الذات الخارجية أم ثرثرة بصرية
هل من الطبيعي أن نسلم معلوماتنا الشخصية إلى العالم الافتراضي؟ تصفح حساباً لصديق على فيسبوك وسترى العجب. يتبرع بكل المعلومات. رقم هاتفه؛ أصدقاؤه؛ صور الطفولة؛ فيديو إلى أين ذهب؛ متى سافر؛ سيل لا ينتهي من صور السيلفي؛ حتى طاولة الطعام لا تنجو من التصوير. ثم الأخبار التي يقرأها؛ الحِكم التي يؤمن بها؛ الكتب التي طالعها؛ إعادة نشر ما يقوله أصدقاؤه.
نتهم الحكومات بانتهاك الخصوصية. تصوّرنا الحكومات "في الرايحة والجاية". في الشارع والمحلات والمطارات ومحطات القطار. نتحدث عن الأخ الأكبر الحكومي بامتعاض. ثم نكتشف أننا أنفسنا "الأخ الأكبر".
هذه نقلة نوعية في النظر إلى الذات. الذات من قبل كانت داخلية. تعبّر عن نفسك بالكتابة والحديث. مجموع الصور التي تجدها لجدك الراحل هو صورتان أو ثلاث، ربما واحدة منها لهويته الشخصية. مجموع الصور العائلية لوالدك ووالدتك تعدّ على أصابع اليدين. خالك له صورة أسود وأبيض يضع "الجيل" على شعره ويسند حنكه على أصابعه، ويبتسم. المشاهير لهم صور قليلة. يجمعون مراسلاتهم مع الآخرين ثم يتركونها في صندوق صغير للورثة، أو ينشرونها قبل رحيلهم في كتاب بحجم متوسط. الذات الداخلية رقيب يرفض الاقتحام حتى من أقرب الناس.
الذات اليوم ذات خارجية. كلّما كنت منفتحا وشفافا، كلّما أحسست بأنك تنتمي إلى العصر. تدلي برأيك في قضية إشكالية وتتجاوز الحذر التقليدي. تصير أنت جزءا من الإشكالية. الذات الخارجية أقوى من حكمة الحذر الذي يمارسه الإنسان مع خصوصياته. تكتب تعليقات وتنشر صوراً. الرأي يرتدي وجها الآن.
ربما الوصف الذي يصلح هنا هو الثرثرة البصرية. الصورة هي المقياس الآن. الثرثار أيام زمان يثرثر بالكلام. ثرثار هذا الزمان هو من يثرثر بصوره أو صور الآخرين. وإذا كان ثرثار زمان يسعى لأن يستمع إليه الناس، في البيت أو الباص أو المقهى، فإن ثرثار هذا الزمان يريد أن يراه الناس كلما فتحوا صفحاتهم على فيسبوك. المهم هو التفاعل الذي يبديه الأصدقاء مع الصور. المهم هو "اللايك".
لا عيب في كل هذا. هذا هو العصر وعليه يجب التأقلم معه. إذا كان رئيس الولايات المتحدة لا يتوقف عن الثرثرة على حسابه في تويتر، فكيف بشاب في العشرين يمشي ويندهش ويكتب ويصوّر ويردّ؟ إذا كان رئيس وزراء بريطانيا شعبوياً، فهل تلوم فناناً في الشرق الأوسط يريد أن يلفت إليه الأنظار أو شاعراً استبعدته المسابقات الشعرية؟
التأطير الثقافي لهذا الواقع الجديد هو المشكلة. كما بدأت بالقول، فنحن ننتقد نفس الشيء الذي نمارسه. الفرق هو أنها حكومة وهذا أنا. ما هو تعريف الخصوصية هنا؟ بالأصل، هل بقيت خصوصية لكي نحاول تعريفها؟
أعتقد أن الأهم من الركض خلف تعريف الخصوصية هو التأكد من تعريف الذات الخارجية. لا خصوصية وأنت تشارك صفحتك على فيسبوك مع مئة صديق. ولكن بالتأكيد تحتاج أن توصّف الذات الخارجية لكي يدرك الأصدقاء، الحقيقيون منهم أو المتطفلون، أين هي حدودهم مع هذه الذات الخارجية.
عندما يمرّ أحدهم من جانب بيت يضع صاحبه كل صوره على السياج الخارجي، فإن الجار أو المار المستطرق سيتوقف يتفرج، وسيعلق أو يترك دائرتين على عيني واحدة من صورك تشبه النظارات للسخرية. لعلّ الطبيعي أن تضع لافتة "عدم اللمس" أو "بلا تعليق" أو "للفرجة فقط". هكذا تحمي "خصوصيتك" المستباحة لو قرّرت ذاتيا أن تستبيحها. هذا في عالم الأمس. أما في عالم اليوم، فإن الوقوف أمام السياج الافتراضي للصور الشخصية والأفكار والتعليقات على صفحات فيسبوك أو إنستغرام يعادل بوستات الرد أو التعليق أو الصور الأخرى أو التجاوز اللفظي أو "اللايك". ما هو المكافئ الافتراضي لحماية "خصوصية" الذات الخارجية؟ هل الحجب مثلا لمن يسيء الأدب؟ أم المعاقبة بالتجاهل؟
كل هذه مفردات في عالمنا المتغيّر لا نزال عاجزين عن الإتيان بصيغة توفيقية لها. صيغة توفيقية بين الأجيال. هل تسمح لابنك أن يلتقط لك صورة ويضعها فورا على إنستغرام؟ هذا هو الطبيعي بالنسبة إليه. أنت يجب أن تفكّر وتتمعّن. وصيغة توفيقية بين المسموح والمقبول أو المرفوض والمستهجن. هل تتقبّل التعليقات مهما كانت ومن أين جاءت؟ هنا، ما هي عتبة الحساسيات التي يجب عدم تجاوزها؟ لا ردّ لديّ.