العرب واللغة
يكثر الحديث وكتابة المقالات ونشر الكتب ليس حول وضع اللغة العربية الفصحى المتردي في المجتمعات العربية فقط وإنما أيضا حول ازدياد تصلّب عود اللهجات العربية الهجينة. نود في هذه المقالة النظر إلى قضية علاقة المواطنين العرب بالفصحى وممارستهم للهجات العربية. تمثل علاقة العرب مع لغتهم الوطنية/القومية (العربية) ظاهرة غير سليمة. نرغب في هذه السطور أن نضع فقدان السلامة مع هذه اللغة في العالم العربي في معادلة شبه حسابية تلغي الغموض والالتباس اللذين طالما يرافقان مناقشة هذا الموضوع وإثارته في المجتمعات العربية.
ولكي يزول الغموض والالتباس في هذا الأمر لا بدّ من الرجوع إلى الأصول الطبيعية /السليمة التي يجب حضورها وممارستها مع لغة الأم أو اللغة الوطنية/القومية/العربية ومع لهجاتها الفرعية. نطمح أن تشخص لنا هذه المقاربة بكثير من الدقة والشفافية أين مكمن الداء وكيف يمكن علاج علاقة العرب مع لغتهم القومية ابتداء من فجر هذا القرن.
يمكن القول إن العلاقة السليمة بين الناس ولغاتهم تتمثل في أربعة معالم نسميها بنود ميثاق العلاقة السليمة مع اللغة:
- استعمالهم لها فقط بينهم شفويا في كل شؤون حياتهم الشخصية والجماعية.
- استعمالهم لها فقط في الكتابة بينهم إن كانت للغة حروفها أو إن استعملتْ حروفَ غيرها من اللغات الأخرى للكتابة.
- معرفتهم الوافية للغة والمتمثلة في معرفة مفرداتها والإلمام بقواعدها النحوية والصرفية والإملائية وغيرها لاستعمالها بطريقة سليمة في الحديث والكتابة.
- تنشأ عن هذه العلاقة الطبيعية/ السليمة مع اللغة ما نود تسميته العلاقة النفسية الحميمة مع تلك اللغة والتي تتمثل في المعالم التالية: حب للغة والغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها.
تمثل تلك البنود الأربعة لميثاق الناس مع لغاتهم الأسس الرئيسية التي تعتمد عليها إقامة الأفراد والمجتمعات لعلاقة سليمة مع لغات الأم أو اللغات الوطنية/القومية في المجتمعات. وبتعبير العلوم الاجتماعية، فالتنشئة الاجتماعية المبكرة للأطفال بتعليمهم استعمال لغة الأم أو الوطنية فقط في الحديث والكتابة تجعلهم قادرين على كسب رهان العلاقة السليمة أو الطبيعية بكل سهولة وعفوية مع لغاتهم. وهكذا، يتجلى أن ما ذكرناه من السلوكيات السليمة إزاء لغات الأم أو الوطنية يعتبر قانونا للتعامل الطبيعي/السليم مع تلك اللغات.
وبناء على تلك البنود الأربعة يسهل التعرّف على نوعية العلاقة التي يمارسها الناس مع لغاتهم أو لهجاتهم. فالذين يلبّون بالكامل تلك البنود مع لغاتهم هم قوم يتمتعون بعلاقة طبيعية أو سليمة معها. أما الذين لا يلبّونها، فهم أصناف متنوعة حسب مدى تلبيتهم لأيّ عدد من البنود الأربعة في التعامل مع لغاتهم. تسمح دراسة حال اللغة العربية الفصحى واللهجات العربية في المجتمعات العربية ببيان درجات حضور العلاقة السليمة في هذه المجتمعات مع اللغة العربية الفصحى واللهجات العربية أو فقدانها.
أبجدية فهم العلاقة الحميمة مع اللغات
يساعد منظور علم اجتماع المعرفة على فهم العلاقة الحميمة التي تربط الناس باللغات إن هم استعملوها هي فقط بالكامل شفويا وكتابة (1+2) في كل شؤون حياتهم الفردية والجماعية منذ الطفولة وعرفوا مفرداتها وقواعدها النحوية والصرفية وغيرها (3). يجوز القول بكل بساطة إن تلك العلاقة الحميمة (4) مع لغات الأم أو اللغات الوطنية هي نتيجة لعملية التفاعل المكثف معها /الاستعمال الكامل لها الذي يُنتظر على الخصوص من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع أن ينشئ مثل تلك العلاقة النفسية القوية التي تخلق علاقة وثيقة ومتينة، أي حميمة مع اللغات. وبعبارة هذين الفرعين من العلوم الاجتماعية، فمثل ذلك التفاعل شديد الكثافة والتواصل والاستعمال للغات يؤدي إلى ما يسميه هذان العلمان بالعلاقة الأولية مع اللغات. وهي علاقة نَدِّية بالعواطف والشعور والتحمس لصالح اللغات. فكل ذلك هو حصيلة لتنشئة لغوية اجتماعية طبيعية/سليمة منذ الصغر تقتصر على استعمال لغات الأم أو الوطنية/القومية على المستويين الشفوي والكتابي ووفقا لمفرداتها وقواعدها النحوية والصرفية والإملائية الصحيحة في كل شؤون الحياة الفردية والجماعية في المجتمعات. يمكن صياغة مقولة طرحنا النظري في هذه المقالة بخصوص العلاقة مع اللغات في معادلتين شبه حسابيتين تجسّمان الواقع الملموس لعلاقات الناس بلغاتهم:
- الالتزام الكامل بالبنود الأربعة (1+2+3+4 ) = علاقة طبيعية/سليمة مع اللغات.
- الالتزام الجزئي أو عدم الالتزام الكامل بالبنود الأربعة (1+2+3+4) = علاقة غير سليمة كثيرا أو قليلا أو ما بينهما مع اللغات.
العربية الفصحى في المجتمعات العربية
اعتمادا على الملاحظات السابقة، يمكن تحليل وضع اللغة العربية الفصحى في المجتمعات العربية. فاللغة العربية الفصحى ليست لغة الحديث اليومي بين الناس في تلك المجتمعات. وفي المقابل، يستعمل معظم الناس العربية الفصحى في الكتابة. وهكذا، فالفصحى ليست معرضة للموت القاتل لأنها لا تزال تنعم بالحياة الكاملة على مستوى الكتابة وتنعم بقليل من الحياة من استعمالها المحدود جدا شفويا في مناسبات محدودة. ونظرا لأن أغلبية الشعوب العربية تدين بالإسلام، فإن العامل الديني يحفّز العرب المسلمين خاصة على الحرص على تعلّم الفصحى واستعمالها في قراءة القرآن وكتب التراث على الأقل. فالدين الإسلامي دخل المجتمعات العربية كعقيدة كتابها الأول هو القرآن الكريم الناطق باللغة العربية. فاعتناق الإسلام من طرف معظم سكان الوطن العربي لم يشجعهم على تعلم لغة الضاد فقط وإنما على تبنيها كلغة وطنية/قومية للشعوب العربية. ومن ثم، فالعلاقة وثيقة جدا بين اللغة العربية والإسلام عند مسلمي الوطن العربي حتى صارت كلمة مسلم في حالة مجتمعات المغرب العربي تساوي كلمة عربي والعكس صحيح ( مسلم = عربي، عربي = مسلم). وبعبارة أخرى، فقد عُرّب لسان أغلبية سكان ما بين الخليج والمحيط بعد أن اعتنقت الإسلام. وهكذا، نرى أن العلاقة عضوية بين اللغة العربية والإسلام لدى المسلمين العرب بحيث إن وضع كل منهما يؤثر في وضع الآخر سلبا أو إيجابا.
أما المواطنون العرب المسيحيون في المجتمعات العربية فهم رواد في خدمة اللغة العربية والدفاع عنها شفويا وفي مؤلفاتهم التي لا تحصى.
قد يفسر علم الاجتماع هذه الظاهرة في المقام الأول بعاملين:
- تحمس الكثير من العرب المسيحيين في بلدان المشرق العربي على الخصوص إلى تيار القومية العربية التي تعتبر اللغة العربية عمودها الفقري.
- تأثر العرب المسيحيين بالثقافة الإسلامية الكبرى للوطن العربي. هذه الثقافة التي تعتز باللغة العربية باعتبارها لغة القرآن الكريم المنزل على النبي العربي بلسان عربي مبين.
تدهور لغة الضاد
إن أول ما يشد الانتباه في العالم العربي هو الغياب الكبير لاستعمال العربية الفصحى في التدريس بما فيه على مستويات التعليم العالي. فالعاميات العربية أصبحت هي وسائل التدريس في معظم الجامعات العربية. ومن نتائج ذلك انتشار ظاهرة المتعلمين بكل أصنافهم الذين لا يقدرون على قراء ة نص عربي فصيح دون أخطاء نحوية وصرفية لا تكاد تحصى وبلكنة قراءة هي أقرب إلى عامية بلدان المتعلمين والمثقفين منها إلى القراءة السليمة للعربية الفصيحة. فمنظور علم الاجتماع اللغوي يرى أن انتشار استعمال العاميات العربية بدل العربية الفصحى أصبح هو العرف اللغوي الاجتماعي الذي يعتبر الانحراف عنه سلوكا لغويا شبه غير مقبول من طرف الأغلبية المتعلمة والمثقفة في المجتمعات العربية. وهكذا، لا يكاد هؤلاء المتعلمون والمثقفون يستعملون العربية الفصيحة السليمة حتى في مناقشات رسائل الماجستير والدكتوراه أو الندوات والمؤتمرات الفكرية. يمثل هذا الوضع بكل بساطة نوعا من الاغتراب بينهم وبين لغة الضاد/اللغة الوطنية/القومية من شأنه أن يضعف من حماسهم لصيانة اللغة العربية الفصحى عن طريق إتقان نحوها وصرفها وتبني موقف قوي يغار عليها ويدافع عنها لكي تكون لغة الاستعمال البارزة في المجتمعات العربية بما فيها تدريس العلوم في الجامعات العربية.
ومنه، فالفصحى أصبحت في جامعات تلك المجتمعات العربية مجرّد لغة كتابة لا لغة حديث. ومصير اللغات المكتوبة فقط لا يبشر بخير لحاضر اللغة العربية الفصحى ومستقبلها كما يشهد على ذلك حال اللغة اللاتينية في العصر الحديث. ورغم أن للعربية الفصحى من العوامل التي لا تكاد تجعلها معرضة بالكامل لنفس مصير اللغة اللاتينية، فإنها تحتاج من الناطقين بها إلى تشخيص واقعي يسمح بفهم مشاكلها المتعددة اليوم في مجتمعات الوطن العربي. هناك من دعا ويدعو إلى تبني العاميات العربية، بدل العربية الفصحى، كلغات رسمية في بلدان العالم العربي. وهو أمر صعب التحقيق لأنه يتطلب ضمنيا التخلي عن لغة القرآن على المدى الطويل. وهذا ما لا يقبله المسلمون العرب على الخصوص الذين يمثلون الأغلبية الساحقة لسكان الوطن العربي. وبالتالي، فهو ليس بالحل الديمقراطي الذي سيجد مشروعية واسعة في معظم مجتمعات الوطن العربي.
فشل الجامعات
لا تستعمل معظم الجامعات العربية اللغة القومية/العربية لتدريس العلوم. وهي ظاهرة تكاد تقتصر اليوم على المجتمعات العربية. فعلى سبيل المثال، تجعل معظم أنظمة التعليم في أوروبا تعلّم لغة أو لغتين أجنبيتين أو أكثر أمرا واجبا على كل المتعلمين خاصة في المرحلتين الإعدادية والثانوية. لكن عملية التعلّم هذه للغات الأجنبية في المجتمعات الأوروبية لا تفسد العلاقة السليمة مع لغاتها الوطنية. أي أن هذه الأخيرة تظل هي وحدها لغات الاستعمال الشفوي والكتابي في كل ميادين الحياة في تلك المجتمعات بما فيها استعمال اللغات الوطنية في قطاعات التدريس في جميع مراحل التعليم بما فيها المرحلة الجامعية. وهي سياسية لغوية عكس ما هو متداول في معظم أنظمة التعليم في المجتمعات العربية المعاصرة التي تدرّس أغلبيتُها العلومَ بغير لغتها الوطنية (العربية) أي بالإنكليزية أو بالفرنسية في معاهد التعليم العالي والجامعات، ناهيك عن تدريس العلوم باللغة الفرنسية عوضا عن اللغة العربية/الوطنية في المراحل الثانوية بالمدارس التونسية. وليس هذا نتيجة عجز فطري في قدرة اللغة العربية على القيام بتدريس العلوم. والحجج على ذلك كثيرة.
فالجامعات السورية تدرس العلوم بما فيها الطب باللغة العربية. وخريجو هذه الجامعات في ميدان الطب مشهود لهم بالمستوى الجيد في تخصصاتهم الطبية المتنوعة. ومن ناحية نظرية، فجميع اللغات قادرة على القيام بالكامل بكل وظائفها المختلفة إن وقع استعمالها فقط بالكامل في جميع ميادين الحياة الشخصية والاجتماعية. فاللغة كائن حيّ ينمو ويتطور ويبلغ أقصى مراتب النضج والكمال عندما يتمتع بفرص الاستعمال التام في كل أنشطة المجتمع وأفراده. ونظرا لما للغة العربية من خصال في الاشتقاق والقدرة على نحت الكلمات الجديدة بسهولة، فإنها لن تشكو من إعاقة في التعبير وفي إنشاء المصطلحات العربية الجديدة الدقيقة في كل أصناف العلوم الحديثة.
اللغة الأم والبيئة المنتجة للعلم
إن ما يزيد في الدعوة القوية إلى تدريس العلوم باللغة العربية في مجتمعات الوطن العربي هو أن هذه المجتمعات بحاجة كبيرة إلى تعليم العلوم بلغة الضاد لكي ترسي الأساس الضروري لما يسمى البيئة المنتجة للعلم. يرى بهذا الصدد منظورُ علم الاجتماع الثقافي أن البيئة الاجتماعية المساندة لإنتاج العلم هي تلك التي ينتشر فيها العلم بين عامة الناس ولا يقتصر على النخب فقط، أي عندما ينسجم العلم مع الثقافة العامة في المجتمع ويتفاعل معها. ويتم هذا عندما تكون لغة ثقافة المجتمع ولغة العلم لغة واحدة. وهو استنتاج معقول ومقبول من وجهة نظر علماء اجتماع الثقافة. ومن ناحية أخرى، هناك التباس لدى البعض في معظم المجتمعات العربية وجامعاتها حول قصور اللغة العربية في تمكين الطلبة من استيعاب المفاهيم العلمية. لكن في المقابل، تفيد البحوث المتعددة أنّ لا علاقة للغة في حد ذاتها، التي يدرس بها الطالب ويدرّس بها الأستاذ، باستيعاب المفاهيم العلمية. أي أن جميع اللغات قادرة على استيعاب المفاهيم والفرضيات والنظريات العلمية متى استُعملت بالكامل فيها في مجتمعاتها. ومن ثم، فاللغة العربية ليست باللغة المعوقة والعاجزة في التعامل مع العلوم إذا ما أُعطيت الفرصة الكاملة للقيام بذلك كما تشهد على ذلك السياسات اللغوية لصالح تدريس العلوم بلغة الضاد في الجامعات السورية على الخصوص.
التقارب بين الفصحى والعاميات
إن أول ما يشد الانتباه على الساحة العربية هو الغياب الكبير لاستعمال العربية الفصحى في التدريس بما فيه مستويات التعليم العالي. فاللهجات العربية أصبحت هي وسائل التدريس في معظم الجامعات العربية. ومن نتائج ذلك انتشار ظاهرة المتعلمين بكل أصنافهم الذين لا يقدرون على قراء ة نص عربي فصيح دون أخطاء نحوية وصرفية لا تكاد تحصى وبلكنة قراءة هي أقرب إلى لهجة بلد المتعلمين منها إلى القراءة السليمة للعربية الفصحى. يسمّى هذا السلوك اللغوي المتدني اليوم بظاهرة الأمية الجديدة على المستوى الشفوي لاستعمال اللغة العربية الفصحى. وبذلك يخسر الناطقون بها علاقتهم السليمة مع لغتهم الوطنية. ويبدو أن الوعي بهذا الأمر (خسران العلاقة السليمة مع اللغة العربية) شبه غائب عند كبار السلطات بالجامعات العربية.
وبصفة عامة، تنفرد معظم المجتمعات العربية في العالم بظاهرة تدريس العلوم بغير لغتها الوطنية: اللغة العربية. فعلى سبيل المثال، اليابان وكوريا الجنوبية هذان المجتمعان المتقدمان في دنيا التصنيع والعلوم يدرسان العلوم بلغتيهما الوطنيتين. وتتمثل النتيجة المباشرة لتدريس العلوم باللغات الأجنبية في الجامعات العربية في عدم سهولة حصول الفهم الكامل لدى الطلبة للمادة العلمية التي يدرسونها. ويُتوقع أن يكون لهذا الواقع اللغوي انعكاسات سلبية على مسيرة التقدم العلمي عند خريجي تلك الجامعات العربية الذين لا تمكنّهم اللغة الأجنبية من سهولة الفهم للعلوم، من ناحية، وسهولة التعبير عنها والابتكار فيها، من ناحية أخرى. وتعود في نهاية المطاف تلك المعالم السلبية لتدريس العلوم باللغات الأجنبية إلى فقدان المتعلمين العرب للعلاقة الطبيعية مع لغتهم العربية/الوطنية/القومية.
لا يكاد يوجد اليوم بين أعضاء هيئة التدريس بالجامعات العربية (بما في ذلك من يدرس اللغة العربية نفسها) من يقوم بالتدريس بالكامل باللغة العربية الفصيحة. فوسيلة التدريس الشائعة في قاعات التدريس بالجامعات العربية هي اللهجات العربية المتنوعة من المشرق والمغرب العربيين. فجامعات مجتمعات الخليج كانت ولا تزال هي أكثر الجامعات العربية عرضة لموجة اللهجات العربية الكاسحة لقاعات التدريس وذلك بسبب حاجة هذه الجامعات لاستجلاب هيئات التدريس من مجتمعات عربية مختلفة كمصر والسودان والأردن والعراق وسوريا وتونس والمغرب… فاستعمال اللهجات العربية في التدريس أصبح سمة لغوية في قاعات التدريس بالجامعات العربية. وفي جو تعدد هذه اللهجات العامية العربية وطغيانها في قلب المؤسسات الجامعية العربية، هل يبقى من معنى للقائلين بأن للجامعة دورا مهما في تعريب و”تفصيح” لغة المجتمع العربي المعاصر؟ أليس أكثر دقة وواقعية القول إن الجامعات العربية تساهم هي الأخرى في تعزيز مركز اللهجات العربية على حساب اللغة العربية الفصحى بهذه المجتمعات العربية؟ إن الأمر المؤكد بهذا الصدد أن انتشار استعمال اللهجات العربية في التدريس في الجامعات العربية يؤدي إلى غياب علاقة طبيعية على المستوى الشفوي مع اللغة العربية الفصحى بين الأساتذة الجامعيين العرب.
فالمخرج من هذا المأزق ليس في الإقصاء الكلي للعربية الفصحى، لغة القرآن، وإنما الحل في المحافظة عليها صحبة العاميات العربية في نفس الوقت. وهذا ليس بالأمر الغريب في عالم أنساق اللغات البشرية. فالكثير من هذه الأخيرة هي لغات مكتوبة ومنطوقة. وطالما تكون هناك اختلافات بين خطاب الكتابة وخطاب الحديث يكمن الحل لهذه الثنائية في التقارب بين أسلوب هذين الخطابين. وفي حال اللغة العربية الفصحى، فإن عملية التقارب تتطلب أن تكون في اتجاه لغة القرآن لا في الاتجاه المعاكس: أي ليس لصالح العاميات العربية. إذ بذلك تستطيع اللغة العربية الفصحى كسب رهان المناعة التي تمكّن المسلمين العرب وغير العرب من فهم آيات كتابهم المقدس: القرآن الكريم. وبعبارة أخرى، تصبح المحافظة على اللغة العربية الفصحى ثابتا من ثوابت الأمتين العربية والإسلامية. فإتقان هذه اللغة كتابة وحديثا يعتبر، إذن، أمرا مطلوبا وواجبا ليس على العرب المسلمين فحسب، وإنما على كل العرب لأن اللغة العربية الفصحى هي اللغة القومية للمجتمعات العربية لغة التراث الزاخر للحضارة العربية الإسلامية.
ومن اللافت للنظر بهذا الصدد أن الوطن العربي يمثل اليوم ظاهرة غريبة في العالم تتمثل في عدم استعماله اللغة العربية لتدريس العلوم في معظم مؤسسات التعليم العالي. وهو وضع معرقل لنهضة اللغة العربية في المجتمعات العربية. ولغة الضاد يمكن أن تشفى من إعاقتها لو أن كل الجامعات ومعاهد التعليم العالي بتلك المجتمعات تتبنى نظام الجامعات السورية السباقة في تدريس حتى الطب باللغة العربية. وهو ما تفعله معظم المجتمعات المتقدمة على الخصوص في الغرب والشرق. وكما ذكرنا، فتدريس العلوم بلغات ثقافات مجتمعاتها ينشئ فيها بيئة منتجة للعلوم بكل أصنافها.
اقرأ أيضاً: