الحياة يا لها من كلمة عزيزة
“يوما ما سيختفي”. أما أن يُهزم أو يُقتل فذلك ما لا يجرؤ أحد على توقع حدوثه. فذلك الكائن اللامرئي لا بطولة في قتله لأنه ميت. قيامته هي فكرة تشير إلى أن المعادلة البشرية لا تزال في جزء عظيم منها تخضع لقوى خفية. ما حدث كشف عن أن ضعفنا لا يزال قابلا للفتك بنا في أي لحظة. كان صادما أن نتعرف على أنفسنا باعتبارنا كائنات على درجة عظيمة من الهشاشة.
“ليست الحرب متكافئة” بالرغم من أن خصمنا ضعيف. فهو لا يملك ما نملك من أسلحة في العلم والثقافة والتقنية والاقتصاد والاحتيال والاتصالات. كائن لا يمشي ولا يطير ولا يرى ولا يسمع هزمنا بيسر أسطوري فجعلنا سجناء بيوتنا التي صارت بمثابة القلعة الأخيرة التي صرنا نخشى أن يكون الخصم قد تسلل إليها.
من وراء زجاج النوافذ نتأمّل الفراغ الكوني في محاولة للنظر إلى هواء زفيره ونحن نعرف أنه لا يتنفس. تلك ملهاة تزخرفها المراثي. ولكن العدو أقوى منا. ذلك ما يؤسس لمسار مختلف للأحداث. سيكون عليّ أن أفكر باعتباري أحد الناجين من الكارثة في ما سيكون عليّ أن أفعله في انتظار النهاية. ستُكتب يوميات مَن نجا. ولكن لا أحد يعرف الشخص الذي سيكتبها.
أنا سجين الكتابة. ذلك خبر غير سار لكورونا. لم ينتصر عليّ. منذ أكثر من ثلاثين سنة وأنا أعيش في عزلة الكتابة. ذلك ما توافقت روحي مع جسدي عليه. الكتابة هي اسم آخر للعزلة. ولكن عزلة كورونا هي الهام أيضا. أسئلة المصير تدفع بنا إلى أن نتخطى ذواتنا. البشرية كلها تقيم في كتاب واحد. ذلك كتاب يخطّ كل واحد منا سطره الخاص فيه.
ربما سيشعر مَن نجوا بأنهم كانوا محظوظين بالتجربة.
ذلك ما يدفعني إلى التفاؤل. ستضع البشرية يدها على أخطائها ومواقع ضعفها وأسباب خيانتها وتخاذلها وتجليات كذبها وستكون أقوى وأكثر طهرا وأشد نزاهة. كم نحتاج إلى أن نكون نزيهين ونحن نكتب. ذلك ما كانوا يسمونه في عصر مضى بـ”الصدق الفني”. وهو ما كنا نفسره على أساس ما يتضمنه من حيل لغوية تضفي على العادي صفات خارقة.
في عزلة كورونا تعيد الكتابة النظر في تقنياتها التي لن تخطئ هذه المرة طريقها إلى الإنسان لتنقّب في بشرة جلده بحثا عن تلك اللحظة التي ينطبق فيها منقار عصفور ضائع على صرخة ألم تطلقها نجمة عابرة. لقد تغيرت المفاهيم كلها. ما من شيء في مكانه. لا شيء انتصر على كل شيء. ولا أحد هزم جموعا. كثرة الإنتاج لم تعد نافعة والاستهلاك كشف عن دونيته فيما استعاد المجتمع ثقته بعبقرية أبنائه المتعلمين.
أكتب اليوم بروح جديدة وأنا على يقين من أن البشرية تقف على أعتاب عصر جديد. عصر تُنبذ فيه الحروب وتُركن فيه العقائد بخرافاتها جانبا. إنه العصر الذي يعيد إلى الكتابة مجدها. وإذ أتذكر نوفاليس، الشاعر والفيلسوف الألماني من خلال سطرين هما “إلى أين نحن ذاهبون؟/دائما إلى البيت” فأنا أدرك أن البيت ليس سريرا ولا مطبخا ولا حماما ولا خزانة ملابس ولا غرفة استقبال.
البيت الذي عادت إليه البشرية منعاً لانتشار فايروس كورونا هو ورشة عمل مستقبلية. لقد اهتدت البشرية إلى أجمل ما في تقنياتها على المستوى الاجتماعي. الفرد المسلح بقوة الحلم الجماعي الذي لا يمكن التعبير عنه إلا من خلال العمل. لقد صار على البشرية أن تختبر المبادئ باعتبارها دافعا للعمل.
لذلك فقد استعاد الموت صفته باعتباره كذبة. في عزلة كورونا صارت الحياة في حد ذاتها هدفا.