القصة القصيرة النسوية في الجزائر
إن الحديث عن الفعل القصصي وما توصلت إليه الجهود المتكاثفة ابتداء بمن كانوا لا يفرّقون بين المقال والقصة، إلى ما وصلت إليه من تطور يشبه الحديث عن المراحل التي قطعتها القصيدة العربية خلال مسيرتها التاريخية. ففي البدء كان القصيد العربي يبنى على الإيقاع المتكرر، ثم بدأ يتخلص تدريجيا من تلك القيود الخارجية حتى أمسى أنواعا وأشكالا عديدة يستوجبها الموقف الشعري والشعوري. وكذلك حال القصة القصيرة أيضا، وإن جاء ظهورها في الأدب العربي – كفن ناضج – متأخرا زمنيا عن مثيلتها القصيدة، فإني أزعم أن المراحل نفسها – مع اختلاف طفيف لطبيعة كل جنس – التي قطعتها القصيدة، مرت بها القصة.
إذا كان للشعر عروض يعد معيارا فنيا لخلق الإيقاع الخارجي للقصيدة، فيمدها بسمتها الغنائية المميزة، فإن للقصة أيضا كما أتصور إيقاعا خارجيا يمنح مرونة تتيح بدورها للقاص خلق المفاجأة والتشويق والمتعة.
إن هذا النمط من البناء الإيقاعي رافق القصة القصيرة، وارتبطت كبناء بوحداته، وهو نمط – في تصوري – لا يمكن لقاص مبدع ومتجدد أن يختزله ويتجاوزه دون وعي قصصي، وفهم ناضج وسليم لأصول هذا الفن، بل هو الشكل الضروري والأنسب لأيّ مبتدئ يشق طريقه نحو كتابة فن القصة، ويبقى على القاص المالك لقواعد وأصول هذا الفن التصرف في بناء النص القصصي من الجانب الذي يخدم الفن ويثريه، ويكسبه المرونة لاستيعاب الموضوعات المختلفة مهما كان حجمها أو طبيعتها أو تعقيدها لأن الفنون تتطور باستمرار، واجتهاد أهل الباع والاختصاص بمنابع وقواعد الفن هم الذين يمنحون صفة الاستمرارية، والتطور للفن المشتغل فيه، وهذا ما سوف نتلمّسه عند بعض القاصات ممن بدأن بالنمط الكلاسيكي المحافظ، ثم تحوّلن إلى تبني الشكل المتسامح في بعض المفاصل الأساسية لهيكل القصة، بالتقديم والتأخير، والحذف أحيانا، وذلك حسب امتلاك الكاتبة مهارة التصرف في إيقاعية القص.
تتوزع نصوص المتن القصصي المتوفر لديّ إلى ثلاث بنيات كبرى، ينطوي بعضها على بنيات صغرى لا تشد ولا تقاطع البنيات المحتواة ضمنها.
أولا: البنية الهرمية
هي البنية السردية الأكثر شيوعا واستخداما في القصة النسائية القصيرة، بل لا يخلو نتاج اسم من الأسماء القصصية من هذا النمط، وهو نمط – في الواقع – يتيح للقاص صوغ موضوعه بطريقة منطقية تراعي ترتيب الأحداث، حيث تبتدئ هذه البنية من نقطة بداية معينة ليتسامق السرد تدريجيا في توتر حتى يبلغ التوتر مداه في نقطة قصوى، هي بؤرة السرد، أو العقدة، ثم تعود أدراجها في ارتخاء حتى تدرك لحظة الانفراج، أو الحل.
والواقع أن هذه البنية تنشطر إلى بنيتين تختلفان اختلافا طفيفا في التوفر على جل العناصر، أو الاكتفاء ببعضها، حسب الموضوع وطريقة المعالجة وهما:
أ – البنية المحافظة
يمثلها الشكل السابق، وهي بنية تقليدية تحافظ على احترام “العروض القصصي” (المصطلح استخدمه نجيب العوفي في كتابه: مقاربة الواقع في القص المغربية القصيرة. ص: 492)، كاملا، إذ تخضع إلى التسلسل الخطي للأحداث، والبناء التواتري للواقع في حركة متنامية حتى تبلغ الأحداث ذروتها، ثم يظهر ما يعلّل ارتخاء التوتر تدريجيا حتى تصل لحظة التنوير، وهي اللحظة التي تنفرج فيها الأزمة، وتجيب دفعة واحدة عن بؤرة التوتر، أو تتحرك إمكانية التأويل والمشاركة من قبل القارئ عبر نهاية منفرجة، أو مغلقة، أو مفتوحة تحتمل حلولا عديدة. ومن النصوص التي التزمت البنية الهرمية بعناصرها كاملة أذكر: زغرودة الملايين لزهور ونيسي، دائرة الحلم والعواصف لجميلة زنير، عرجونة لزوليخة السعودي.
تشكل البداية في النص القصصي القصير عنصرا أساسيا يكتسي أهمية وظيفية كبرى، فهي ليست مقطعا مفصولا عن جسد النص، بل هي بمثابة عتبة عندما نقف عليها نتحفز لاجتيازها قصد متابعة الأحداث، لأنها تحمل مؤشرات أولية لها علاقة وثيقة بهذه الأحداث والجوّ الذي تتحرك فيه الشخصيات، لذا يحرص القصاصون على الاهتمام بها، فعليها يتوقف نجاح أو فشل العمل القصصي.
وقد لاحظت من القراءة الأولى لقصص هذه البنية أن الافتتاحية فيها تشترك في حالة الهدوء والتوازن، حيث تهيمن هذه الحالة سواء تبنت الجملة الاسمية أو الفعلية في عملية السرد.
فالبداية عند زهور ونيسي من خلال “زغرودة الملايين” تحتل مساحة أكبر مما تتطلب، وبدلا من أن تدفع القارئ إلى بؤرة وصخب الأحداث، تعمد إلى تمطيط الاستهلال الذي ترمي من ورائه إلى إخراج وتركيب البيئة القصصية عبر لغة هادئة تخلو من الإثارة والحماس على الرغم من أن الموضوع يستوجب لغة مشحونة ومتوترة. فهي تمضي في وصف الحي الشعبي المأهول بالسكان، مبينة أسباب ذلك. ثم تنتقل إلى وصف البيوت القصديرية بأسلوب يقترب من أساليب التقارير الصحفية في التعامل مع المشاهد الملتقطة من الواقع، وسرد تفاصيلها والتعليق عليها.
فإذا كانت البداية عند زهور ونيسي تكاد تطغى على مساحة النص فإنها تنحسر وتضيق عند جميلة زنير في قصتها “دائرة الحلم والعواصف”، حيث تنطلق القصة من بؤرة سرد “زمكانية” في اتجاه تصاعدي نحو تزاحم الأحداث وتوترها، فتدفعنا الكاتبة من العبارة الأولى التي تمتزج فيها الشخصية بالمجال الزمكاني إلى جو القصة عن طريق انزياح اللغة الوصفية الهادئة، واندراء لغة متوترة تسمح بمتابعة كثير من التفاصيل في فقرة موجزة.
إنها البداية المقلقة للقارئ والآسرة له في الوقت نفسه، إذ يتضافر المشهد السردي الموجز، والمشهد الحواري المرسل ليشكل عضوية البداية بالأحداث اللاحقة. فقد تمكنت جميلة زنير من لغتها القصصية التي تختزن طاقة تصويرية وقدرة على امتلاك تقنيات السرد.
تبتدئ القصة من نهايتها، وهي الطريقة التي انتقتها زوليخة لقصتها “عرجونة”، بحيث ينفتح النص على تكملة لحدث سابق، ثم يعود السرد إلى الوراء محترما خطية الأحداث حتى النهاية، فالمعلمة الراوية منذ أخبرتها البطلة المحورية “عرجونة” الصبية ذات الاثني عشر شتاء بنبأ ولادة أمها عائشة، أرملة الشهيد وزوجة خائن الأمس، راودتها فكرة كتابة القصة ولمجرد ولوجها القسم راحت تبحث عن الصبية بين التلاميذ لتزويدها بالتفاصيل.
حاولت الكاتبة أن تمزج في عملها هذا بين الذاتي والموضوعي، فبقدر ما عملت على نقل صورة مأساوية لنموذج حياتي ممن دفعوا كل ما يملكون من غال ونفيس إلى الثورة، مبرزة انحدار المجتمع، وانهيار قيمه بعد الاستقلال، لإغفاله هؤلاء، والسكوت عن حقوقهم المهضومة، فإنها في الوقت نفسه دفعت إلى الكتابة بتأثير قوة ذاتية آتية من الداخل تتمثل في “عرجونة” التي تقابلها صباح مساء في الفصل. تقول عنها: “عرجونة عبء أحمله معي أينما ذهبت”.
ب – البنية المتحررة
هي بنية لا تحترم القاصة في تشكيلها كل العناصر الكبرى السالف ذكرها، وهي عادة ما تختزل البداية، فتشرع مباشرة في سرد الأحداث، أو الابتداء من لحظة التوتر، بحيث نجد أنفسنا كقراء وجها لوجه مع المشكلة أو الأزمة دون تمهيد منطقي لها.
هذا النمط القصصي يشبه القصيدة الحرة في عدم التزامه الكلي بالعناصر التركيبية للبنية الإيقاعية للقصة، لكن ليس التزاما عميقا محافظا ومتشددا، بل يتسم بالمرونة والتسامح.
النصوص التي نسجت في ضوء هذه البنية نختار منها ما يأتي: “سطور أفلتت من الزمن الأسود” لنزيهة زاوي درار، “وجهان لامرأة واحدة” لنورة سعدي.
في “سطور أفلتت من الزمن الأسود” تفلح نزيهة زاوي درار في تكسير تقليدية الاستهلال القصصي، وتنطلق رأسا من الحدث المشهدي الذي يلخص الحدث العام، والمحوري في سير وتحول الخط الدرامي في النص.
إن بناء هذا النص خضع إلى تقطيع هيكلي يمثل مفاصله الأساسية وهي مفاصل متوالية إلى الأمام منطقيا عبر الذاكرة، لكن سير الأحداث لا يمضي نحو النهاية كما رأينا في البنية السابقة، إنما تقطعه من حين إلى حين مشاهد آنية لها فضل كبير في تكسير رتابة السرد، وإدخال عنصر الحركة والحيوية على أجواء النص، حيث يقطع تواتر أحداث المقطع الثاني هذا الحوار المختزل الذي دار بين الشخصية المحورية وعامل المحطة في صورة تساؤل وجواب: “يا أخانا.. هذا قطاري؟”.
– “لا.. لم يحضر بعد”.
(نزيهة زاوي درار. الطفولة والحلم. المؤسسة الوطنية للكتاب. ص: 50. الجزائر).
بعد هذه الوقفة الحوارية يتواصل سرد الأحداث، مستعرضا مساعي الشخصية لإتمام ملف سفرها إلى تونس طلبا للعلم، ثم سرعان ما تنزاح الذاكرة ليحتل السرد الآتي موقعه، لكن بالقفز مباشرة على ترابية الأحداث إلى بداية النص عن طريقة قرينة الانتظار والتعلق بصاحب السفارة تقول القاصة عن لسان الراوي: “لما أفاق، رآه ينزلق على مهل.. تعلق بصاحب الصفارة يرجوه إيقافه ثم جلس على صندوقه الحديدي ينتظر”.
وهكذا يتشكل النص من مقاطع ارتجاعية، تقطعها من وقت إلى آخر مشاهد آنية، وبهذه التقنية تم بناء النص مراعيا تتابع الأحداث، وتواترها حتى زمن الاستقلال، مستخدما السرد الوصفي للأماكن والأشياء، والتصوير الحواري، والتصوير الوصفي الداخلي، والخارجي للشخصية، وقد شكلت كل هذه الوسائل لحمة سردية ذات أثر موحد.
أما نورة سعدي فتعتبر القاصة الوحيدة التي تستأثر مجموعتها المتكونة من ست عشرة قصة باثنتي عشرة قصة ذات البناء الهرمي المتحرر.
في “وجهان لامرأة واحدة”، تستخدم تقنية التداخل، أو التقاطع حيث تنطلق من بؤرة الأحداث، ثم تعود إلى البداية لتواصل السرد حتى نهاية القصة.
إن هذه القصة كغيرها من القصص ذات البنية الهرمية المحافظة يطغى فيها العنصر “الحكائي” على حساب العنصر “القصصي” أي تهيمن فيها الوظيفة الإخبارية على الوظيفة “الإيمائية” نتيجة التعليقات وتحوّل الخط القصصي من حركته الدرامية التي تنتجها الشخصيات عادة من داخل الحدث، إلى حركة خارجية تروى من لدن راو خبير عليم، وهكذا تغيب اللحظة القصصية الفاعلة والصانعة للصراع الداخلي وتحضر الصبغة التقريرية التي تطبع النص بطابع الرتابة، والعرض التعاقبي الذي يمثل عبئا على دينامية القصة وحركتها الداخلية. غير أن هذه القصة، أو الفاتحة التي تشكّل في حدّ ذاتها أزمة تتطلب معرفة حقيقية بخلفياتها وأسباب ذلك الترصد والمتابعة بالعين الفاحصة حينا وبالتحديج حينا آخر، فوجود هذا المشهد في بداية النص يمثل عنصر الإثارة والتشويق قصد خلق الأزمة، أو العقدة القصصية التي تحل تدريجيا بتعاقب الأحداث المروية في نسيج خبري ابتداء من المقطع الثاني إلى نهايته ونهاية القصة ككل.
ثانيا: البنية الانكسارية
أعني بها النصوص المشكلة من لوحات، ومشاهد، تكسر تراتبية الأحداث والتسلسل المنطقي للزمن، وتشمل هذه البنية النصوص التي تنتفي فيها الحبكة أو تكاد، إضافة إلى الخلوّ من التوتر الذي من شأنه توليد الحبكة سواء أكانت بسيطة أم مركبة.
هذا النمط من أشكال القص يعتمد على المشهد “الصورة” أو اللوحة بحيث تسود النص ضبابية، وشبه غموض نتيجة انتقاء منطقية الأحداث، حتى آخر لوحة من الشريط المتقطع، حيث تكتمل القصة في ذهن المتلقي، ولا قيمة للقصة مالم تتم قراءتها وتركيبها وفقا لما يراه المستقبل بناء على مشاركته الوجدانية للحدث العام أو الموضوع.
والواقع أن تبنّي هذه البنية ليس نتيجة تقصير، أو عدم إلمام بفن القص، وإنما هو وليد تجربة، ورغبة في التجديد، وتجاوز المحنط، وبحث دائب عن بنيات جديدة لاحتواء الموضوعات القصصية، إضافة إلى حب التخلص من رتابة الزمن وآلية السرد.
ومن النماذج التي يمكن تضمينها تحت هذه البنية أذكر النصوص الآتية: “الجبل” لزينة سعيدة، “الطفولة والحلم” لنزيهة زاوي درار.
تعتمد زينة سعيدة في تشكيل نسيج قصتها “الجبل” السردي تقنية التضمين (l’Enchassement) أعني عملية إقحام صورة قصصية صغرى ضمن صورة قصصية كبرى المصطلح أورده تزفيتان تودوروف في كتابه (Poétique de la prose pp 82، وورد في مقاله: مقولات الحكاية الأدبية. ت – عبد العزيز شبيل. مجلة العرب والفكر العالمي. العدد: 10. 1990. ص: 110)، إذ تتركب هذه القصة بنائيا من جملة من المشاهد والصور، تؤلف مع بعضها اللحمة السردية، وتتناسق تشكليا، وتتداخل تقنيات السرد في شقيه البطيء والسريع، والوقفات الوصفية قصد استعراض المشاهد، أو التركيز على دلالة معينة بالإكثار من النعوت، والصفات إضافة إلى “الحوار المتضمن” (أعني به الحوار في سياق السرد) وهي تقنيات عملت على اكتساب النص مرونة وحركية، إذ بالرغم من أن القصة المحكية من قبل راو عليم بخفايا كل شيء، وخبايا الشخصية المحورية نفسها “علي” فإن السرد تميز بانطوائه على عنصر الاضطراب على الرغم من انعدام العقدة التي تكون عادة نتيجة تواتر الأحداث وتشابكها ونموها، فالقراءة العابرة لمثل هذا النموذج توهم بانعدام وحدة العمل القصصي نتيجة انتقاء النسيج العضوي الطبيعي بين الوحدات، والفقرات القصصية، ولكن مع قليل من التروي تتجلى هذه الوحدة التي تشبه الشريط السينمائي وهو يتشكل إذ لا تعني الصورة في البدء ــ والتي قد تلتقط في أماكن شتى ــ شيئا ذا وحدة عضوية، لكن سرعان ما تتلاحم، وتكون مع بعضها البعض ــ كما أسلفنا ــ الصيغة النهائية للقصة، والواقع إن لهذا النمط أثرا إيجابيا يتمثل في مشاركة المتلقي في بنائه، وهو نمط يساعد على إيجاد صيغ جديدة لاحتواء الموضوعات القصصية لأن الفن لا يخضع إلى قواعد وقوالب مشددة خضوعا تاما وإنما يحرص على المعالم الكبرى والمبادئ الأساسية للفن، بعدها تلعب مهارة الفنان وحدقته، وموهبته.. دورها في إيجاد الشكل الملائم للموضوع الخام.
ولعل رولان بارت قد قصد هذا المعنى حين أشار إلى عدم إمكانية الحصول على صياغة وتحليل العمل الأدبي من “موديل” العلوم التجريبية، وتطبيق الطريقة الاستدلالية على السرد القصصي (رولان بارت. التحليل البنيوي للقصة القصيرة. ت – نزار صبري. الموسوعة الصغيرة. دار الشؤون الثقافية العامة. العراق. ص: 26)، لأن لكل قاص طريقته السردية، وتصوره البنائي للشكل الذي يراه ملائما لاستيعاب موضوعاته وتحويلها إلى صوغ فني.
أما نزيهة زاوي درار التي عرفناها تعتمد نظام المقاطع في بناء قصتها “سطور أفلتت من الزمن الأسود” (الطفولة والحلم. ص: 57)، بغير ترقيم حسب التقسيم الشائع للرواية الواقعية الكلاسيكية، فإنها توظف التقنية في “الطفولة والحلم ” (الطفولة والحلم. ص: 37)، لكن مع قليل من الاختلاف حيث تعمد إلى ترقيم فقراتها، ولعل اختيارها هذا النص ليكون عنوان المجموعة كلها يوحي بإيثارها هذا النمط من البناء “الفقراتي” فنيا، وهو نمط – في الواقع – يتيح للقاصة التحكم في الزمن والتصرف في استخدامه دون احترام لمنطقيته.
إن تركيب الأحداث في هذه البنية يستجيب لقوانين البناء الجمالي للنص، والتكسير الزمني – في الأخير- ليس سقوطا فنيا بل هو استجابة طبيعية لضرورة فنية تهدف إلى البحث عن الجديد وتخطي المألوف الجاهز.
ثالثا: البنية التجريبية
وتمثل هذه البنية بقية التجارب، والبنيات القصصية خارج البناءين التقليدي بشقيه الهرمي التحرري والانكساري، وفي ضوء القراءة الجردية للنصوص التي يمكن أن تنطوي تحت هذه البنية يمكن استخلاص ملاحظة هامة هي أن هذه البنية تنطوي على مستويين: مستوى غير فني يخلو من المعايير الأساسية والعناصر المفصلية لفن القص، حيث يغيب الحدث، ويتمحور السرد على الذات والوجدان مع إغفال الخارج.
فتغدو النصوص قطعا نثرية تكونها تراكيب جاهزة تنهل من خلجات النفس، تتراوح فقراتها التي تفتقر إلى النسيجية بين التأوهات والتداعيات الخالية من الإثارة.
في حين نجد المستوى الفني ينم عن وعي بالممارسة القصصية، حيث تؤثر صاحبته التعامل مع التصوير التتابع للغة المحمولة على المجاز، والتراكيب المشحونة بالمعاني والدلالات البلاغية، والبلاغية على حساب الحبكة التقليدية، ولغة القص التقليدي الدافئة.
إن نصوص هذه البنية وإن كانت تفتقر إلى الحبكة فإنها لا تخلو من الإثارة والتي يمكن أن تحدثها الصور القصصية الاهتزازية عن طريق فنية التشكيل اللغوي في وجدان المتلقي.
في نصوص هذه البنية نجد زمنها النصي قصيرا، بحيث يتساوى زمن النص مع زمن الوقائع غالبا، النصوص التي تندرج تحت هذه البنية هي جل نصوص سعدي نختار على سبيل النمذجة منها: “أشجار العلقم”، لنورة سعدي، “الوجه الآخر” لحفيظة روبيح.
نلاحظ في هذه البنية خفوت العمل القصصي، إذ تقل فيها الأحداث المتعاقبة في توتر وسموق كما رأينا في البنية الهرمية، ويسيطر في بداية النص إلى نهايته، والبنية هذه يمكن اعتبارها بنية “قولية”.
في “أشجار العلقم” (نورة سعدي. أقبية المدينة الهاربة. ص: 81)، نتلمس ضعف النسيج القصصي، حيث تكاد تنعدم العضوية بين المقاطع والفقرات المكونة للنص، ويخبو التوتر المعهود في تنامي الحدث القصصي بارزا، وكأنهما يعوضان العناصر القصصية الأخرى وخاصة الحبكة، فالبنية هذه تؤثر العنصر الكلامي أو التعبيري على حساب العنصر الحكائي أو القصصي، لذا نلفي صعوبة في استيعاب مضمونها واستساغته بيسر، بشكل يسمح بتمثيل الأحداث وإمكانية إعادة حكيها من جديد.
تنهض “أشجار العلقم” على متن مقاطع تفتقر إلى التماسك الخيطي الذي يخلقه العنصر الحكائي، واللغة القصصية الدافئة التي يمكن أن تتجاوب مع ذوق كل متلق يطلب استقبال حدث قصصي مروي وفق نسيج حياتي فاعل.
إن هذه المقاطع ظاهريا تبدو متماسكة بسبب توفير شبه حدث قصصي محوري يبدأ بحضور الشرطة والقبض على الشاب السارق، وينتهي بعودة الأمّ من مقر الأمن خائبة، لكن عند قراءة النص يصعب فهم الحدث العام نتيجة فشل القاصة في نسج اللحمة السردية بين المقاطع أو الفقرات القصصية، مما يسبب للمتلقي استفزازا سرديا لما هو دارج ومألوف من قواعد سردية شائعة.
إذا كانت نورة سعدي لا تكاد تتحكم في هذا النمط البنائي لعدم تمكنها من تمثله، إما لاستخفافها بقواعد القص التقليدية، أو محاولتها تبني بنية من منطلق التجريب لم تفلح في استيعابها وهضمها فنيا وجماليا، فإن حفيظة روبيح (حفيظة رويبح. الوجه الآخر. جريدة النصر. 8/6/ 1994)، قد استوعبت هذا النمط البنائي للسرد، وفضلت التعامل مع اللغة، حيث تبرز الأحداث من خلالها صورا وظلالا ترتسم في مستوى الذهن، لا وقائع ترتبط بمجال مكاني ومدى زمني معينين، وملامح بيئية ذات معالم وأبعاد.. فالنسيج القصصي عندها يتكئ أساسا على غنى العواطف وزخم الأحاسيس ومعايشة الموضوع، والقدرة على المحافظة على الشحنة الذاتية المغلفة بشغاف لغوية شفافة من بداية النص إلى نهايته دون أن يصاب النسيج بالتسطيح أو الابتذال، فتظل اللغة مكتنزة بالإيحاءات والدلالات، ذاتية (Subjectif) متوجهة نحو الداخل، وموضوعية (Objectif) متوجهة نحو الخارج، تتعانق كلها في انسياب، يخلو من التشنج والاختناق، بل يسير أشبه بالنهر الصغير الدافق.
الخلاصة
في ضوء ما تقدم نخلص إلى أن البنية الهرمية بشقيها المحافظ والمتحرر هي أكثر البنى استخداما عند القاصة الجزائرية، مع تفاوت النصوص في درجة الاتساع والضيق، إذ تضيق مساحة بعضها السردي لدرجة إمكانية عدّه أقصوصة، وتتوسع مساحة البعض الآخر حتى يمكن عدّه رواية، أو على الأقل “ميني رواية”، والواقع أن هذه الظاهرة واضحة الشيوع في النتاج القصصي النسائي، حيث تخرج بعض النصوص من طبيعتها وخصائصها التي ترتكز على الاقتصاد في اللغة والتكثيف والإيحاء، إلى التطويل واتساع رقعة النص زمكانيا، وكثير منها ينطوي على إمكانية تحويله إلى روايات. هذه الظاهرة يمكن نسبها إلى: زهور ونيسي، جميلة زنير، زوليخة سعودي، نزيهة زاوي درار، في حين صار النص عند نزيهة السعودي ونورة سعدي وحفيظة روبيح: “يعرف نسبيا استقرارا زمنيا بسبب تقلص الفضاء الزمني وندرة المادة الحكائية” (نجيب العوفي. مقاربة الواقع في القصة المغربية القصيرة. ص: 452)، والواقع أن رحابة زمن النص، مرده سيادة الفكرة، حيث تطفو على سطح الحوادث قصد تصوير ظاهرة معينة، أو تحقيق هدف إصلاحي مقصود، فنجد جميلة زنير، زهور ونيسي مثلا تؤثران الزمن الرحب لتعاملهما مع البنية الكلاسيكية، فكلتاهما تنوب عن البطل أو الراوي في القصة، لكونها تعلم كل شيء عنه، ماضيه وحاضره، وحتى مستقبله، والنص بهذه الطريقة امتداد محتد للقص القديم الذي يقدم نماذج بغية معالجة ظاهرة معينة، وليس لغرض فني جوهري.
في حين نجد حفيظة روبيح مثلا تحاول كتابة القصة الحديثة “من خلال البنية التجريبية” التي ليست بالضرورة تخضع للشروط والأصول المتعارف عليها من حبكة وبداية ونهاية، عبر لغة طبيعية تستلهم من الذات شحنتها، وتتفاعل بعمق مع الموضوع، حيث لا تقول كل شيء عن الشخصية، فقد تترك المجال مفتوحا في جانب من جوانبها، بغية خلق التواصل والتفاعل بين النص والمتلقي، الأمر الذي يسمح بإدماج القارئ في النص، وهذه سمة أساسية يمكن التفرقة بها بين وظيفة القصة التقليدية، ووظيفة القصة التجريبية الحديثة، فالأولى تمارس على القارئ سلطة كاملة، إذ يتحول إلى مجرد متلق فحسب، أما الثانية فتجعل منه طرفا ثانيا في العمل القصصي أو الحكائي.
كما يمكن رد هذه الظاهرة أي “البنية الكلاسيكية الهرمية” ذات الوسع الزمني في تصوّرنا إلى اعتبارات ذاتية وموضوعية:
فأما الذاتية فتتمثل في التعبير عن تجارب المعيشة حيث تركز القاصة على الأحداث الواقعية، فتتخذ منها متكأ، بل منهلا لاستقطاب أهم الحوادث التي تشكل الموضوع القصصي، ومن الأصوات القصصية التي تدرج ضمن هذا الاتجاه: جميلة زنير، زهور ونيسي، نزيهة درار، زوليخة سعودي ونزيهة السعودي.
إن البناء القصصي عند هذه الأصوات يعتمد كما أسلفنا التتابع السببي للأحداث أي احترام الحبكة التقليدية، مع تفاوت في التصرف في عناصر القص، من نص إلى آخر، بحيث تبدأ القصة إما ببداية مقتضبة تستعرض فيها المجالين الزمني والمكاني ثم تسترجع الأحداث عبر الذاكرة مزاوجة بين الماضي والحاضر حتى لحظة التنوير، أو تبدأ مباشرة من الحدث القصصي مستعرضة الحبكة بالآلية التقليدية، دافعة الأحداث نحو التأزم إلى الأمام حتى تدرك القمة، ثم تبدأ بالانفراج تدريجيا حتى تدرك النهاية التي قد تأتي مغلقة، أو منفرجة أو مفتوحة.