يوميات كاتب في الأرياف
فجأة انتشر الوباء فشمل كل أرجاء العالم، وها هو الحل الصيني الذي يقتضي العزل الصحي للجميع يشمل الجميع. اليوم قرأت على الشاشة رقما مرعبا: في العالم 3 مليارات شخص في حالة عزل صحي في بيوتهم.
بالنسبة إليّ أنا لم أتفاجأ كثيرا. أنا كاتب مهتم بالخيال العلمي. ومتابع مهووس بالسينما، وبسينما الخيال العلمي تحديدا. وفي هذه السرديات الحديثة كثيرا ما يتم تصوير العالم بهذا الشكل الذي هو من بقايا سرديات الأنظمة الشمولية كما يتخيلها الكتّاب في الغرب.
“عالم جديد فاضل” لألدوس هكسلي، “1984” لجورج أورويل، “نحن” لإيفغيي زامياتين، “حرب السلمندر” لكاريل تشابيك، “فهرنهايت 451 ” لري برادبوري، “سيد القصر العالي” لفيليب ك ديك، و”كوكب القردة” لبيير بول… كلها روايات تنتمي من قريب أو بعيد إلى الخيال العلمي، وكلها تصور عالما مستقبليا يجد الإنسان فيه نفسه عرضة لنظام عالمي ممركز يسلط عليه مرضا أو نظاما سياسيا أو كارثة طبيعية نحول مسارات العالم الذي يحلم بالجنة إلى عالم يحظى بالجحيم… كذلك حال أفلام من قبيل “ميتروبوليس” لفرينز لانغ، و”ألفا فيل” لفرانسوا تريفو، و”مرحبا في غاطاكا” لأندرو نيكول، “النائم” لوودي آلن، “زاردوز” لجون بورمان، “برازيل” لتيري غيليام، “ماد ماكس” لجورج ميلر… وغير ذلك كثير كثير.
هل معنى هذا أن قراءة ديستوبيات الخيال العلمي (أو مشاهدتها على التلفزيون) يحضرك بالقدر الكافي للتعامل غير المحتد مع يوميات الجحيم؟ قطعا لا. ودّه الجحيم يشبه الجحيم كما من المفروض أن أحد الفلاسفة قد قال.
تبدأ يوميات المعزول الصحي بصباحات للعمل في البيت الضيق الذي يستقبل هرجا لا قبل له به هو الفوضى العارمة التي ترتبط بالطفل الصغير “محمد ماسينيسا” الذي لا يبقي ولا يذر منذ أن أصبح يقضي يومه في البيت رفقة أخواته الثلاث…
الصباحات مهربة من الهرج الشديد لأن القبيلة التي لا تحفل بعمل الأب والأم: التدريس في الجامعة والكتابة (والترجمة بالنسبة إلى الأستاذ وسيلة الأم الشجاعة ورئيسة القبيلة) مجبرة هي أيضا على البقاء في البيت.
صباحات لإتمام العمل على رواية جديدة طال العمل عليها إلى درجة الشعور بالنشاز وأنا أصفها بالجديدة. فكرت مرارا في جدوى رواية أخرى تتهددها القيامة.
ماذا ستضيف رواية إلى القول البشري حينما نشعر بأن الموت يهدد الكوكب كله.
– هل ستتوقف عن الكتابة أيها الأحمر؟ تسأل زوجتي بابتسامتها نصف الجادة نصف المستهزئة من غرقي الشديد مع الحاسوب وبعض أوراق الملاحظات.
– لا أظنني أستطيع فعل شيء آخر. ستكون نقرتي على إحدى الكلمات هي آخر ما يبقى مني في صحة الفناء أو العدم أو البرزخ أو أيّا كان ما سيأتي.
أعمل دوما على مشروع روائي وعلى بعض الورشات النثرية الأخرى: مقالات فلسفية للعمودين اللذين أنا ملتزم بهما في مصر والجزائر: عمودي الفلسفي “هكذا أفكر” وعمودي المندرج ضمن الدراسات الثقافية “التفكر بصوت عال”… لهذا وجدت يومياتي مؤثثة بنصوص الفلاسفة الذين راقني منهم أنهم قد قبلوا بدور الملاحظ المعلق الذي يتخلى تماما عن البعد المشبع بالتأمل النظري (highly theorical) لفائدة نوع من التفلسف الآني، التفلسف عملا على الخامات لا على المعادن النقية (بتعبير جيل دولوز).
كثير من التجوال على النت عموما وعلى الفيسبوك أساسا. المجتمع العالمي يتواجد في السوق الافتراضية للأخبار والعواطف بدلا من سوق الخضار أو المواد الغذائية كما هي الحال في الجزائر عموما، وفي المدن الداخلية للجزائر التي تشبه الأرياف حتى وهي بعيدة تماما عن التعريف النظري للريف.
يبدو أن القيامة تستعد للقيامة على المدن الجزائرية وهي تتلبس بالتريّف الشديد كرد فعل عنيف على تمثلات المدينة والمدنية التي خلفت في البلاد التي كانت جميلة هادئة حينما كان الناي يتلون سورة/صورة البقرة، وقبل أن يصلوا إلى سورة/صورة “الحديد”.
في الريف كل يوم ينبئ بالقيامة. إذا كان الأمر هو سقوط المباني الطوال كما يحدث في الأفلام فإن الأمر ليس قائما عندنا. وإذا كان الأمر مرتبطا بهلع الجمهور فإن الجمهور عندنا غالبا ما يهرول صوب أي شيء يحدث: بقرة تغرق في وحل، سيارة تخطئ المنعرج وتسقط وسط الحقول. نقص في الأنفس والثمرات؟ نحن نعرف كل ذلك بين الحين والآخر. وإذا كان الجيل الجديد لم يعهد الخصاصة في السلع والمشتريات (وهو جيل مستهلك لأنه لم يبلغ بعد مرحلة المسؤولية عن اقتناء المؤونة. جيل يعتبر جديا بأن الأكل مصدره الثلاجة، وأن الحيوان الذي ينتج الحليب هو العلبة!) فنحن المسؤولون عن ذلك لنا ذكريات كثيرة نجرجرها من زمن العشرية السوداء.
في مجموعتي القصصية من الخيال العلمي “وقائع من العالم الآخر” قصة عنوانها “المعزول”؛ تروي يوميات أحد المساجين حكم عليه أن يتحوّل إلى برنامج ترفيهي تتفرج عليه ربات البيوت. محكوم عليه أن يحاول إقناع أيّ واحدة من ملايين المتفرجات بأنه سجين وأنه تمت معاقبته بوضعه في ذلك المكان، فإن حدث وأقنع واحدة يكسب حريته. هو عالمنا الذي نعيشه اليوم: كلنا مسجونون وراء شاشات.
شخصيا لا أحب ولع الأدباء بادعاء أنهم أنبياء يستبقون الزمن ويتوقعون ما سيقع. ما يحدث هو أننا نتعود على التقاط إشارات من سيل كبير من الأخبار والأحداث تمكّننا من تصور أشياء يحدث أن يصادق عليها الزمن.
أتساءل وأنا في العزل الصحي: ألست شخصا يعيش جل أيامه في العزل الصحي؟ حينما سئل إدوارد سعيد عن رأيه في تهميش المثقفين أجاب بغرابة: على المثقفين أن يدافعوا عن زاوية التهميش هذه؛ لأن الأضواء تقتل المثقف. الكاتب يحتاج إلى هامش التأمل والإبداع الذي يتماشى تماما مع العزل الصحي. ستكون هي صحة إبداعية وعافية عقلية وكفى.
في يومياتي أتابع بحرج شديد ردود الفعل المختلة لكثير من الناس الذين يتهرّبون من التزامات الإنسان تجاه أخيه الإنسان، وتجد لهم ردود فعل مختلفة تماما. الكثير من الناس، كما تشير إلى ذلك إليزابيث رودينسكو، لا يفكرون تماما في مكافحة المأساة بشكل فعال، بقدر ما تجدهم عاكفين في منشوراتهم على إظهار الاستمتاع بها.
النفسانيون والفلاسفة يقولون بأن الألم والعذاب – تماما مثلما هي حال الفرح – لا معنى له في غياب عين الآخر التي تمنح الأشياء معناها ومداها وصداها. حنة أرندت وقفت كثيرا على حواف انعدام الشعور بالمأساة بلا عين أخرى تشاهد فينا (من خلالنا) معنا هذه الوقائع ثم تعمل فعليا وعضويا على خلق الشعور الملائم إزاءها.
السؤال الناتج عن كل هذا: هل القيامة مشروع جماعي بالضرورة؟ الصلوات تتم الدعوة إليها على الفيسبوك. الأدعية مبرمجة بالليلة وفي ساعات محددة. الحملات لها موعد جماعي. وكل من يحصل على خبر وإن كان مفرغا من الصحة أو من الأهمية تجد المرء يشاركه مع مئات الأصدقاء.
في يومي محطتان هامتان: الانتقال إلى بيت الوالدين – في الحي نفسه، وعلى بعد أربعين مترا فقط – للاطمئنان عليهما، مما يجعل العزل يستمر بشكل ما، والجولة شبه اليومية إلى الجبل القريب من المكان الذي أسكنه (مدينة الطاهير بمقاطعة جيجل، المطلة إطلالة ساحرة على البحر الأبيض المتوسط ، شرق الجزائر)، حيث لا بشر ولا جوائح، ولا خفافيش. في الجبل أمارس رياضة المشي الجبلي والقراءة. القراءة هي الرابح الأكبر على هامش هذه الأزمة العالمية.
ثم لا ألبث أن أعود إلى البيت. أشارك في الحياة المنزلية ببعض الأعمال أو – على الأقل – بالتقوى؛ والتقوى عند الكتّاب طبعا هي الكلام!
ثم لا ألبث أن أعود العودة التي لا مهرب منها إلى الفضاء الافتراضي. لكي أطمئن على القارات الخمس التي جعلني الله خليفة في الأرض مسؤولا عنها.
ما الدور الذي يلعبه هذا الوجدان الجماعي الذي ينتشر على الفيسبوك؟
كنت قد لاحظت في بعض يومياتي أننا في وقتنا هذا صرنا مختلفين تماما عن الإنسان الوجودي الذي كان موجودا بين الحربين الكونيتين: وباء الأسلحة الفتّاكة التي قتلت الملايين وسط تسجيل حالات فرح كثيرة تحت عنوان: نحن نقتل انتصارا للحق. (هلاّ سألتم وباء كورونا هل أنه يفتك بالجميع انتصارا للحق ام للباطل؟). لنا طريقة مجنونة في التلبس بأحزان الناس. في الانتشاء لانتشائهم. في الاهتمام بما يقضّ مضاجعهم والسعادة بأفراحهم. نحن نعيش على إيقاع المحيط المباشر. إنسان الوقت الحالي يملك بفضل أدوات التواصل المفرط طرقا جديدة في التفاعل مع العالم. له نفسية عالمية وجروح شاملة بسبل علاج سياسية في الغالب لأنها تحتاج لأجل علاجها إلى سياسة عالمية لا إلى معالج واحد في عيادة كما عهدنا ذاك فيما سبق. ويصلح وباء كورونا كمثال عما أقوله. هذا الداء الذي ننشغل به منذ أشهر والذي يطرح ألما عالميا لا نملك أن نحياه فرديا، بل إننا نتعرض لإملاءات الألم والأمل وإملاءات دقيقة في طريقة التأثر به وحتى للقاموس المرضي الذي نعبّر به. وهذا وضع غير مسبوق.
أتابع تدخلات الفلاسفة. الفيلسوف الذي استعاد موقع المواطن أخيرا بعدما أفسدت رواق وجوده الإغريقي القديم عباءة المفكر؟ هل يذهب الفيلسوف إلى المستشفيات أو إلى الفنادق التي تحولت إلى مراكز للعناية المركزة بضحايا الوباء؟ نعم. لم لا؟ سيكون هذا الدور منعرجا يعود بالفلاسفة والكتاب إلى الجمهورية التي منعوا منها. الجمهورية بحاجة إلى المواطن المدعو الكاتب حينما تعم الجائحة.
الفيلسوف السلوفيني الشهير سلافوي جيجيك ألّف كتابا صغيرا في فضاء شهرين حول الجائحة. وجعل حقوق مبيعاته هبة لمنظمة أطباء بلا حدود. وهذا ملمح جديد للفيلسوف في زمننا.
جاك أتالي المفكر الفرنسي ذو الصول الجزائرية، المغرم بالرأسمالية يتذكر القيم الدينية ويقول على صفحته الرسمية بالبنط العريض “ألا يكون الإيثار هو الحل؟”.
لوك فيري يتفاءل، ومعه أتفاءل أنا أيضا. يقول إن الألم معلم جيد للإنسانية. يقول إن الناس يتعلمون كثيرا من الأشياء التي نسوها أو غفلوا عنها في مراحل الألم الكبير هذه. فلعلنا ننام اليوم (ولا نموت) لنستيقظ بعد قليل ونحن أكثر حكمة وأقل رعونة ونزقا.
***
قص
أسماء القيامة
لم ينتبه إلى أن ما كانت التلفزيونات تحذر منه قد حدث. كان قد تعود على أن الألم والفرح لا يعنيانه أبدا. هي قصص تروى بضمير الغائب دائما. لم يصدق أن المرض قد يقترب منه ولا من أحلام. أحلام الجميلة المستيقظة التي لا تنام في قلبه أبدا. كان في عقده الخامس، مرحلة يبدأ القلب فيها يتعود على عدم دخول الحب إليه من الأبواب المشرعة، ولا حتى من النوافذ والمنافذ المريبة. لم يصدّق حينما التقى في تلك السهرة الصاخبة بأحلام. ساعتها فقط فهم المغزى من كلمة “جميلة”. أحبها بجنون، وفهمت وأفهمته أنها إنما خلقت لكي تلتقي به وتحبه؛ هي ابنة الثلاثين التي تسكعت في دروب الحياة مطولا دون أن تصعقها الصاعقة. معا عبرا السنوات الخمس الأخيرة. معا صرّفا الفعل أحب. ومعا كانا يتسمعان إلى أخبار الجائحة. “هل هي القيامة حبيبي؟”. “نحن بمنأى عن كل شيء في هذا المكان، ممنوع نطق كلمة قيامة”. ولكنها باغتته كعادتها بكتابة الكلمة للمرة الأخيرة قبل أن يقتلها الفايروس “نعم هي القيامة يا حبيبي. القيامة هي أن تفقد من تحب”. لم يصدّق أنه بعدما بكى حبا إلى جانبها، صار يبكي حزنا في إثرها.