الهامش حين يتغلّب على المتن
مع تغوّل الواقع، وتمدد القانون ليصبح روتيناً أصمّ يقتل كل إبداع، كان لا بد من تمرد ما يقوم به فنانو الشارع ضد الغاليريات الرسمية تلك التي باتت تسلّع اللوحة وتؤطّرها كأيّ منتج تجاري، رغم أن هذا من مصلحة الفنان ومن مصلحة الغاليري نفسها، ولكن هو بالتأكيد ليس من مصلحة المتلقي المشاهد المنوط به أيّ عمل فني، ما حصل ويحصل هو أن الفن بات سلعة في العصر الرأسمالي مثله مثل الرياضة والجوائز الأدبية والصحف والاعلام، وكل شيء امتدت يد الرأسمالية إليه، بعد أن حررته من نير عبودية الاشتراكية القاتلة للفن ولحرية التعبير والإبداع، بنماذجها السوفييتية والصينية والشرق أوسطية.
بدأت القصة في الستينات مع انتباه رأس المال أن بإمكانه الاستثمار في الفن مثل أي منتج بشري آخر، لا وبل إن أيّ تسويق للفن وإشهاره سيزيد من سعر العمل الفني ويزيد المضاربة عليه، وهكذا توالدت دور المزادات على الأعمال الفنية للفنانين الراحلين وازدادت أسعار تذاكر المتاحف الفنية في العالم، والأسوأ نشوء ظاهرة الاحتكار الفني للفنانين الشباب مقابل مرتب شهري، وإنتاج عدد من اللوحات شهرياً في مقابل هذا.
بالطبع هذا الأمر أمّن استقراراً للفنان وأبعده عن الفاقة والجوع والعوز، ولربما أتاحت له تلك الوفرة أن يستثمر في ألوان أغلى ثمناً ولوحات خام أشد ثقة ومتانة.. ولكنها بالتأكيد قتلت في دواخله روح التحدي التي تجعل الفنان التشكيلي راغباً بالتغيير والثورة على ذاته من أجل كسر أطر المألوف، فالفنان إن لم يكن مجدداً فهو لا شيء، المُكرّر يذهب مع الريح ولا تستبقي الذواكر والمدونات إلا أولئك الذين يحرقون أنفسهم من أجل خلود وتمييز أعمالهم الفنية، وأولئك حتماً ليسوا ممن قبلوا دخول معامل اللغة الجاهزة المنسقة أو مدجنة الاحتكار الفني أو الذي أخصى أرواحهم وقتل جذوة التجديد في داخلهم.
في خضم كل ذلك الجدل قرر البعض من المشردين على هامش العمل الفني أو أولئك المطرودين من جنة الغاليريات الفنية المبنية ضمن جدران المؤسسة الرسمية الفنية المعترف بها في المجتمع، والمكرّسة في دائرة الاعلام المرتبط، والصحافة التي تدور في ذات الفلك.
قرّروا أن يحرقوا المدينة بما فيها “فنياً” من أجل إيصال أصواتهم المبعد عن الصالة، بل إنهم قرروا أن يتمرّدوا على الصالة ذاتها بنسف جدرانها تماماً، وتحويل المدينة إلى معرض مفتوح لأعمالهم المرفوضة أساساً في الصالات التي لا تستقبل سوى أصحاب البذلات الرسمية وصاحبات الفساتين السواريه والكعوب العالية، من فتح لهم المال البوابة للتذوق الفني.. أو من كان الفن بالنسبة إليهم جزءا من أرستقراطية عائلية تتوارث مثل المجوهرات الشخصية.
ولكن الهامش رفض تلك المعادلة، فمن قال إن الأغنياء وأبناء الشريحة العليا من الطبقة الوسطى هم فقط من يحق لهم تذوق الفن، لا..
دعونا نتخيل صالة للفنون الجميلة في باريس في الحي اللاتيني أو في الدائرة السادسة عشرة، أو في نيويورك في الجادة الخامسة، أو في لندن أو برلين أو بيروت أو دبي في أفخم الأحياء، حيث تجتمع نخبة النخبة برفقة المختارين من الفنانين وعلية القوم من أجل افتتاح معرض تشكيلي لأحد نجوم التصوير والتشكيل في العالم، حيث تتبادل الأنخاب ويبدأ التحليل والتدقيق في الألوان وحركات الفرشاة والسكين على اللوحة التي سيقدر ثمنها بخمسين ألف دولار على الأقل، ولن ينتهي النهار قبل أن تباع أغلب اللوحات، ولكن جميع الحضور الأنيق من رجال ونساء، الذين فاحت عطورهم الغالية حتى خرجت من باب الغاليري الزجاجي المتصل مع الواجهة الزجاجية الضخمة للصالة، سيلتفتون بذعر شديد حينما يسمعون ويشاهدون تحطم الواجهة الزجاجية الضخمة بحجر ضخم رماه أحد المعمدين بالهامش على الزجاج النظيف وفرّ هارباَ.
سيطمئن المنظمون الجميع، وسيخرج الرجال الوسيمون مع الصبايا الأنيقات بفساتينهن الضيقة إلى الخارج بحثاً عن الفاعل، ولكن ما سيصدمهم أكثر من إمساك البوليس بالفاعل، هو لوحة ضخمة جداً، بحجم العمارة المواجهة على الأقل، رسم رُسم وأعدّ في ليل، لشاب ملثم لا تظهر سوى عينيه، لربما كان مرتدياً ماسكاً مضاداً لكورونا بدل اللثام، هذا الشاب يضرب بذراع لوحة رسم عليها رسم كلاسيكي لملك فرنسي يرتدي الباروكة ويحمل كلباً نحيلاً، يضربها بعنف لدرجة أن يده تخرج من الطرف المقابل ل اللوحة وهو ينظر إلى الناس بغضب.
الرسم يبدو مذهلاً وثورياً، وحمّال رأي مدهش، خصوصاً أن مكانه هو في مواجهة أهمّ وأكبر صالة للفنون في المدينة المضيئة، فالرسم الذي أراد صاحبه أن يكون بطله ملثماً، أو ذا وجه مختف، وبلا توقيع مباشر، يحمل من الرسائل أضعاف ما تحمله لوحات الجاليري داخل الجدران بالكامل، مع العلم أن الجهد والمغامرة والمخاطرة بالنفس كانت كبيرة جداً، لدرجة أن الفنان تدلّى من أعلى العمارة بحبال وروافع بدائية الصنع، وكان من الممكن أن يفقد حياته أثناء انجاز العمل، دون أن ننسى أن كمية الدهان والألوان المسكوبة على جدار العمارة هي عشرات أضعاف، بل مئات أضعاف ما وضع على لوحات المعرض المقابل في الجاليري المضاء جيداً، إلا أن القيمة الفنية لعمل الغرافيتي وصرخته وتأثيره قد تكون أكبر بمليون مرة من معاني ومضامين اللوحات المؤطرة والمقيدة بكوادر المؤسسة الرسمية في الغاليري المقابل.
إنهما عالمان يتصارعان، عالم اللوحة الرسمية المعترف بها مرتفعة الثمن، والمكرّسة والمحبّذة من النظام الفني الرسمي، الذي يشكل المتن، وعالم الهامش المرفوض والمشرد، المنبوذ خارج جدران المؤسسة، عالم لوحات مؤطرة بإطار وبقوانين ومعرفة التوقيع، لا تخرج مضامينها خارج أطر المجتمع من أقصى يمينه حتى أشد نقاط يساره بعداً.. وعالم أولئك الذين يودون برسوماتهم الغرافيتية أن يعبّروا عن رأيهم عبر الفن، أكثر من مجرد استعراض مهارتهم في الرسم واستخدام تقنيات الرسم، من أجل بيع اللوحة ونقلها من داخل جدران الجاليري إلى داخل جدران صالون من اشتراها.. إنها صرخة في وجه المجتمع، أنها الممنوع إذ يعلن، ويخرج للشمس.
لوحة الغرافيتي ذات العمر القصير نسبياً، تلك التي لا يحميها سوى أعين من يراها، في الشارع، تحمل من الخطورة ما يحمله المنشور السياسي، أو دعاة الثورة والتمرد، فالغرافيتي التي رآها من خرج من رواد الجاليري إلى الشارع، شاهدوا ملثّماً يمزّق لوحة من القرون الوسطى، باروك كلاسيكية، بموضوع تقليدي فرنسي ملكي، مكرر، تحتوي مئات القصور في أوروبا لوحات مشابهة لها.
لكن الفنان المجهول قرر أن يجعل بطله المجهول أيضاً يلكم اللوحة في منتصفها، وكأنه يقول إنني هنا كي أمزق كل شيء وأبني الفن من جديد، فمن قال لكم إن الفن هو من أجل القلة من أصحاب الأموال، الغرافيتي سيجعل الفن من أجل الجميع، سيجعل الفن يزيّن أعين كل من يركب الباص ويصعد في المترو ويمضي راجلاً على قدميه كل يوم.
الغرافيتي سيكحل أعين الشحاذين والمتسولين والهاربين من بيوتهم، والهاربات من أزواجهن، الغرافيتي سيقول كل ما تخشون قوله وما تخافون البوح به، الغرافيتي سيكون في المكان الذي لم تتخيّلوا أنفسكم فيه من قبل، سيحطم كل شيء، ويكسر كل تقليدي، وسيزول بأسرع مما تخيلون، سيزول مع أمطار الشتاء أو شمس الصيف الحارقة، سيزول بعد شتاء أو شتاءين، أو خريف أو ربيعين، سيزول بفعل الزمن أو بفعل حكومات تكره من يتمرد عليها، سيزول لأن هناك من يخشى أن تكون العمارة الإسمنتية منصة سياسية أو شعبية للتعبير.
سيزول الغرافيتي لأن هناك من يرفض أن تنفتح شبابيك المدينة على ألوان وصرخات ورفض، لأن هناك من يرفض أن تتحول الجدران إلى حيطان للمجانين، ويريد لها أن تكون منصات لشعارات الزعيم والقائد الملهم، سيزول الغرافيتي كما يزول أي شيء جميل مثل زهرة ربيعية تختفي مع نهاية الربيع، فلكل جميل أجل، ولكل قبيح مقام.
الغرافيتي منصة حاسمة، بناها الشباب كمنصة رفض لكل ما هو رسمي، لنقل الفن من الصالونات إلى الشارع، تحت شعار يحق للجميع مشاهدة الجمال، ويحق للجميع أن يتمتّع بالألوان، في غابات الإسمنت التي نعيش فيها في عالم المدن الكثيفة التي نعيش فيه، هو ليس فناً صرفاً ضمن قواعد ومدارس الفن التشكيلي، بل هو يضرب حرفياً عرض الحائط بكل قواعد الرسم، ليؤسس لفن الشارع، فنّ الناس، فنّ التمرد، فنّ لم يولد في عصرنا الراهن وضمن شروط المجتمع الحديث، وإنما بدأت ملامحه بالتشكل منذ العصر الحجري، وحتى الفراعنة الذين قرروا أن لغتهم هي صورة، تماماً كما الغرافيتي تماماً صورة/لوحة تختزل آلاف الكلمات وربما الكتب، في ألوان على جدار، وبتوقيع مغفل.
لوحة لا تدوم أكثر من عمر قطة صغيرة، ودون أن نعرف خالقها، فما هو ذلك الفن وماذا يريد من يقف خلفه. سوى أن تكون الرسالة سريع مفاجئة وصادمة، هناك ربما يكون الهامش لأول مرة هو المتن، حيث يحتل الهامش المشهد للمرة الأولى في التاريخ، حينما رفضت أفكار من رسم الغرافيتي فاحتلوا المدينة وفرضوا بالبنادق الفنية أفكارهم، لا توقيع ولا خلود للوحة، كل المطلوب أن تصل الفكرة، كما المنشور، كما الخطاب الثوري، سريع وحاسم وإلى زوال من الوعي المباشر بحيث أنه يهرب بسرعة إلى اللاوعي وهناك سيستقر.
لا تشغلوا أنفسكم باسم الرسام، أو عمره، أو توجهه، ولا تشغلوا بالكم من سيملك اللوحة، لا تتصارعوا عليها، فهي ملك للشعب ملك للجميع، والجميع من يقرّر مصيرها، فقط تأمّلوها، ومتّعوا أبصاركم بها، بألوانها وفكرتها وثوريتها، أو سخريتها، فالفن للجميع، والفنان ما هو إلا رسول يحمل تلك الرسالة التي تقول: عليكم ألا تعبدوا الرسول بل اعبدوا إله الفن والإلهام الذي أوحى له بتلك اللوحة، فما الفنان إلا رسول ينقل لكم ما تحمله إياه ربات الإلهام.. وأنتم صاغرون.
تمكنكم الاشاحة بوجوهكم بعيداً، يمكنكم البصاق على الجدارية، أو التبول ليلاً عليها، إن لم تعجبكم، ولكنها ستبقى صامدة في مواجهة الغاليري الرسمي، مثل نبتة صغيرة، حولين أو أكثر ربما أو أقل، مثل وردة ستذبل، ولكن الريح ستحمل بذور الفكرة بعيداً مثل زهرة عباد شمس نضجت ونشرت بذورها في المدينة.
ستذهب اللوحة وستبقى الفكرة، على العكس من نظيرتها في الجاليري حيث تبقى اللوحة وتذهب الفكرة مع الزمن. هذا هو الهامش حينما يتغلب على المتن، هذا هو الغرافيتي.