الأجناس
لا يمكن الاشتغال بالنوع السردي إلا من عنده تصور عام عن الجنس السردي، وفي نطاقه يتعامل مع أيّ نوع. لذلك نجد الدراسات التي تهتم بالأجناس ونظريتها قليلة بالقياس إلى الدراسات النقدية. إن أول أثر عمِل على تأسيس نظرية متكاملة لأجناس القول والإبداع تحقق مع أرسطو في كتابه “البويطيقا”. وظل هذا الكتاب يمارس تأثيره في تصنيف الأعمال إلى القرن العشرين. بل إن أثره امتد إلى الدراسات العربية التي ظلت تنطلق منه في تصنيفها، ولا سيما في العصر الحديث تحت تأثير الدراسات الأدبية الغربية. لا ريب أن هناك محاولات كثيرة حاولت القيام بهذا العمل لكنها لم تصل قط إلى “القانون” الذي سطره أرسطو. ولعل أهم إعادة قراءة بويطيقا أرسطو من حيث تركيزها على البعد الجنسي تتجلى فيما قام به جيرار جنيت في كتابه “معمارية النص”.
وفي العصر الحديث، وبسبب تغير أشكال التعبير وتعددها، بدأت تظهر محاولات جديدة، لكنّ أيّا منها لم يصل إلى المنتهى الذي يمكن أن يقدم صورة متكاملة وشبه نهائية لما يمكن أن تكون عليه الأجناس والأنواع وقد تنوعت بتنوع الوسائط، وتعددت بتعدد التجارب الإبداعية. فكان أن بدأت تظهر قناعات باستحالة التمييز بين الأجناس والأنواع لزئبقيتها، وتداخل بعضها مع بعض. ومع هيمنة مقولة النص تحت تأثير الدراسات اللّسانية، بدأ يقع التسليم بلا أهمية الجنسية والنوعية. هذه الدعوى تلقفها التجريبيون من الكتّاب، ودافع عنها ثلة من النقاد. لكن ذلك لم يمنع من استمرار التمييز بين الجنس والنوع، لدى الكثيرين من القراء والمبدعين في الغرب، وأغلب الدراسات الأدبية المعاصرة تتعامل مع الأدب من خلال أجناسه وأنواعه. بل إن العديد من الاختصاصات قصرت اهتمامها على جنس معيّن (السرد مثلا)، أو التركيز على نوع خاص منها (الرواية البوليسية مثلا). أما في الوطن العربي بسبب غياب الاهتمام بالدراسة الأدبية من مختلف جوانبها، فقط تم تعطيل الوعي الجنسي والنوعي، فكان عدم التمييز واقعا يشهد به الإبداع والنقد معا.
الرواية العربية بلا أنواع؟
لقد تطورت الرواية العربية منذ منتصف القرن الماضي، وصار لها حضور يفرض نفسه على غيرها من الأجناس والأنواع، ولا سيما الشعر الذي ظل يحتل المكانة الأساسية في الإبداع العربي. وإذا كان الحديث عن الأنواع الروائية العربية ممكنا قبل هذا التاريخ (رواية تاريخية، واقعية، رومانسية، رمزية، رواية جديدة…) فإنه منذ هيمنة مفهوم النص في الأدبيات العربية تقلص الاهتمام بها، وصار ادعاء كتابة “رواية” كافيا للدلالة على عمل له شرعيته الإبداعية.
إن عدم التمييز بين الأنواع الروائية العربية جعل كل عمل سردي، أيّا كانت طبيعته “رواية” ما دام الكاتب يضعها مُناصّا لعمله. لا فرق في ذلك بين رواية في تسعين صفحة، وأخرى في مئتين، وثالثة في ثلاثية أو خماسية. كما أنه لا فرق بين الرواية حسب الموضوع أو الطبيعة أو الوظيفة. كل شيء رواية. كما أن الدراسات الأدبية العربية، وهي تهمل البحث في أنواع الرواية التاريخية، أو في تغييب أيّ قراءة للرواية وهي تتصل بالتاريخ مثلا ظلت حبيسة تحليل نصي، بغض النظر عن قيمته، لا يبحث إلا في ما تشترك فيه الروايات المختلفة، فكان ذلك حائلا دون التوقف عن خصوصيتها في تعاملها مع التاريخ.
حين نتجاوز هذا الواقع المعطى في الوطن العربي نجده مختلفا عما تعرفه الآداب العالمية المتطورة حيث الأنواع الروائية متعددة، وهي تثرى بجديد الأنواع المستحدثة، ولا أدلّ على ذلك من الرواية التاريخية التي ما تزال تحظى بمكانتها السردية، بل إنها ازدادت وتضاعفت منذ أواخر القرن الماضي، وسط الأنواع الروائية الأخرى، وقد عرفت تطوّرات كبيرة في صيرورتها جعلتها تختلف عمّا كانت عليه منذ تشكلها في الآداب الغربية.
إذا أخذنا الرواية التاريخية نجدها قد تأسّست في الوطن العربي على يد جورجي زيدان في بدايات القرن العشرين، على غرار الرواية التاريخية الغربية، وكتب في نطاقها الكثير من الروائيين العربي إلى خمسينات القرن الماضي مشددين بشكل أو بآخر على أنهم يكتبون الرواية التاريخية. لكن منذ الستينات صار التأفف من اعتبار روايات تنطلق من مادة تاريخية محددة رواية تاريخية. وظل هذا المنوال ساريا، إلا فيما ندر إلى الآن. ونجد ترجمة لذلك على مستوى الدراسات الأدبية في إقدام الباحث عبدالله إبراهيم على استبدل “الرواية التاريخية” بما أسماه “التخييل التاريخي” بحجة أن ذلك “سوف يدفع بالكتابة السردية المتصلة بالتاريخ إلى تجنب ما يثار حولها من خلاف كلما نوقشت قضية الأنواع [الأجناس] الأدبية، وحدودها، ووظائفها، وسيتولى فضلا عن ذلك، ردم ثنائية الرواية والتاريخ”.
إن اقتراح هذا الاستبدال لا مبرّر لها منهجيا ولا نظريا. ولعل السؤال حول قيمته المضافة إلى التحليل يمكننا من معاينة أن تجنب ما يثار حول قضية الأجناس الأدبية لا يضيف شيئا بل إنه يكرس تصورا يناقضه واقع الحال. إن نظرية الأجناس مبحث مركزي في الدراسات الأدبية كيفما كان اتجاهها. كما أن ردم ثنائية الرواية والتاريخ يجعلنا نتساءل ما معنى هذا الردم؟ فالرواية رواية، والتاريخ تاريخ. ولا يمكن إلا أن تقام بينهما علاقات متعددة الأبعاد، والأشكال. إنّ بوسع الرواية أن تقيم علاقات مع الجغرافيا، والاجتماع، والنفس… دون أن تفقد خصوصيتها لأن المسألة تتعلق بكيفية التعامل مع الاختصاصات والموضوعات. وهذه الكيفيات هي التي تحدد الأنواع الروائية، وتؤكد إمكانية تطورها.
إن استعمال “التخييل التاريخي” محل “الرواية التاريخية” يعني استبدال مصطلح نوعي بآخر. وأيّ نوع، كيفما كان، إذا ما أتيح له أن يتطور في الزمان، ويستقطب الاهتمام الإبداعي، لا يمكنه إلا أن يعرف تحولات على مستوى بنياته ووظائفه، فيصبح بذلك متضمنا لأنواع فرعية، تماما كما وقع مع الرواية التاريخية الغربية والعربية أيضا. ومعنى ذلك بكلمة أخرى، أن التخييل التاريخي قابل لأن يتضمن أنواعا فرعية مع الزمن، وإلا كيف تتساوى الروايات في تعاملها مع التاريخ؟ فهل استبداد المماليك هي السائرون نياما؟ وهل معا هما الزيني بركات أو العلامة؟ وقس على ذلك. إن العلاقة بين الرواية والتاريخ لا ينبغي أن تردم، ولكن علينا أن نعمل على استكشافها لمعاينة كيف يبني الروائي علاقته بالتاريخ؟ ولماذا؟ وبأيّ طريقة؟ ولأيّ مقاصد؟ ويمكننا الجواب عن هذه الأسئلة من تحديد الفروقات بين الروايات وهي تتعامل مع التاريخ من خلال الوقوف على نوعياتها.
السرد التاريخي والرواية
إن رؤية التاريخ والرواية من خلال البعد السردي الذي يجمع بينهما جدير بأن يحملنا على التمييز بين السرد الأدبي عامة، والروائي على وجه الخصوص، والسرد التاريخي، من جهة، ومن جهة أخرى، يدفعنا إلى البحث في العلاقة الممكنة والمحتملة بينهما من جهة أخرى. لماذا نكتب التاريخ؟ ولماذا يستقي الروائي مادته منه؟ للجواب عن هذين السؤالين، وهما يتعلّقان بوجود كل منهما، لا بد لنا من منظور سردياتي تدقيق الموضوع التاريخي الذي يتعامل معه المؤرخ والروائي، وإلا صار كل شيء تاريخا، وكل إبداع روائيا؟ فالمادة التاريخية التي يقدمها الإخباري ليست هي التي يقدمها المؤرخ أو فيلسوف التاريخ؟ ويمكن قول الشيء نفسه عن الروائي. فالروائي الذي يبني رواية على مادة تاريخية جاهزة لأنه يحتاج إلى مادة حكائية فقط، ليس هو الروائي الذي لا تهمه المادة، ولكن يعنيه تقديم رؤية خاصة عن الإنسان بغض النظر عن الزمان.
إن كتاب التيجان ليس مروج الذهب أو تاريخ بغداد أو تاريخ دمشق، أو كتاب العبر. قد نجد السرد التاريخي في كل هذه المصنفات، لكنه يختلف من كتاب إلى آخر. كما أن الفعل السردي في كل هذه الكتب ليس فقط طريقة لتقديم المادة التاريخية، ولكنه أيضا تعبير عن رؤية، وله مقاصد خاصة لا يمكننا تبينها إلا من خلال التركيز على البعد النوعي في الكتابة التاريخية. ويمكن قول الشيء نفسه عن الرواية التاريخية فالكتابة عن فضاء تاريخي، أو عن شخصية تاريخية، أو اختيار فترة معينة من الزمان تعبير عن اختيار نوعي، لمقاصد محددة. كما أن اعتماد روائي ما مادة لا علاقة لها بمرجع تاريخي محدد من خلال اعتماد زمن غابر، وبمختلف المؤثثات التاريخية يمكن أن يشترك مع رواية أخرى تعود بنا إلى مرجعية تاريخية معينة إذا كانت الطريقة المعتمدة مشتركة، ويمكنها أن تختلف باختلافها.
الرواية التاريخية نوع سردي معترف به عالميا. وككل الأنواع تتعرض للتطور أو التراجع. وهي حين تتطور فهي تتجاوب مع التطورات الطارئة على مستوى فهم التاريخ والإنسان والواقع، ولا يمكن لذلك إلا أن يجعلها في صيرورتها تفرز أنواعا جديدة من الرواية التاريخية. هذا هو واقع الرواية التاريخية عالميا، وهو نفسه الواقع الذي عرفته الرواية التاريخية العربية، سواء أقرّ بذلك الروائيون، أو رفضه النقاد. ما أسهل أن نلغي جنسية الإبداع ونوعيته، وما أصعب استكشاف الخصوصيات النوعية الفرعية لنوع يفرض نفسه لأن ذلك يدفعنا إلى البحث وبذل الجهد المضني. وإذا كانت للمبدع الحرية في أن يدعي ما يشاء، فعلى الباحث أن يستكشف الحقيقة المتوارية وراء الأشياء.