نهاية غير متوقعة للسعادة على الأرض
الآلات الموسيقية – الإرث الأخير – جرى تقاسمها بالقرعة بين الحيوانات، التي أقامت أعظم الاحتفالات، بمناسبة حلول العام مليون ميلادية. الأفراح عمّت الأرض بأسرها، ليلة تلو أخرى، ابتهاجاً بالفوز الثمين في معركة الصراع من أجل البقاء.
لقد أمكنها تعلم الكلام، واختار كل نوع من الحيوانات لغة خاصة به: الجمال تتكلم العربية، والدببة الروسية، والطيور اللغات الأسكندنافية، والسنوريات الفارسية، والأفيال الهندية، والخيول التركية، والنحل الإسبانية، والنمل الإيطالية، والديوك والدجاج الفرنسية، والبط الماندرين، واختارت الأسماك والحيتان وسائر الكائنات البحرية اللغة اليابانية، باستثناء الأخطبوط البرجوازي الذي قرر الحديث مع بني جنسه باللغة الإنجليزية.
الصدع الأفريقي العظيم استكمل مهمته، وشطر قارة أفريقيا إلى قسمين، والتصق نصفها الأعلى الشمالي بقارة أوروبا بصورة فاضحة. لقد نزلت شبه الجزيرة العربية عن ظهر قارة آسيا، وتدحرجت إلى الأسفل حتى باتت على مقربة من القطب الجنوبي، ومرة أخرى لم تكن سوى صحراء جليدية قاحلة.
الأرجنتين وتشيلي ابتلعتهما المحيطات ولم يعد لهما وجود، والجزء الناجي من قارة أميركا الجنوبية تخلص من الأصفاد ورحل غرباً، واستقر في كبد المحيط الهادي. أميركا الوسطى زحفت في اتجاه الشرق، وتدلّت ببذاءة أسفل فلوريدا، فأصبح لأميركا الشمالية مظهر رجل يُباهي بفحولته!
لم تأبه الحيوانات لتدوين تأريخ انقراض الجنس البشري، ولم تحتفظ ذاكرتها بالملابسات.. فجأة انقرض هذا الحيوان – العدواني جداً الذي فشلت كل السبل لكف أذاه – من كوكب الأرض، ولم يعد له من أثر سوى العظام النخرة المطمورة تحت كل تراب اليابسة.
تحكي السلاحف المعمّرة أسطورة عن انقراض 99في المئة من البشر بسبب وباء فتاك مصدره غامض، ونسبة ضئيلة منهم – المليارديرات – تمكنوا من النجاة والانتقال إلى كوكب يقع في مجموعة شمسية أخرى.
الصحارى تلاشت، والغابات انتعشت واتسعت رقعتها، والمروج الخضراء كست كل سطح الأرض.
الأسماك نمت لها أصابع في زعانفها، وصار بإمكانها التنزه بأمان وقضاء وقت ممتع على ضفاف البحار والأنهار. وأكثر من مئة ألف نوع من الحيوانات التي تظاهرت بالانقراض – ليكف الإنسان عن ملاحقتها – عادت للظهور والتكاثر وملأت الكوكب بنسلها.
الديناصور المائي خرج من مخابئه في أعماق المحيطات، وجاب البحار مُجدداً مُتغذياً على حيتان العنبر وأسماك القرش، ثم أقدم على مغامرته الكبرى وأنسل نسلاً مشقوق القدم، صعد بشجاعة لاستكشاف البر واستيطانه.
احتلت حيوانات الغرير البيوت المهجورة التي خلفها البشر وراءهم، وما كان لها أن تقتحمها من الأبواب أو النوافذ، التي كانت جميعها موصدة بإحكام يثير الحيرة، ولكنها حفرت أنفاقاً تحتها، وأخذت بتكتم وسرية تستعملها للدخول والخروج.
الهياكل المعدنية المتحجرة لمليارات السيارات اندمجت في محيطها الطبيعي، واستفادت منها العصافير والحمام وأنواع لا تحصى من الطيور للتعشيش ووضع البيض.
المدن استعمرتها الكلاب والزواحف والقوارض والعناكب والذباب. وأما أبراج الكهرباء المتطاولة التي تحمل شبهاً ساخراً بالإنسان المنقرض، فقد أمست موطناً للقرود، وموئلاً طبيعياً لها تتناغم فيه كل أشكال الحياة واللعب والتزاوج.
الطائرات سكنتها الأفاعي، وظلت تحلم مليون عام إلا قليلا بالطيران، وهي تطل من وراء الزجاج بعيونها البراقة المشعة بالأمل.
شبكات الصرف الصحي الجافة أسفل المدن، صارت مرتعاً لديدان مختلفة الألوان، تُرى بالعين المجردة، ونوع شره منها صار بحجم الباذنجان.
المشغولات الذهبية والأحجار الكريمة استولت عليها الغربان، ورصعت بها أعشاشها، وتزينت بالخواتم الماسية في مخالبها، وظهرت عليها آثار النعمة.
الكم الهائل من أوراق النقود هضمته أمعاء الغنم، وحولته إلى روث أخضر تفوح منه رائحة عرق البشر. وبسبب التأثير الكيميائي لتلك الأوراق على أدمغتها، ظهرت جينات النزعة الفردية، فلم تعد الغنم ترعى في قطعان متضامنة، وصارت كل شاة ترعى لوحدها وتتجنب الاختلاط بالأخريات.
التيوس أُولعت بأكل الكتب، وتحولت المكتبات إلى مطاعم فاخرة بالنسبة إليها، وخلال مليون عام من هضم الكتب الفلسفية والعلمية، تمكنت من إحراز قدر من الحكمة ورفعة الأخلاق، لم يتوفّرا ولا حتى لمؤلفي تلك الكتب.
الأحذية الجلدية ذات الرقبة الطويلة، تبارت السناجب في اقتنائها، وصار السنجاب إذا أراد أن يتودد إلى سنجابة، يحمل إليها فردة، ومن ساعته يظفر بقلبها، فتُمكّنه من نفسها.
فصيلة من الأبقار تغذت على ملابس البشر، فحدثت لها طفرة جينية، وصارت ألوانها زرقاء، وجلودها مخططة بخطوط تشابه بنطلونات الجينز.
مواد التجميل، وبالذات أحمر الشفاه، احتكرتها الضفادع، وبات من النادر أن تظهر ضفدعة من دون ماكياج.
عبّت التماسيح كل مخزون العالم من العطور والكحول والبيرة، وكانت تُضبط في المدن الخاوية إما مقلوبة على ظهرها فاقدة الوعي، أو وهي تخوض عراكاً عنيفاً مع إشارات المرور محاولة ابتلاعها وقد تعتعها السكر.
الهواتف النقالة وقعت في حوزة الفيلة، وأضحت عادة متوارثة أن يرفع الدغفل هاتفاً نقالاً بخرطومه، ويُلصقه بأذنه ليسمع نشيد الإله غانيش.
النعام اصطفى الكثير من الأجهزة المنزلية، وبالأخص الغسالات، التي رأى أنها مناسبة له جداً، ليدسّ رأسه فيها.
أمواس الحلاقة ذهبت لصالح الخنافس، وبفضلها جرى تحقيق العدالة كما نادى بها كارل ماركس، فتم تقسيم الغائط إلى حصص متساوية، وحصلت كل خنفساء على نصيبها من الثروة القومية، وانعدمت الفوارق الطبقية، وبذا نجح المجتمع الخنفسي في تحقيق الحلم الاشتراكي، الذي لم يُوفّق البشر في الوصول إليه.
النظارات بنوعيها الطبية والشمسية آلت ملكيتها إلى الحمير، التي ظلت جيلاً وراء جيل تحرص على ارتدائها، ليقينها المقدس بأنها ترفع من مستوى التفكير.
الساعات اليدوية، استحوذت عليها القطط، وبقراءة التعاويذ عليها، أمكن استخدامها كأجهزة استشعار عن بعد لنقط تجمع الفئران.
غطت الزرائف رؤوسها بالقبعات والعمائم والعقالات، فازدادت بينها حالات النبوغ في كتابة الشعر والقصة والمقالات.
السعادة التي عمّت الأرض لا يمكن تخيلها، والقلم مهما جرى ليس بوسعه وصفها، فكل أجناس الحيوان راضية بحياتها، وقد خلا لها الجو فهي تسرح وتمرح على راحتها.
الأشجار تتلألأ بالسرور، فلم يعد هناك منشار ظالم يُنغّص عليها عيشتها. والأنهار تدندن فرحة مغتبطة، إذ لم تعد ثمة مصانع متوحشة تلوثها وتعكر صفو مياهها.
الهواء صار نظيفاً نقياً، ووجه الأرض غدا حسناً بهياً.
لكن هذا النعيم تهاوى دفعة واحدة، وتبخرت هناءة وسلام وطمأنينة الشجر والحيوان في غمضة عين.
لقد لمع شهاب في وضح النهار لفترة وجيزة في السماء، ثم انحط على الأرض محطماً سكون العالم بقعقعة أرجفت أفئدة كل كائن حيّ. الحيوانات التي دنت من مصدر الصوت، رأت جسماً معدنياً يغلي بلون فضي يُعمي الأبصار، وتنبعث منه زمجرة غير معهودة. ثم همدت الضجة، وانفتح باب وتشقلب ليصير سلّماً، ونزل من تلك البيضة القادمة من آخر الكون، رجل يُعبّر مُحياه عن الامتعاض والقرف، ونزلت خلفه امرأة حبلى يعتريها الوهن، وتقول إنها توحمت على حفنة من تراب كوكب الأرض.