رهانات الرواية التاريخية الموجهة إلى اليافعين
تمثل الرواية التاريخية الموجهة إلى اليافعين اليوم قسما أساسيا من أقسام أدب الطفل، يشهد في الغرب لاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا رواجا منقطع النظير ويختص فيه كتاب ونقاد وتوضع فيه أطروحات جامعية على غاية من الأهمية. فمنذ أن أصدر الأديب الإنكليزي فريدريك ماريات سنة 1847 رواية “أطفال الغابة الجديدة” التي اعتبرها النقاد أول رواية تاريخية موجهة لليافعين، وهذا النوع من الأدب القصصي الموجه إلى الطفل في تطور ونمو مطّردين.
وتعدّ الرواية التاريخية الموجهة إلى اليافعين فرعا من فروع الرواية التاريخية التي ظهرت في الغرب مع مطلع القرن التاسع عشر على يد الروائي الأسكتلندي والتر سكوت (1771- 1832) بدءا من روايته المؤسسة لهذا الجنس الروائي الفرعي ” ويفرلي” ثم روايته الشهيرة “إيفانهو” (1819).
فقد التفت هذا الروائي إلى التاريخ الساكسوني القديم واستقى منه مادة رواياته جامعا بين شخصيات تاريخية واقعية وأخرى تخييلية، مؤصلا إياها في بيئة تاريخية واقعية ودافعا بها في مغامرات وأحداث لها بماضي إنكلترا وما عرفته من أحداث تاريخية وسياسية وحضارية صلاتٌ واضحة لا لبس فيها. ويجمع مؤرخو الرواية التاريخية أنّ ظهورها في الغرب قد تزامن مع تصاعد الحس القومي وبروز الحركة الرومنسية في الأقطار الأوروبية التي كان من بين اهتماماتها إحياء البطولات الوطنية التاريخية الفردية والجماعية، سعيا إلى إحياء روح الشعب وتحقيق عملية الانبعاث الحضاري.
ولعل أمر الرواية التاريخية العربية لا يختلف كثيرا عن نظيرتها الغربية. فقد ظهرت هي الأخرى في الربع الأخير من القرن التاسع عشر في الفترة الزمنية المصطلح عليها بـ”عصر النهضة” العربية، على أيدي سليم البستاني ويعقوب صروف وأنطون فرح، حين اشتدّ حلم المفكرين والمثقفين العرب بإعادة إحياء الحضارة العربية والقضاء على الجهل والتخلف.
ثم تطورت الرواية التاريخية العربية واشتدّ عودها في بداية القرن العشرين مع جورجي زيدان الذي تخصص فيها ونحت معالمها الفنية الأساسية، في مرحلة ازدادت فيها أحلام العرب بالتغيير والتحرر من ربقة الاستعمار. وفي منتصف القرن العشرين شهدت الرواية التاريخية العربية أوج ازدهارها على أيدي كتّاب ينتمون إلى أقطار عربية مختلفة نذكر منهم نجيب محفوظ ومحمد علي باكثير وعبدالحميد جودة السحار وعلي الجارم في مصر، والبشير خريف في تونس، وشكري غانم في لبنان، ومعروف الأرناؤوطي ونبيل سليمان في سوريا…
ولئن نحت المعاجم إلى تعريف الرواية التاريخية بتأكيد اتصالها بالجوانب التاريخية فعرّفها معجم “روبار” بأنها “الرواية التي تستعير حبكتها من التاريخ”، وعرّفت في معجم “لاروس” بـ”الرواية التي يستوحى موضوعها من الأحداث التاريخية”، فإنّ النقاد انتبهوا إلى ما تقوم عليه الرواية التاريخية من تداخل بين العناصر التاريخية التسجيلية والعناصر التخييلية الروائية. فقال جورج لوكاش في كتابه المرجع “الرواية التاريخية” إنها “الرواية التي تتخذ خلفيتها العميقة من التاريخ ولكنها لا تنقل التاريخ بحرفيته، بقدر ما تصوّر رؤية الفنان له وتوظيفه هذه الرؤية للتعبير عن تجربة من تجاربه، أو موقف من مجتمعه يتخذ من التاريخ ذريعة له”.
وعن هذا التعريف تناسلت أغلب التعريفات المقدمة لهذا الجنس الروائي الفرعي، فعرّفها الناقد تيريولت بأنها “الرواية التي تستعير شخصياتها من التاريخ وتختلق لها أقدارا جديدة، أو تستعير الأحداث من التاريخ وتدخل تحويرات على الشخصيات”، وقال الناقد ويلهملي عنها “الرواية التاريخية هي بشكل ما الخيال في خدمة التاريخ”، وذهب نيلود إلى أنها “سرد تتداخل فيه عناصر تخييلية بدرجة تتفاوت في القوة مع عناصر تاريخية حقيقية، فيبدو المؤلف حريصا على أن يحيي أشخاصا خالدين يضفي عليهم كل ما يذكّر بمرحلة تاريخية سابقة”، ويرى الباحث ريو أنّ “الرواية التاريخية هي اللقاء بين التاريخ والحكاية التخييلية”.
وعلى هذا النحو فقد مثلت إشكالية العلاقة بين التاريخي والتخييلي في الرواية التاريخية محورا أساسيا من محاور النقاش النقدي والفكري والمنهجي الذي حفّ بتقبل الرواية التاريخية في الأدبين الغربي والعربي على حد سواء. ذلك أنه يفترض بالرواية أنها جنس أدبي سردي خالص التخييل عماده كتابة تبتدع الأحداث والشخصيات من وحي خيال المؤلف.
أما التاريخ فهو علم يسعى عبر الوثائق والمستندات الواقعية والآثار المادية، إلى معرفة الماضي معرفة دقيقة موضوعية. ولكن أليس التاريخ هو الآخر، منذ الإغريق إلى اليوم، كتابة تحتوي على جانب لا بأس به من السرد؟ وألا يقرأ المرء كتب التاريخ ليطّلع على حكايات الإنسان القديم ومغامراته في الوجود؟ وفي المقابل هل تستطيع الرواية مهما أغرقت في التخييل أن تمتنع عن الإحالة على العالم والتاريخ؟ ألا نسمع ونحن نقرأ الروايات أصداء قوية من التاريخ؟ وألا نرى في تقلبات مغامرات الشخصيات التخييلية آثارا من تقلبات التاريخ الإنساني في الاجتماع والسياسة، وفي الحرب والسلم؟ وفي نهاية المطاف ألا ترتدّ الرواية مثلها مثل التاريخ إلى مصدر واحد وغاية وحيدة هما الإنسان؟
ولكن مهما يكن من أمر فإنّ إشكال تبيّن العلاقة بين التاريخي والتخييلي يظل قائما. ولعله من صالح الكاتب الذي يكتب الرواية التاريخية أن يديم التفكير في هذه المسألة، وأن يبحث عن إجابات واضحة تحدد طريقه في الكتابة، لأسئلة مهمة من قبيل: ما العلاقة الواجب قيامها بين الروائي والتاريخي؟ هل الكاتب روائي يخيّل التاريخ أم هو مؤرخ يؤرخن التخييل؟ وأين تتوقف الحقيقة وأين يبتدئ الاختلاق؟ وما هي الغاية الألحّ من استدعاء الماضي؟ فهل نكتب الرواية التاريخية لتكرار الخطاب التاريخي السائد وانتساخ كتب المؤرّخين؟ أم للروائي غايته الخاصة المستقلة؟ وكيف تحضر هواجس الحاضر في حكايا الماضي؟
ولعل السؤال الأهم الذي تنبني على الإجابة عنه اختيارات الروائي السردية والفنية هو: هل الرواية التاريخية قصة عن التاريخ أم قصة في التاريخ؟ أي هل هي إعادة كتابة لأحداث حقيقية ومصائر شخصيات لها وجود تاريخي؟ أم هي ابتداع لأحداث وشخصيات من الخيال يُزجّ بها في إطار تاريخي محدد؟
إنّ هذه الأسئلة تصبح أخطر وأشد إلحاحا حين يتعلق الأمر بالرواية التاريخية الموجهة إلى اليافعين. فلئن كانت مثلها مثل الرواية التاريخية الموجهة للكهول تقوم على توظيف التاريخ روائيا وتعتمد عامة المزاوجة بين التخييل والتاريخ، فإنّ لها خصوصية مهمّة لا بد على مؤلف الرواية التاريخية الموجهة إلى اليافعين أن ينتبه إليها ويأخذها بعين الاعتبار وهو ينشئ نصه.
وتكمن هذه الخصوصية بالذات في هويّة قارئها وخصائصه العمرية والنفسية والذهنية. فالقارئ اليافع ليس شأنه مع الرواية التاريخية كشأن الكهل يقبل عليها تسلّيا أو حبا للاطلاع أو بحثا عن فائدة أدبية أو فكرية مّا. إنّ حاجات القارئ اليافع إلى الرواية التاريخية تشتمل على ما ذكرنا من حاجات الكهل، ولكنها تضيف إليها حاجة أخرى أعظم وأخطر ترتبط بتكوين اليافع وبداية اتصاله بالعالم حوله.
ذلك أنّ الدراسات النفسية والتربوية المتعلقة بفترة المراهقة تؤكد جميعا أنّ هذه السنّ الحرجة من عمر الطفل واليافع هي السن التي يبدأ فيها بالانتباه إلى التاريخ في إطار استكماله إدراك المرجعيات الزمانية والفضائية المحيطة به، والوعي بأنه فرد في المجتمع ذو امتداد بعيد الجذور في الماضي والأرض. فلعل الرواية التاريخية الموجهة إلى اليافعين هي إذن أكثر ضروب أدب الطفل التي يتوجب فيها على المؤلف أن يأخذ بعين الاعتبار سنّ قرائه، وعلى أساسها يبني إستراتيجيا الكتابة عنده.
وأول خطوة يخطوها في ذلك هي أن يدرك أنه إذ يكتب لليافع رواية تاريخية، فإنه بذلك يساهم في تربيته وتكوينه وتدريبه على الاندماج في المجتمع. الخطوة الثانية هي أن يتساءل الكاتب عن الطريقة التي يتوجب عليه اتباعها ليكون عمله مثمرا. ولزاما عليه هنا أن يحدد العلاقة التي ينبغي أن تقوم في نصه بين التخييلي والتاريخي، وهي علاقة تختلف بالضرورة عما يحددها لنفسه الروائي التاريخي الذي يكتب للكهول.
فينبغي على الرواية التاريخية الموجهة إلى اليافعين أن لا تكون مغرقة في التخييل فقيرة من حيث المادة التاريخية التي تزوّد بها قارئها، وعليها في الوقت نفسه أن لا تكتفي بنقل المادة التاريخية وتزهد في الجانب القصصي التخييلي فتغدو محض تأريخ لا يزيد معه النص الروائي على أن يكون تتمّة للكتاب المدرسي فينفر منه القارئ الطفل واليافع.
إنّ للروائي الذي يكتب للكهول الحق في أن يختار الجنوح إلى أحد مكوني الرواية التاريخية، التخييل أو التاريخ، وفق الغاية التي يرسمها لنصه. أما الذي يكتب رواية تاريخية لليافعين فعليه أن يراعي طبيعة قارئه اليافع، فيجتهد في أن يكون نصه بديعا في تخييله، موضوعيا دقيقا في تأريخه، مفيدا معلّما في معارفه.
أما الخطوة الثالثة التي على مؤلف الرواية التاريخية الموجهة إلى اليافعين أن يخطوها ويتأنى فيها إذ لعلها أخطر الخطوات جميعا، فهي التفكير مليّا في الأهداف التي يرنو إلى تحقيقها من مشروعه: لماذا نكتب رواية تاريخية لليافع؟ لماذا ننقل اليافع إلى الماضي وفي حاضره مواضيع جمّة تصلح أن تكون قصصا؟ هل لمجرد إعادة استثمار التاريخ أدبيا فحسب أم ثمة دواع ومقاصد أخرى أهم؟
إنّ وضوح الإجابات عن هذه الأسئلة لدى المؤلف أمر على غاية من الأهمية لأنّ على أساسها تتحدد درجة نجاح مشروعه من فشله. وعلى قدر وعي الكاتب العربي بأنّ لعمله أهدافا أرفع منزلة من مجرد نقل التاريخ ومحاكاته، يضمن لنفسه التوفيق ولقارئه الإفادة ويساهم في تطوير الرواية التاريخية العربية الموجهة إلى اليافعين ويجعلها في مصاف ما يعرفه اليوم هذا الجنس الروائي الفرعي في الدول الغربية من تطور وانتشار بين القراء اليافعين.
إنّ دور الرواية التاريخية أبعد شأوا في الحقيقة من أن تكون تسلية أو تعريفا بالتاريخ فحسب. صحيح أنه لا بد وأن تكون مسلّية لليافع ومزوّدة له بالمعارف الصحيحة عن التاريخ، ولكن هذا كله ينبغي أن يصب في غاية أكبر وهي تدريب قارئ اليوم اليافع على أن يكون مواطن الغد الكهل الذي يدرك جيدا موقعه في التاريخ، تاريخه الوطني والقومي وتاريخه الإنساني أيضا، ويعرف أنّ وجوده الفردي اللحظي هو جزء من وجود أكبر ممتد في الزمن عليه أن يحافظ على مزاياه ويصلح من معايبه ويضيف إلى تراكماته الممتدة حقبا في الزمن.
وفي ذلك يقول مارك سوريانو مؤلف الروايات التاريخية الموجهة إلى اليافعين “أن يصبح المرء كهلا فذلك يعني في نهاية الأمر أن يمرّ من ديمومة محصورة في عيش اللحظة، إلى زمن ممتد يحتوي الماضي والحاضر والمستقبل، أي المرور إلى تاريخ هو تاريخنا نحن ولا شكّ ولكنه في الوقت نفسه ليس تاريخنا إلا لأنه يتحاور مع تاريخ الإنسانية جمعاء“.
وعلى هذا النحو تساهم الرواية التاريخية الموجهة إلى اليافعين في إنشاء المواطن الكهل المتحمل للمسؤولية المتسلح بالفكر النقدي من جهة، وفي حفظ الذاكرة الجماعية وتيسير التواصل بين الأجيال وجعل التاريخ حيا في الحاضر من جهة ثانية.
بيد أنّ الرواية التاريخية الموجهة إلى اليافعين مثلها مثل الرواية التاريخية عامة لا تغوص في الماضي لتنقطع عن الحاضر، بل على العكس تماما إنها لا تسافر إلى الأزمنة السابقة إلا وهي محمّلة بهواجس الحاضر. لذلك فعلى مؤلف الرواية التاريخية الموجهة إلى اليافعين أن يضع نصب عينيه في الخطوة الرابعة من مشروعه، أولويةَ التفكير في الجسور التي يمكن أن يقيمها بين ماضي قارئه اليافع وحاضره ومستقبله، وأن يحسن البحث عن الأحداث التاريخية المحلية والقومية والإنسانية عامة التي يمكن أن تفيد القارئ اليافع في فهم حاضره، وأن يجيد تخيّر مشاهير الأعلام التاريخيين الذين يمكن أن يستمدّ القارئ في سيرهم قيما إنسانية عليا تساعده في مواكبة عصره.
لذلك فإنّ كل عودة إلى التاريخ لاستثماره قصصيا، هي بالضرورة عودة قائمة على اختيار وانتخاب ودراسة يعتمد فيها المؤلف إلى حدّ كبير على المضامين والقضايا التي تبدو له متصلة بحاضر المتلقي اليافع، قادرة على إفادته في فهم عالمه المعاصر اليوم.
إن كتابة الرواية التاريخية الموجهة لليافعين مسؤولية كبيرة في حق أجيالنا القادمة لا بد أن يتسلح لها المؤلف بمعرفة واسعة بالتاريخ، وحسن اختيار للّحظة التاريخية التي يمكن أن تقدّم له مادة ثرية يجد فيها رسالة إلى قرائه الصغار تتوافق وما نريد لهم من تشبّع بقيم الخير والجمال والعدل والتسامح والسلام.
ولا يمكن لرواية تاريخية موجهة إلى اليافعين أن تنجح إلاّ متى وعى صاحبها بأنه يختزن في شخصه لحظة الكتابة، أشخاصا آخرين يتعاونون جميعا لخدمة الطفل: فهو القاص الأديب، وهو المؤرخ الأمين، وهو البيداغوجي الفطن، وهو المنغرس في حاضره اليوم العارف دقيق المعرفة بما يحيط بالطفل من تهديدات هي أخطر من الأسلحة المدمرة لأنها لا تريد أن تصيب منه الجسد والأطراف ولكن العقل والأفكار.
هذه المعطيات جميعها تجعل النهوض بالرواية التاريخية الموجهة إلى اليافعين ضرورة قصوى اليوم لإزالة الغبار عن لحظات تاريخنا المشرقة وما أكثرها، وتجذير الطفل العربي في بيئته الخاصة ووصله بالروافد التاريخية الإنسانية عامة، وتعويده على التعامل مع تاريخ الذات وتاريخ الآخر على حد سواء تعاملا موضوعيا نقديا دون تقديس ولا تبخيس، والتصدي لمن يحرّف التاريخ ويقولبه ليسيطر به على عقول ناشئتنا سعيا منه إلى أن يخرجهم من الماضي والحاضر والمستقبل..