فنجان قهوة في العزل
عند ظهور الحالة الأولى للفايروس في البلد في رعية إيطالية استقبلت الأمر بشيء من الاطمئنان، وقيل بعدها إنه أعيد إلى بلده، ثم ظهرت أولى الحالات في جزائري أعلنت الحكومة أنه مغترب قادم من فرنسا، حينها أيقنت أن البلد في خطر، فكل مصائبنا تأتينا من بلد الجنّ والملائكة، هذا البلد الذي ظل يزوّدنا بالشياطين مدة قرنين من الزمن، في حين يحتفظ بالملائكة لنفسه. بعد يومين سمعنا بحالة أخرى لمغترب آخر، ثم أخرى لمغترب آخر، وأخرى لآخر، كأن الأمر مدبّرا من قصر الإليزيه، وها نحن اليوم نقترب من ألفي مصاب، نقبع في بيوتنا لا نبرحها خوفا من أن نصاب بالعدوى.
قيل إن الفايروس يتكاثر في جسم المصاب بمليارات النسخ، هكذا مثلما يتمدد الفقر والتخلف وإسرائيل في أراضينا العربية، تساءلت في البداية هل هو من ذكر وأنثى مثل البشر؟ ومرّ بذهني سؤال صديقي المعتوه “هل للفايروس مؤخرة؟ فشكله الدائري لا يعفيه من وجودها، ولعله كله مؤخرة، وهو الآن يتغوط في دماء البشر”، قلت له إن من عاثوا في الأرض فسادا كانوا من أهل النتوءات، مؤخرات أو كروش، أو حتى جباه بارزة كالتي يذكرها الطبيب الإيطالي عالم الجنائيات سيزار لمبروزو عند تحديده للأوصاف المشتركة للقتلة، أو مثلما يذكر التاريخ الإسلامي الجبين الناتئ لـعَبْد الله بْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ الذي قال النبي بشأنه أنه سيخرج من نسله سفاكو الدماء، أو ما أطلق عليهم لاحقا بالخوارج.
وليكن، لكن المؤكد الذي أجمع عليه علماء كوكبنا هو أن للفايروس تاجا، ولهذا سمّي كورونا، وتعني التاج بالإسبانية، فلا يضع التيجان إلا الملوك ذوو السطوة والسلطان، ولأن الرعية تساس بالعدل والحرية لا بالسطوة والسلطان فإنهم كانوا إذا دخلوا قرية أو مدينة أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وهذا ما يفعله تماما الفايروس صاحب التاج، الذي جعل عزيز أميركا يتلقى الإعانة من غريميه الصيني والروسي صاغرا عن يد سفلى وهو يبتسم، وكذلك فعل مع كل رؤساء الدول الكبرى إذ حشرهم في مكاتبهم المحصنة وهم يصيحون “لا مساس”.
نقرأ في تراثنا الديني أن الله يحجر على شياطين الجن في رمضان، ويعتقد بعض البشر أن الله يعاقبنا بنفس العقوبة، لكن ولأن شياطين الإنس صاروا أخطر فقد صفّدهم في بيوتهم شهرا قبل رمضان، ويتساءلون عن أيّ معصية ارتكبها جنسنا؟ فيجيبهم الصدى من داخل حجرهم “ذلك لأنكم توسوسون للشياطين”.
لقد صنفت الحكومة هذا الفايروس كعدوّ أول في الوقت الراهن، عدوّ يفتك بالمواطنين، لا يفرّق بين صغيرهم وكبيرهم، ولا بين ذكرهم وأنثاهم، وأننا في حالة حرب، ومع ذلك فإنها لا تعتبر الناس المستهترين في الشوارع خونة وعملاء، على الرغم من أنهم حولوا أجسادهم إلى شاحنات وطوافات تحمل الفايروس وتنقله، وحاضنات يتكاثر فيها صاحب الجلالة والنتوءات.
سيذكر التاريخ أن الناس تكوّروا في بيوتهم مدة من الزمن احتماء من فايروس كورونا، وسيذكرون أن الحكام “كوّرونا” بقوانين في بيوتنا فلا نبرحها، وانقسموا إلى فريقين أحدهما يعتقد أنه غاز أطلقه الأميركان خطأ عن غير قصد، أو عن قصد، وآخرون يركزون على البروليتاري الصيني اللعين، آكل الخفاش، لا أشبع الله بطنه، وكيف أنه من أجل وجبة لا تسمن ولا تغني من جوع كاد يقضي على سكان الكوكب، وظهر أن ثورة الجياع لا تكون بالقوة، ويمكن أن تكون عن طريق التهام حيوان لطالما كان رمزا لإنقاذ العالم، فباتمان الحقيقي صار الآن خطرا عليه، أو لعلها رسالة من العملاق النائم لأميركا، شبيهة برسالة المواطن الصربي في القرن الماضي، حين ابتدع حلوى الهلاليات ليحمّلها الكثير من معاني التحدي، ليأكلها الناس في فطور الصباح مع الكابتشينو نكاية في الدولة العثمانية وعلمها، غير أن الهلال يظل قمرا رضيعا يلهو ببعض النور حتى يزعج الخفافيش فتلوذ بظلمة الكهوف والمغارات.
أنا متأكد من شيء واحد فقط، وهو أن العالم لن يعود كما كان في السابق، وأن العلاقات ستحكمها أشياء أخرى غير التي حكمتها، حتى أنا سوف أساهم في تغيير هذا العالم، وهذه العلاقات، بدءا بصديقي المعتوه الذي ألتقيه كل صباح في المقهى، ويجلس قبالتي ليسرد عليّ ما حدث له في اليوم الماضي، مادًّا عنقه إليّ فيتجاوز رأسه نصف الطاولة، هكذا حتى لا يسمع حديثه غيري، تذكرته في حجري المنزلي، ومرّت صوره بذهني وهو يمدّ عنقه نحوي مثرثرا وفمه فوق فنجان قهوتي، ثم يعود إلى ظهر مقعده مستويا ينظر في وجهي باحثا عن أثر لحديثه، ثم يعود ليكمل الحديث فوق فنجان قهوتي، ثم يعود مرة أخرى إلى ظهر مقعده مستويا، وهكذا دواليك، لم تكن هذه الصور تمر بذهني لو لم أستمع لطبيب بريطاني يقول: إننا حين نتنفس من أفواهنا أو نتكلم يتطاير رذاذ من لعابنا لا نراه.
بعد أن تنتهي هذه الجائحة وأخرج من الحجر المنزلي؛ سوف لن أشرب قهوتي بلعاب صديقي، سأحدد شكل الطاولة، وزاوية الجلوس، والمسافة بيننا، وأعمل حسابا للريح مثلما تفعل هيئات الأرصاد والمطارات، وسوف أعمل جاهدا على تغيير شكل تقديم القهوة نفسها، فبعد أن كان الفنجان يوضع فوق صحينة، سأعمل جاهدا ليقدم مستقبلا والصحينة فوقه، فذلك أجدى.