الرسام والروائي شرف الدين ماجدولين وكتاب مبتكر
في “كراسة الخط والرسم” يقدم خوسيه ساراماغو حكاية فنان تشكيلي لم يوفق في رسم بورتريه للسيد “س”، ليقرر إعادة المحاولة. وهنا اختار هذا الفنان أن يحكي لنا قصته مع الرسم والبورتريهات والموديلات التي يرسمها. فتحول الرسام إلى روائي، حيث استطاع أن يرسم عبر الرواية ما لم ترسمه فرشاته، مثلما حدث مع بعض الرسامين الذين قدموا لنا تفاصيل دقيقة لوقائع متخيلة يعجز أمهر الروائيين عن وصفها. وفي رواية ساراماغو هاته، كثيرا ما حدثنا بطلها الرسام عن دور النقاد في متابعة أعماله والتأثير في مساراته الفنية واختياراته الشكلية واللونية. لعل حكاية الرسام والروائي والناقد هذه مدخل مناسب يسعفنا حقا في قراءة كتاب “الرسام والروائي” للناقد المغربي شرف الدين ماجدولين.
من “غيرنيكا” بيكاسو إلى سرديات الحرب وتشكيلاتها في لبنان والعراق، وصولا إلى الديسابورا السورية المعاصرة، عبر روايات ولوحات المبدعين السوريين في المنافي والشتات، يترحل الناقد المغربي شرف الدين ماجدولين ما بين مشاهد روائية وتشكيلية يعمّها الخراب ويفجعها الدمار. إنها جمالية الحرب، كما يسمّيها جون بودريار، وهو يتحدّث عن مجتمعنا الراهن الذي يقف في وضع المتفرج على نفسه، وهو ينزع نحو نهايته المحتومة. هكذا، تحاصر “جماليات القبح” هذا الكتاب، مثلما يحاصر القبح هذا العالم الموبوء، في زمن الجائحة.
منذ مقدمة الكتاب، اختار شرف الدين ماجدولين المقارنة بين عمل الرسام وعمل الروائي، عبر تقنية “تبادل الأدوار”، حيث “يسعى الرسام في لوحاته لأن يقدم حكاية، تلتقط العين تفاصيلها، وتعيد صياغتها”. وفي مقابل ذلك، فإن كاتب الرواية، وعبر متنه السردي “يرسم شخصيات ويصوّر فضاءات وأزمنة ومواقف وعواطف وأفكار”. وبعبارة المؤلف، فإن الروائي إنما “يشكّل لوحات لفظية”. كما ينبهنا الناقد إلى أن ثمة معجما مشتركا بين الروائي والرسام، يمتد من “الصورة” إلى “إنتاج الأثر”، كما هو العنوان الفرعي للكتاب، مرورا بمفاهيم تنتظم اشتغال المبدعين معا، من تشكيل وأسلوب وإطار وموضوع وفكرة وذات وتصوير وتشخيص ووصف وظاهر ومضمر.
انطلاقا من مقدمة الكتاب، واستنادا إلى ما تقدم، يندرج كتاب ماجدولين ضمن طائفة من الدراسات المقارنة المعاصرة، كثيرا ما عنيت بتقاطعات الإبداعات الإنسانية وتراسل الفنون وما بينها من اتصال وانفصال، وإصرار على الجمال.
تقاطعات تشكيلية
تقتضي المقارنة وجود طرفين متقابلين ومتقاطعين أيضا، يبحث الناقد عن المشترك بينهما والمؤتلف والمختلف فيهما. ذلك أن التفكير النقدي بصدد الفن، كما يرى إدغار موران، غالبا ما يستند إلى الثنائيات، وعليها يبني مقدماته ومصادراته. ويمضي شرف الدين ماجدولين في تعميق هذه الثنائية، ما بين الرسام والروائي، والبحث عن الثنائيات الأخرى المتناسلة منها، وفي مقدمة ذلك العين واللسان. فالعين هي مرجعية الرسام، واللسان مرجعية الروائي، يقول الناقد. وبينما تستند اللغة إلى معرفة مرجعية، تتعلم العين عبر الاكتشاف، إذ لا يحتاج ناقد الفن إلى تعلم الإسبانية، مثلا، لتلقي وقراءة عمل لبيكاسو أو غويا، وهكذا، وهذا التقابل ما بين العين واللسان هو الذي قاد مؤلف الكتاب إلى رصد فروق نقدية أخرى، ومنها الفارق بين الكتابة عن العمل الفني والكتابة عن الرواية. وهنالك أيضا ثنائية البصري والمكتوب، وثنائية النسغ واللحاء، التي صاغها المؤلف لبيان الفرق بين الكتابة الروائية ورسم اللوحة، التي لا تشغلنا بالبحث عن معنى يثوي تحت اللحاء، أكثر مما يشغلنا جانبها المرئي المحسوس. وهنالك ثنائية العابر والمقيم، حيث يجعلنا النص الروائي نعبر نحو معنى نتأوله، مقابل العمل الفني المقيم في ذاته. وهنا، يرى صاحب مقولة “التأويل النقدي” أننا لا نحتاج دوما في أن نكون مؤولين حين نواجه الأعمال الفنية”، بينما ترتفع هذه الثنائيات في محاور أخرى من الكتاب، ومنها الحديث عن الوصف الروائي، الذي يلتقي فيه الروائي والرسام في التشكيل البصري للمشاهد والعوالم المتخيلة. والشاهد عند المؤلف ههنا هو المشهد الافتتاحي لرواية “الإنجيل برواية يسوع المسيح” لخوسيه ساراماغو أيضا.
أوضاع متماثلة
لا يلتقي الروائي والرسام في تقاطعات وحسب، بل يقفان معا في وضعية متماثلة، تشكل موقعا للرؤية وزاوية للنظر. يستحضر ماجدولين ههنا ما أورده أورهان باموك في كتابه “الروائي الساذج والحساس”، حيث “يشبه الروائي الرسامين الصينيين القدماء، الذين يتسلقون الجبال من أجل التقاط إحساس مناظر طبيعية واسعة… ومكان المراقبة، الذي يشرف على كل شيء من الأعلى، بنظرة واحدة، والذي يجعل تلك اللوحات ممكنة، هو التخيّل، ولا يوجد رسام رسم لوحاته على قمة جبل. بنفس الطريقة يكون بناء الرواية مقترنا بالبحث عن نقطة وهمية بحيث يمكن من خلالها الإشراف على المشهد بالكامل”. انطلاقا من فكرة الإطلالة من أفق شاهق على مشهد، يرى مؤلف الكتاب أن مسودات الروائي شأنها شأن التخطيطات الأولية للفنان التشكيلي لا بد لها مما أسماه ماجدولين “نقطة بداية تلهم اليد، في الكتابة والرسم على حد سواء”.
إلا أن هذا التماثل ليس يقتصر على بداية العملية الإبداعية في الرواية والتشكيل معا، بل إن ثمة قناعة راسخة لدى الروائي والرسام بضرورة تجاوز البدايات “حتى وإن لم يتم استيضاح ما بعدها”، حيث يشرع المبدع في رسم شخصياته، في اللوحة، كما في الرواية، من غير أن يكون على بينة من مصائر الشخصيات وأقدارها ومآلات الأحداث وتحولاتها.
إلى حد الآن، يبدو أن العلاقة بين الروائي والرسام إنما تقوم على التشابه والتناظر، أكثر مما تقوم على الاختلاف والتهاجر. بينما يستمر ماجدولين في رصد العلاقة ما بين المروي الروائي والمرئي التشكيلي، والتأصيل لهذه العلاقة، مستحضرا ما أورده باموق في “إسطنبول: الذكريات والمدينة”، وفي فصل “متع الرسم”، تحديدا، لما كان يهوى الرسم في طفولته، قبل أن يحظى بتشجيع من عائلته على الاستمرار في خربشاته ومحاولاته التي أبدعها “بجدية الطفل الذي يلهو”، حسب العبارة المأثورة عن بورخيس. حال أورهان باموق حال الكثير من الروائيين والشعراء الذين تولّعوا بالرسم في طفولتهم، قبل أن يُعرِضوا عن ذلك، لما تهيبوا جمال الرسم وجلاله، فاستسلموا للكتابة، حين أقنعوا أنفسهم وأوهموها بأن الأدب إنما هو رسم بالكلمات، مثلما هو الفن كتابة باللوحات وسواها من الأعمال التشكيلية.
سرد اللوحة
في الفصل الثالث من الكتاب، يقترح علينا ماجدولين جولة في النصوص الروائية العربية التي تمثلت أعمالا تشكيلية شهيرة. والحالة هذه لن يكون هنالك مثال أفضل من “غيرنيكا” بيكاسو، التي حضرت في الكثير من الروايات والسير الذاتية والرحلات والمذكرات الشخصية العربية المعاصرة. وبذلك، فقد مثلت هذه اللوحة مرجعا مثاليا “للاحتجاج، وتشخيص الألم العاتي، المجرد من تفاصيله البشرية الظاهرة”.
ويتتبع المؤلف حضور “غيرنيكا” في كتاب “غيرنيكا – بيروت” لفواز طرابلسي، حيث يقدم مشاهد متناظرة من حرب بيروت، والتي تكاد تنعكس على أديم لوحة بيكاسو، بينما يقدم الكاتب اللبناني ما يشبه روبورتاجا للحرب والرعب، إبان تلك المرحلة العصيبة.
كما يدرس الكتاب حضور “غيرنيكا” في رواية “أثقل من رضوى” لرضوى عاشور، وفي سيرة “زمن المتاهة” للكاتبة اللبنانية يمنى العيد، عن الحرب اللبنانية أيضا، وفي الرحلة المعاصرة “مدني وأهوائي” للروائية العراقية لطفية الدليمي، حيث ترسم الرحلة، على غرار اللوحة، مشاهد من الحرب والاحتلال والاقتتال الطائفي في أرجاء العراق.
الدياسبورا السورية
عبر ذاكرتنا المثخنة بالحروب، من حرب بيروت إلى حروب العراق، يصل بنا الكاتب إلى الحرب السورية المستعرة. هنا، يقيم الباحث تقابلا ما بين رواية “سماء قريبة من بيتنا” للكاتبة السورية المقيمة في الأردن شهلا العجيلي، وأعمال التشكيلية السورية فاديا عفاش، التي تعيش منفاها بالولايات المتحدة. وفي مشاهد الرواية، كما في لوحات عفاش، تحضر “استعارات الجثة”، بتوصيف الناقد، شاهدة على انتفاء الحياة. هذا فضلا عن مظهر “الخراب المترحل”، الشاهد على بلاغة سردية الدياسبورا السورية، وهو الخراب الذي نعاينه في صور سقوط الجدران والأسقف، وتحطيم المعابر، وتلويث المياه، والضياء، والهواء. على أن هذا الخراب “لا يبقى في حدود الوطن المتروك، وإنما يهاجر في الذاكرة ويسكن الجوارح في الشتات، بحيث يغدو جزءا من هوية الجسد والروح”، وهو ما يلتمسه الناقد في روايات المنفيين السوريين الجدد، مثل لينا هويان الحسن وعبدالله مكسور وإبراهيم الجبين، في مقابل الأعمال الفنية للتشكيليين السوريين الموزّعين بين المهاجر، في بيروت وعمان والقاهرة، وفي لندن ومدريد ونيويورك… بينما يتوقف ماجدولين بالدرس والتحليل عند الأعمال التشكيلية الأخيرة للفنان أحمد قليج، المقيم في بيروت، وهي أعمال تقوم بتمثيل هذا الخراب المترحّل وإعادة تشكيله. بينما يواصل ماجدولين تأويل الأعمال الروائية والفنية، واقتفاء أثرها وتأمّل مضمرها، عبر “فائض من العمل التأويلي الذي يمارسه الناقد”، وفق التحديد الذي وضعته كاترين أوريكيوني في كتابها “المضمر”، وكما أنجز ذلك شرف الدين ماجدولين في كتابه الجديد “الرسام والروائي: الصورة والإنتاج الأثر”.