حب الوطن لا يعني "بلدنا أولا"
لا ضير أن نحب أوطاننا. هذا هو الطبيعي. الوطن هو مرحلة التأسيس العاطفي والنفسي. إسأل الفقير والثري، وسيتغنيان بالوطن. إسأل المدلل والمضطهد وسيجتمعان على حب البلد. إسأل المقيم والمهاجر. إسأل البسيط والمثقف، الشاب والشيخ، المرأة والرجل. لعل هذا الحب من أكثر الإجماعات التي من الصعب أن يجادل بها أحد. حتى الخائن سيبرر خيانته بأنه ما فعل ذلك إلا حبا بوطنه. الوطنية شيء من الصعب الاختلاف عليه.
ولكن ثمة حدود للوطنية. هذه الحدود من الصعب تعريفها. هل تقف عن حدود البلد الجار؟ هل تقف عند الحدود النفسية التي تتشكل من التربية والعادات والتقاليد الخاصة في كل بلد؟ هل تتوقف عند مصالح كل بلد؟
من السهل أن يتحوّل حب الوطن إلى المغالاة ونصبح في خانة الشوفينيين. قد لا نعلن هذا أو نعلنه. لكن المغالاة بالحس الوطني، مثل كل شيء يرتبط بالمغالاة، قد تصبح خطرا على صاحبها وعلى شعبها.
عاصرت مراحل من هذه المغالاة أو شهدتها في بلدان مختلفة أو سمعتها من سياسيين ومثقفين وعامة. في أغلب الأحيان شهدت نهايات غير سعيدة لتلك المغالاة.
خذ مثلا حملة ساذجة أطلقتها وزارة التجارة البريطانية في بداية التسعينات. تذهب إلى مخزن الأجهزة الكهربائية، فترى الثلاجة المصنعة بريطانياً عليها ملصق بعلم المملكة المتحدة وكتابة تقول "اشتريها بريطانية!" موّلت الوزارة هذه الملصقات وروّجت لها بحملة إعلانات في التلفزيون. ما كانت الإنترنت منتشرة مثل اليوم، وإلا لكنا غرقنا إعلانات تنط من على الشاشات.
ماذا كانت النتيجة؟ قبل نهاية التسعينات، سادت الأجهزة الكهربائية غير البريطانية وبادت "البريطانية". الأجهزة الكهربائية المنزلية اليوم صينية أو كورية. ثمة جيل بريطاني لا يعرف أن بلاده كانت تنتج ثلاجات. ارتدّت الحملة لأنها لم تكن واقعية. وسبب عدم واقعيتها أنها ما كانت تراعي فكرة الإنتاج المعولم، وليس لأن البريطانيين أقل وطنية من الصينيين أو الكوريين. السياسيون، ومعهم من خطط الحملة من أخصائيي التسويق، بل والمثقفين، أخذتهم العزة بإثم المغالاة. قدموا الأحاسيس على الواقع، وراهنوا عليها، ليصطدموا بمعايير مختلفة لدى الناس: السعر والنوعية والدعاية التي تروّج لها بريطانيا نفسها عن أهمية العولمة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
قبل سنوات أيضا تبنت دول عربية شعارات من شاكلة "بلدنا أولا". انتشرت الشعارات بدوافع سياسية واقتصادية. تتجول في هذه العاصمة أو تلك، فتحيط بك الملصقات والجداريات.. "أولا".. "أولا". تحمس السياسيون والإعلاميون وبعض المثقفين للأمر. تحدثوا عنه وكتبوا وصفقوا وروّجوا. تحمس بعض من مواطني الشعوب. ثم اعتادوا على شكل الصور والملصقات والكلمات. وبردت فورة المغالاة من دون أن تحقق الكثير محليا.
لكنها نبهت آخرين للقضية.
لنأخذ مثلا بلدا صغيرا محدود الإمكانيات البشرية والمالية والاقتصادية يقول "بلدنا أولا". ربما تكون دوافعه مختلطة ويريد أن يحمي نفسه بحقنة مغالاة. مثل هذه البلدان تعيش من خلال ما تقدمه من خدمات وقوى بشرية للآخرين، وما تستقبله من الآخرين من دعم ومعونات. يأتي الآخرون ويتجولون في البلد أو يشاهدون على شاشاتهم أو يقرأون في صحفهم عن البلد الذي يستقبلون مواطنيه ويرسلون له الدعم المالي يقول "بلدنا أولا". رد الفعل الطبيعي هو "وبلدنا أيضا أولا". لسان حالهم سيقول "تعلمنا منكم الدرس" و"مواطننا أولا" و"اقتصادنا أولا" و"أمننا أولا" "وفلوسنا لنا أولا".
هذا ما حدث مع عدد من دول المنطقة. دول كانت تعيش بحال معقول وقعت في شرك المغالاة بالحس الوطني أو بالحس الذاتي الشخصي (مواطننا عملة نادرة في تلك الأرض القريبة)، فانتهت وهي ترى "صحوة" الآخرين لهذا المنطق. صار عليها الآن أن تدفع ثمنا غاليا لحملة إعلانات روّجت لسلعة بلا معالم ثابتة أو غير واقعية أو يمكن أن تستثير الآخر بدلا من أن تستحث ابن البلد. لدينا أمثلة كثيرة وملموسة، ولعل الأخطر أن نتائجها السلبية أكثر من محسوسة.
السياسيون بياعو كلام. الإعلاميون هم المسؤولون عن تسويق بضاعة السياسيين وتغليفها وتوصيلها. ولكن ماذا عن المثقفين؟
لعل واحدا من أهم الدروس التي يحفظها المثقف ألاّ يكون شوفينيا وأن يكون الراصد لظواهر المغالاة. إذا انحرفت بوصلة السياسة والإعلام والمجتمع، فإن على عاتق المثقف يقع دور تصحيح الوجهة. المثقف الذي يقاد شعبويا أو بإغراءات السياسة والشهرة، عليه أن يجد مهنة أخرى. فثمة مسؤولية أخلاقية أمام منع مثل هذه الظواهر والتحذير من مخاطرها. ولعل التنبيه ليس رجما بالغيب، ولكنه محصلة لقراءات تاريخية واستذكار لتجارب الشعوب. لم تهدم أوروبا في الحرب العالمية الثانية إلا لأن مثقفيها لم يؤدوا دورهم. نذكّر مثقفينا بهذا دوما.