البقاء في البيت بعيداً عن الخطر
مأساة حقيقية أن تبقى في البيت، ربّما لا يشاركني كثيرون وجهة نظري، ومن حقهم ذلك بطبيعة الحال، المشكلة العميقة أنّ الإنسان لا يمكن أن يكتسب “فرديته” إلا من خلال الآخر، سيتخلّى الفرد منّا عن الكثير من العلاقات الأساسية التي جُبل عليها المخلوق البشري بشكل خاص.
الفردية تؤدّي إلى الانعزال بما يخلق لدينا حالة من الفقد والتوحّش.
لكنّها إجبارية، وهو ما يجعل منها حالة صعبة، أي أنّ الإنسان غير مخيّر، مجبر مثل حالة السجين لا يمكنه أن يختار طريقا غيرها وهو ما يجعلها أكثر مرارةً كطعم العلقم أو أكثر.
لا يمثل لي البيت من وجهة نظر إبستمولوجية أيّ معنى بل هو المسؤول عن خراب حياتي وتدمير قواي العاطفية والذهنية في مقابل “تحقيق” أشياء واهية، نشارك الحيوان فيها، وهي السعي وراء سراب اسمه “البيت” بكل ما تعنيه الكلمة من مترادفات: الأولاد، الزوجة، وما يرتبط بهم من سلالات مدمّرة لصحة العقل والنفس والوجدان.
أريد أن أوضّح مقصدي، حتى لا يتّهمني القراء بنوع من الشيزوفرينية غير المعلنة:
البيت في العالم المتقدم غيره في العالم الأدنى، نتشارك في البيولوجيا ولكنّنا نختلف في الجوهر: في المدى الإنساني والروحي والفكري العميق، لا يمثّل “البيت” في المجتمع العربي (بنسبة تكاد تكون عامة) إلا استمرارا للنسل، وحالة من القلق على الوجود والمستقبل، حياتنا، في العالم العربي، جري مستمر وراء الخبز والأمان والحرية.. بما يعني أنّ الواحد منا لمّا يصلْ إلى القبض على جوهر الحياة، وتتسلّل السنون من عمره واحدة تلو الأخرى، ليس في ومضة عين بل بصعوبة بالغة لا يكاد يصدّقها العقل، ينطبق عليها قول زهير بن أبي سلمى:
“سَئِمْـتُ تَكَالِيْفَ الحَيَاةِ وَمَنْ يَعِـشْ
ثَمَانِيـنَ حَـوْلاً لا أَبَا لَكَ يَسْـأَمِ
وأَعْلـَمُ مَا فِي الْيَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَـهُ
وَلكِنَّنِـي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَـمِ
رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ
تُمِـتْهُ وَمَنْ تُخْطِئ يُعَمَّـرْ فَيَهْـرَمِ
وَمَنْ لَمْ يُصَـانِعْ فِي أُمُـورٍ كَثِيـرَةٍ
يُضَـرَّسْ بِأَنْيَـابٍ وَيُوْطَأ بِمَنْسِـمِ”.
تمثل “البيت” مملكة زائلة، سرعان ما يستيقظ الشعور الحقيقي الذي يملأ الأبناء وهو تملّكها عن طريق الوراثة، وهي الحالة التي تنظم حياة الإنسان وتستمر معه قرونا وأجيالا وإلى نهابة الخليقة ولكنّ “الضمير الأخلاقي” والشعور بالذنب تجعل الفرد منا لا يجاهر بذلك بالرغم من أنّها حقيقة نتشارك فيها جميعا.
من هنا نستطيع القول إنّ “البقاء في البيت” شكل من أشكال النفي والاستبعاد للكائن قسريا، الصيغة تحمل طابعا تعميميا أي أنّها قرار رسمي موجّه إلى كل الطبقات الاجتماعية دون مراعاة أشكال الوعي والتراتبية العقلية، وهي حالة المستندات القانونية التي تصدرها المؤسسات الرسمية.
في رأيي، الوباء، يمكن التغلّب عليه بالوعي والفهم، فهو ينتقل عن طريق ملامسة المصاب أو الأشياء المادية والأسطح، لكنّ مصدره واحد هو الإنسان السقيم، لذلك فإنّ الاستغناء عن “عادات” قديمة في السلوك البشري يمكنها أن تؤتي أكلها وتخلّصنا من الفايروس.
عندما تجلس في البيت، هذا السجن الصغير، سيصاب عقلك بالدوار عندما لا تجد مفرّا من قضاء فائض الوقت في وسائل التواصل الاجتماعي: جملة من الحماقات والأكاذيب والسرطانات الإعلامية الخبيثة تجدها تنتظرك، ومن ذلك أن الوباء لعنة الله، فأكثروا من الدعاء والاستغفار.. الوباء غاز سام انتشر في العالم من أحد المخابر البيولوجية قريبا من مدينة يوهان الصينية وهو ما يمكن أن يكون دليلا على وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب له بأنه “فايروس صيني”.
أما القنوات التلفزيونية، فأصبحت تمثّل شكلا من أشكال الضغط على الإنسان “المحجور”، أخبار “العاجل” مدمّرة، مثبطة للنفس، ترمي بنا في أُوار الجحيم، لا شيء من الأمل، سوى أخبار عن مزيد من الموتى والجثث كحالة الصين وإيطاليا وإيران وإسبانيا.. هنا لا بدّ أن نعيد التفكير جيدا في “رأيت المنايا خبط عشواء” كما قال زهير بن أبي سلمى ونستغل فرصة الوباء لنطرح مجموعة من الأسئلة الشائكة: هل فعلا امتلك العقل العلمي مصير البشر أم أنّهم لم يحققوا لأنفسهم الأمان؟ هل الفايروس قادر على أن يكون مقدمة لنهاية العالم (يوم القيامة كما تسمى دينيا)؟ وإلى أيّ مدى سيعززّ الوباء فكرة القدر أكثر في الذهنية العربية؟ أم أنّه على العكس من ذلك سيعمل على تعزيز فكرة “الإنسانية ” والإيمان بقيمة العلوم في تطوير الفرد في العالم؟
من جهة أخرى، كيف سيكون لتأثير الوباء على الاقتصادات الهشة ومنها تلك القائمة على المواد الطاقوية كحال الجزائر ومعظم دول العالم العربي والإسلامي؟
لا أخفي عليكم، بأنّها وساوس تنتاب أيّ فرد منّا، لأنّها مرتبطة بمصائرنا وحالنا بعد الخروج من الوباء، فهل نستطيع أن ننتصر على كل هذه التحديات ونحن في “البيت”؟
أخشى أنّنا سنتخلّف أكثر، نحن الذين نعيش في هشاشة اقتصادية وعلمية منذ قرون، ومن الأسباب المهمة في ذلك أنّنا لم نعمل على تهيئة سماء المستقبل، على خلاف الدول الصناعية الكبرى ومعها الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل.
يشعر المواطن في الجزائر، كما هو الحال عليه في دول أخرى، بالحيرة والخوف من المستقبل بالرغم من أنّ الوباء عابر لا محالة، لعدّة معطيات: مناخية وصحية وتاريخية.
وأنا واحد من هؤلاء.. لا أخفي عليكم لقد تصرّفت بالطريقة الطبيعية التي تصرّف بها الناس في مختلف بقاع العالم: الخوف من الغد.
في السوبر ماركت، يتهافت هؤلاء الذين يريدون أن “يتحجّروا” في البيت على العجائن: المعكرونات، الكسكس، القهوة، السكر والزيت والمياه والدقيق بأنواعه، وأحسب ذلك مشروعا كون طرق الإمداد والتموين في بلادنا، كما هو الحال عليه في بعض الدول العربية، ضعيفة ولا يتحكّم فيها القانون، فـ”التهافت” جاء من غياب التنظيم وليس من الندرة.
مما زاد من حدّة هذا الخوف ما رآه المواطن من مضاربة فاحشة في الأيام الأولى من اكتشاف الوباء في البلاد، فقد ارتفعت الأسعار فجأة وخُزّنت سلع كانت إلى وقت قريب متوفّرة بقوّة في المستودعات، وهو أمر كشف عن جشع “التجّار”، وعرّى ضعف الرقابة الرسمية على القطاع التجاري والفلاحي.
لا بدّ أنّ الوباء، كشف عن تعلّق الإنسان، في مختلف أنحاء الأرض بالحياة، فالخوف من الموت والنهاية ظهر جليا في سلوكات الناس، في قتامة تقاسيم وجوههم، في الحزن والدموع ولحظات الأسى على الضحايا.. وأبانت عن روح التضامن بين جمعيات المجتمع المدني في داخل الأوطان، أو في تضامن الدول بعضها ببعض، على نحو تطوع الأطباء الصينيين في إيطاليا وهو حال دلّ على أنّ الفردية ليست طبيعة الكائن البشري النزّاع إلى التضامن والألفة.
تصبح المحبة كونية، لا تحدّها الجغرافيا ولا نظم سياسية، ولا غرو في ذلك فإنّ في تقارب الناس محبّة، تستقيم بها الحياة و”تنجلي الأحزان، ويقصر الزمان، وتطيب الأحوال، ولن يفقد الإنسان من صاحب هذه الصفة عونًا جميلًا، ورأيًا حسنًا؛ ولذلك اتخذ الملوك الوزراء والدخلاء كي يخفّفوا عنهم بعضَ ما حملوه من شديد الأمورِ، وطُوِّقوه من باهظ الأحمال، ولكي يستغنوا بآرائهم، ويستمدوا بكفايتهم، وإلا فليس في قوة الطبيعة أن تقاوم كل ما يَرِد عليها دون استعانة بما يشاكلها وهو من جنسها”.. كما قال ابن حزم الأندلسي في “طوق الحمامة في الألفة والأُلاَّف”.
سواء أقضينا أوقاتنا في قراءة الكتب والمجلات والجرائد أو في النوم والاستلقاء أو في استهلاك مواد تثقيفية بسيطة أو في اللعب أو في الأكل.. فإنّ ذلك لن يغيّر من حقيقة غالبة علينا جميعا وهي أنّنا جميعا سنعيش في سجون صغيرة، لا تختلف عن السجون والزنزانات العادية إلا في كوننا نستطيع ترتيبها وفق أذواقنا الخاصة نتصرّف في محتوياتها بحرية تامة ولكنّها في النهاية هي حزام ناسف، قد ينسف بأحلامنا واجتماعيتنا وعلاقاتنا بالآخر ويدمّر كلّ ما بقي فينا من روح الحياة.