كيف تتخلص من الأرق
خمس قصص
تساؤل
سألها الصبي ذو الخمس سنوات:
– هل يأخذون هاتف من يموت؟
– قالت: نعم.
– قال: ومفاتيح سيارته، هل يأخذونها هي أيضا؟
– قالت: نعم، هي أيضا.
سكت مليا، ثم قال متحسرا: المسكين لا يتركون له شيئا.
مآل
غبت عن الوعي لوقت أجهله.
استفقت مذعورة يلفني الصمت، كان الظلام عن يميني وشمالي، وفي كل النواحي.
المكان لا يتسع لغيري.
أشعر أنني ملفوفة كجنين!
صرت أتأبطني
تساءلتُ: أين أنا؟
فأجابني صوت هامس من خلف الظلام: صه، أنت ميتة.
صوت
تناهى إلى مسمعها صوت خافت جدا. تتبعت مصدر الصوت بدقة. أجهدت أذنيْها لالتقاط مصدره، فقادتها خطاها إلى مكانه. إنه صوت نملة تحتضر. التـمّ من حولها النمل يبكيها، لقد وطأتها قدم ابنها سليمان.
أرق
للمرة الألف أتقلب على سريري، أحاول لملمة نوم كمن يحاول لملمة كرة من الكريستال تطايرت شظاياها في كل مكان، أُغمض عينيّ بعسر فتنفتحان بيسر، ألف جسدي بالغطاء وأتقمط كرضيع، لكن دون جدوى لقد هجرني النوم، ومطارداتي له باءت بالفشل، فالأرق قد استباح حرمة ليلي على مرأى من نجومه وقمره.
أفك الغطاء من حولي، أسحبه إلى صدري، وأسحب معه أنفاسًا ساخنة كجوفي.
أستغفر الله وأستعين بالمعوذتين.
أنظر في ساعة الحائط فأجدها الثانية صباحا، فأُشفق على نفسي من أرق أضناها.
طوال أسبوع كامل وأنا على نفس الحال، أتذكر فجأة ذلك الكتاب الذي كنت أتوسّده كدواء غير نافع، بعنوان واثق “كيف تتخلص من الأرق؟”، من تحت وسادتي أخرجته، وعلى الصفحة 15 أفتحه لأقرأ تعليمة كتبت بالبنط العريض:
“عليك عدم التفكير في الشيء الذي يزعجك وتجاهله وتناساه”.
حدقت في التعليمة مليًا، أعدت قراءتها مرات عدة، أغلقت الكتاب ووضعته جانبا، تساءلت:
– وفيما أفكر إذن؟ لا شيء يدعو إلى الابتهاج، مسائل كثيرة عالقة ترهقني، وأشخاص كثيرون يزعجونني، وقد طال انتظاري، آه من الانتظار، إنه يُثقل كاهلي. أمقته.
أنسلُّ من سريري حافية القدمين، غير مبالية بلفحات البرد التي كادت تجمدهما. دُرت في أرجاء منزلنا وعدت أدراجي إلى سريري وهويت عليه بجسمي المثقل.
فتحت الكتاب من جديد على نفس التعليمة، أمسكت قلما وأعدت صياغتها على طريقتي، وبالنبط العريض:
“عليك التفكير من جديد في الشيء الذي يزعجك، وأجعل من نومك سلاحا تشهره في وجهه”، مُقررة حجز تلك التعليمة في إطار مُذهّب أعلقه على جدار غرفتي.
وضعت الكتاب جانبا وأنا أبتسم إعجابا بذكائي. دفنت جسدي المرهق في عمق فحوى السرير، وأغمضت عينيّ بيسر، وقد شعرت برعشة دفء جميلة تسري في كل جزء مني، واستسلمت لنوم عميق.
من لحظتها صار النوم يداعب أجفاني كلما قصدت سريري أو حلّ الظلام، وقد تلاشت جميع أشباح الأرق من حولي.
المـوناليزا
المدينة تغرق في نوم عميق، شوارعها خاوية على عروشها، وحده الصمت كان يصرخ في أرجائها.
من نافذة غرفتي كنت أراقب أشباح الفراغ وهي تطارد الصمت، تمارس معه طقوس لعبة الغميضة والليل من حولهما بهيم يسبح في ظلمته.
أغلقت النافذة وجلست على مكتبي متكئة على قلمي، أحاول أن أجمع شتات قصة لا تريد أن تنتهي، رفعت رأسي قبالة لوحة “الموناليزا”، التي كانت معلقة على جدار غرفتي، هذه اللوحة الوحيدة من ضمن أشيائي التي بقيت أنفر منها، أشيائي كلها تربطني بها علاقة حميمة إلا هي، اللعينة.
كم مرة حاولت التخلص منها، وكم مرة فشلت في ذلك، كلما اقتربت منها أحسست أن يدا تحرسها، وتهددني إن أصابها سوء، فتزهو “الموناليزا”، وتبتسم ساخرة، ثم لا تلبث أن تعود لها رهبتها.. لازالت تزين غرفتي ولازلت أمقت ابتسامتها الماكرة.
الّلعنة عليها، لمَ كلما نظرت إليها وأنا في ذروة أحزاني ووحدتي تباغتني بسخريتها، في حين تكشّر عن ملامحها في حال سروري، و.. لمَ تعاندني هذه المرأة؟
عدلت من جلستي على مقعدي الخشبي، ثم واجهتها مخترقة ذاك الجدار بيني وبين عينيها، ورحت أحملق فيها مبحرة في تضاريسها الغريبة فوجدتني أسال:
“ما الذي دفع ليوناردو لخلق امرأة كالموناليزا؟ ما أغواه فيها؟ ما الذي جعله يسقط في شباك امرأة متعجرفة لا تشارك غيرها مشاعرهم؟ أيّ مهزلة حاكتها أنامل ذاك الرجل وهو الفنان الشهير؟ وما الذي يجعل من هذه اللوحة أسطورة خالدة؟”.
وبينما أنا شاردة في بحر واسع من الأسئلة اللامتناهية، تحركت اللوحة لتزحزحني زوبعتها.
ثارت “الموناليزا”. نعم تخلصت من نفسها وسقطت على الأرض مغشيا عليها، مكشــرة، حجتها أنها ترفض ادعاءاتي واستفساراتي غير المجدية.
انتصبتُ في مكاني وقد هالني منظرها وزلزلتني ثورتها، دنوت منها مشفقة على حالها.
رفعتها وقلبتها على وجهها البائس/المنهزم/الثائر.. وتقطيبة حاجبيها.
لكنني لم أنس أنها لحظات ولدت فيها أفراحي وانتصاراتي فأطلقتها قهقهات في سماء غرفتي.
ها قد هزمت “الموناليزا” أخيرا.
وها أنا اضحك في ذروة انهزاماتها.
ها أنا أحتفي فرحا غير مبالية بمشاعرها المحترقة.
المعذرة أيتها” الموناليزا”.
دعيني أدوّن انتصاري هذا قصة، ستكونين بطلتها، وليعذرني “ليوناردو دافنشي”.