غرفة تسكنها الجدران
سؤال هو مظلة لأسئلة جمة تبادرت إلى الذهن بينما العالم يعبر أفواجاً عزلاء هذا البرزخ المسمّى كورونا، في محاولة للعثور على صيغة من نوع ما للجواب عن سؤال وجودي عابث: ما العمل؟ مصحوباً بصيغ شتى لقضاء الوقت بين أربعة جدران.
“غرفة بملايين الجدران”.. تستعيد ذاكرتي، الآن، هذا العنوان لشاعر عربي لم يعد بيننا، شاعر كتب يوميات حياته في النصف الثاني من القرن العشرين شعراً أقرب من الشفاهة، في لغة لم تطلب الإدهاش بمقدار ما أرادت إعادة تعريف البداهة، واستنكار غرابة الواقع عن طريق لعبة المفارقة، على الرغم من خروجه الكامل على التقاليد الفنية التي عرفها الشعر العربي حتى قيام ثورة الشعر الحر في أواسط القرن الماضي. لكن هل يمكن تطوير هذا العنوان، اليوم، ليحمل معنى مستجدا مع ما استجد في العالم من كوارث بعد عقد على رحيل هذا الشاعر.
والسؤال الآن، هل قصد محمد الماغوط أن العالم غرفة بملايين الجدران عندما أطلق على مجموعه الشعري هذا العنوان.
***
إنه هو إذن، العالم، بكل ما يصخب ويعتمل ويضجّ فيه، محض غرفة كبيرة تسكنها الجدران وفي ما بين الجدران بشر في حشر قيامي.
(اكتب يومياتك، أفكارك، تصوراتك، بصدد اللحظة وما سيليها). هذا ما طلبه محرر “الجديد” من كتابها المنتشرين على خارطة الآلام العربية مشرقا ومغرباً ومنفى انتشر على أربع جهات الأرض.
***
ماذا تفعل في البيت، حاجرا نفسك، ومحجورا عليك؟ كيف تقضي وقتك؟ في القراءة؟ في النوم؟ في سماع الموسيقى؟ في المشي في الغرفة؟ هل تشعر أنك سجين؟
هل تفكر بأنك مهدد، وأنك ضعيف ولا حول لك؟ أم أنك تشعر بأنك قويّ، وتدّخر قوتك لفصل آخر، في منازلة وجودية مع عدوّ لا قبل لك به ولا سابق له في تجاربك؟
ماذا تعنيه لك هذه التجربة، أن تكون مهدداً بالمعنى الوجودي للكلمة..؟
هل تقوم بجلسات مراجعة صامتة مع نفسك؟ مراجعة لحياتك؟ لمسيرتك الشخصية؟ لما فعلت وما لم تفعل؟ لما كنت تحلم به وما صرت إليه؟
هل أنت خائف من يوم غد؟
هل تشعر أنك في واقعة غريبة مدبرة من قوة كبرى؟ أم تشعر بأن ما يجري هو ضرب من تمرد الطبيعة ولحظة من لحظات معاقبتها للإنسان لسبب ما؟
هل حملت الجائحة الكونية مخيلتك على استدعاء أفكار وخواطر قيامية كنهاية العالم وما شابه؟ هل ذكّرتك بكتب ما من مؤلفات الخيال العلمي أو فيلم سينمائي أو لوحة تشكيلية أو فصل من فصول الكوارث في كتب التاريخ؟
كيف تتخيل نهاية هذا الكابوس الإنساني؟ هل تظن أن قوة الدول والعلم والتطور الطبي ستكون كافية لابتكار علاج ينجي البشر من هذا الفايروس القاتل. هل أنت متفائل؟ هل لديك توقّع لما يمكن أن يحدث للبشر حتى ذلك الوقت؟
هل تظن أن شيئاً أساسيا سيتغير فيك وفي من حولك، في حياتك وتفكيرك وفي حياة وتفكير الناس ومستقبل العلاقات في ما بينك وبين من حولك وبينهم وبين العالم، بفعل هذه التجربة؟
***
ما سلف أسئلة لها أجوبة، ولكن ماذا عن الأسئلة التي أرجأت أجوبتها؟ الأسئلة التي مكرت بها أجوبتها؟ الأسئلة التي حارت بها أجوبتها.. في عالم فقد مرحه فجأة، واكتشف أن الأرض ليست كروية وحسب، وأن أشكالها الأخرى ما تزال لم تجد أسماءها بعد.
أهي نهاية شوط مرح في الماراثون الإنساني، أم مجرد مرحلة في سفر عبثي؟
مرة في المتحف المصري، بعد رحلة شاقة في جوار هرم خوفو، وبعد ساعة في تأمل هذا الكائن الغريب المسمّى أبا الهول بجسمه الضخم ونظرته المتعالية. إذا بي مرة واحدة أمام لجام زجاجي وأبي الهول بحجم حبة الفاصولياء. أهي الإحاطة بكل شيء مهما كبر ومهما صغر، أم هو إدراك مبكر لقيمة المتناهي في الصغر، يبدو أن العبرة لم تبلغ مداها، ولم تستولِ على مخيلة الإنسان، ليكون أكثر احتراما للمتناهي في الصغر.
***
والآن، بات لزاما على الإنسان أن يحترم القدرة اللامحدودة لما صغر حتى بات لا يُرى بالعين المجردة.
***
ماذا تفعل أيها العالم في غرفتك المسكونة بملايين الجدران؟ وأنت أيها المقيم في الحقيقة وفي مجازها؟ هل تفتح النافذة لتستقبل الهواء، أم أن يدك ترتجف وتتردد؟ فلعل شعيرات الموت تطيش هي الأخرى قرب النوافذ، وقد حملت ذراتها اللامرئية رماد الأرض إلى رئات الهاربين من غموض الطبيعة إلى غموض الكلام، ومن التباس الفكرة إلى التباس اللغة.
ماذا تفعل أيها العالم بيديك اللتين صنعتا الجمال وأفسدتا هواء الرئتين؟
***
اكتب يومياتك، أفكارك، تصوراتك، بصدد اللحظة وما سيليها. ثم اكتب قصة متخيلة من 10 سطور أو أكثر أو أقل، عن أسوأ شيء ممكن أن تتخيله أو تتوقعه؟ أو أطرف شيء؟ أو أسعد شيء يتعلق بما أنت فيه الآن؟
***
هل يعقل أن يطلب شخص مثل هذا الطلب المترف من حملة أقلام ضجوا في غرف لم يتخيلوا أن يجدوا أنفسهم سجناء بين جدرانها، وقد حاروا ماذا يفعلون بأيديهم، في برهة من الزمن لم يتخيل أيّ منهم، لا في أطرف القصص ولا في أكثرها سوداوية أن يكونوا أبطال هذه الواقعة؟
إذا لم تشعر أن هذه النقاط هي ما يقبض على حالتك أو يفتح لها باباً وأنك في منطقة تفكير أخرى مختلفة، وأنك منشغل بشيء آخر. أرجو أن تمسح هذه السطور.
وتنسى أنك قرأت..
ولكن هاتِ سطرك أنت أيها الكاتب.
لندن- نيسان/أبريل 2020