تحوّلات الشعر تحوّلات النقد
مرّت الشعريّة العربيّة الحديثة بجملة تحوّلات بموازاة تحوّلاتٍ محايثةٍ في النقديّة العربيّة المشتغلة في حقل نقد الشعر، على النحو الذي شيّد في ذهنيّة التلقّي معادلة من نوعٍ ما بين النصوص والظواهر الشعريّة من جهة، ونقدها من جهة أخرى، وقد تعرّضتْ هذه المعادلة – إنْ صحّ وصفها بهذا الوصف – لهزّات كثيرة يتبادل فيها الطرفان شتّى التُهَم، من قبيل أنّ جهة النقد تتّهم النصوص بالانحدار والضعف، وجهة الشعر تتّهم النقد بالعجز عن المواكبة والتصدّي لحداثات الشعر وكشوفاته الفنيّة الجديدة، في سجال هشّ لا قيمة له ولا يقود إلى نتائج مهمّة على الصعيد العلميّ والثقافيّ والفكريّ والأدبيّ المستقبليّ.
الشعريّة العربيّة الحديثة بواقعها الراهن ذات نسيج ممزّق بين ثلاثة نماذج أساسيّة قيد الانتشار والتداول والممارسة، نموذج تقليديّ هو “قصيدة الوزن” ما زالت أفواج ليست قليلة من الحرس القديم تدافع عنه وتحاول أن تنفخ الروح في جسده المتهالك، ونموذج وسيط هو “قصيدة الوزن” استنفد كثيراً من طاقته الإبداعيّة في العقود السبعة الماضيات، والتحق بسابقه على الرغم من وجود من يحرسه ويدافع عن مصيره بحجج لم تعد قادرة على الصمود كثيراً، والنموذج الإشكاليّ الأخير وهو “قصيدة النثر” وقد هيمن على الفضاء الشعريّ العربيّ وتسيّده وألحق هزيمة واضحة بالنموذجين السالفين.
تعود العلاقة بين الشعر العربيّ ونقده إلى العصر الجاهليّ حيث كانت للشعر أسواق شهيرة مثل سوق عكاظ وسوق مَجنّة وسوق ذي المجاز وغيرها من الأسواق المحليّة، تنظّم لقاءات للشعراء على شكل دَوريّ شبه منتظم، وكان ثمّة “شعراء نقّاد” يحضرون مجالس هذه الأسواق كي يحكموا بين الشعراء المتنافسين ويبدون آراءهم فيما يسمعون من شعر، وكان أبرزهم النابغة الذبياني، وهو شاعر جاهليّ من أهل الحجاز يعدّ أحد شعراء الطبقة الأولى، كانت تضرب له قبّة من جلد أحمر بسوق عكاظ فتقصده قوافل الشعراء فتعرض عليه أشعارها، وهو بما يمتلك من ذائقة يعترف بها الجميع كان يوجّه نقوداً مختلفة لما يسمع، ويفضّل شاعراً على آخر وقصيدة على أخرى، على نحوٍ يؤسس لبدايات نقديّة إجرائيّة صاحبت الشعريّة الجاهليّة على مستوى الشعراء والقصائد والظواهر الشعريّة.
بدأتْ من هنا قضية تلازم الشعر والنقد على أساس حاجة الشعر للنقد كي يمنحه هويّة المرور إلى مجتمع التلقّي بقوّة، فكانت آراء النابغة الإيجابيّة في الشعراء وقصائدهم بمثابة أوسمة أو جوائز يفخرون بها ويعدّونها جوازَ سفرٍ إبداعيّاً نحو فضاء الشعر، على الرغم من أنّ الناقد هذا وفي كثير من الأحيان لا يتجاوز نقده ملاحظات لغويّة أو دلاليّة سريعة وعابرة، لكنّ “حُكم القيمة” الذي يصدره هو ما يهمّ الشاعر ويمنحه تلك المكانة الشعريّة التي يبحث عنها، وظلّتْ هذه الرؤية حاضرة في العقل النقديّ العربيّ إلى حين، إذ يكفي أن يقول ناقد مهمّ عن شاعر شاب ملاحظة إيجابيّة حتّى يضع الشاعر نفسه في مقام الكبار فوراً، غير أنّ تطوّر الفكر النقديّ والممارسة النقديّة في العصر العباسيّ ابتداءً من القرن الثالث الهجريّ فتح الفضاء النقديّ على مساحات جديدة لها علاقة بالنظريّة والمنهج والإجراء.
أسهمت البلاغة العربيّة في عصور نضجها بتطوير العقل النقديّ العربيّ كثيراً على الرغم من أنّها ذات طبيعة معياريّة لا وصفيّة، وتحوّل كثير من البلاغيين العرب المتميّزين إلى نقاد كبار لعلّ عبدالقاهر الجرجانيّ كان في مقدمتهم، وصاحبت البلاغةُ النقدَ ردحاً طويلاً من الزمن في تلازم أكاديميّ خفّتْ وطأتُه إثر ظهور المناهج النقديّة التي تقترح حلولاً أخرى أوسع من حدود البلاغة لمقاربة الشعر، فكانت المناهج السياقيّة: التاريخيّة والاجتماعيّة والنفسيّة والانطباعيّة فتحاً جديداً في فحص النصوص الشعريّة ومعاينتها على وفق أسس علميّة لها مرجعيّات مختلفة، وهيمنت هذه المناهج على الدرس النقديّ هيمنة كبيرة في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين -عربياً -، وعلى الرغم من أنّ مناهج البنيويّة وما بعدها سادت منذ منتصف القرن العشرين في بلدان العالم ومنها البلدان العربيّة على نحوٍ متأخّر بعض الشيء، إلا أنّ بعض النقّاد ما زالوا متمسّكين ببعضٍ من آليّات المناهج السياقيّة على نحوٍ أو آخر وتوظيفها في نقودهم ودراساتهم ومراجعاتهم.
حققت المناهج الحداثيّة “البنيوية وما بعدها” كشوفات هائلة في مجال مقاربة الشعريّة العربيّة الحديثة، وأعادت في الوقت نفسه اكتشاف الشعريّة العربيّة القديمة في ضوء دراسات حديثة حقّقت منجزات كبيرة على هذا الصعيد، وقد قفز النقد على مستوى النظرية والإجراء قفزات هائلة وصل فيها إلى مرتبة تنطوي على قدرٍ كبيرٍ من الاستقلاليّة والتمركز والخصوصيّة الكتابيّة، فلم يعد النقد تابعاً للشعر ومشتغلاً على ضفافه وتخومه وظلاله مثلما كان سابقاً، فقد بدأ النقد يعمل لحسابه الثقافيّ الخاصّ بصرف النظر عن الجنس أو النوع الأدبيّ الذي يقاربه، على النحو الذي تغيّر فيه مفهوم النقد وانفتح على مسارات جديدة في التشكيل النظريّ للنظريّة النقديّة، وفي طبيعة الممارسات النقديّة التي أهملت السؤال النقديّ القديم المهموم بـ”ماذا يقول النص؟”، واستبدلت به سؤالاً جديداً هو “كيف يقول النص؟” لمعرفة الآليّات والتقانات التي تؤلّف النص وتشكّل بنيته وفضاءه الأدبيّ.
النقديّة العربيّة في مجال نقد الشعر على نحوٍ أخصّ هي نقديّة فرديّة تقوم على جهد الناقد الفرد وليس الجماعة النقديّة، وهذه الجهود الفرديّة مهما بلغت من التقدّم والكفاءة والبراعة فإنّها لن تصنع نظريات نقديّة يعوّل عليها، وستبقى الجهود النقديّة الفرديّة تدور في حلقات خاصّة لا تنفتح على آفاق كبيرة بوسعها أن تنتج الكثير، فضلاً على أنّ المؤسسات الأكاديميّة والثقافيّة العربيّة لا تُعنى العناية الكافية بالعملية النقديّة بوصفها عمليّة حضاريّة كبرى، لا بل تتقصّد إهمالها أحياناً والنظر إليها بوصفها نشاطاً ثانوياً أقل أهميّة من النصوص الإبداعيّة الأدبيّة، وهو ما ينعكس سلبياً على الفعالية الأدبيّة الكبرى برمّتها لأنّ مقياس تقدّم الشعوب وتحضّرها وتمدّنها دائماً يكمن في مستوى رقيّ نقادها وتطورّهم، والأمّة التي من دون نقّاد كبار تبقى في هامش ركب الحضارة الإنسانيّة ولا يُكتب لها الانتماء لنادي الحضارة الحديثة، وستبقى عبئاً على الحضارة الإنسانيّة تنتهي حتماً إلى الغياب والانقراض.
التلازم الثقافيّ والأدبيّ بين النصّ الشعريّ والنصّ النقديّ لم يعد قائماً في العصر الثقافيّ العربيّ الراهن، وذلك لأنّ النقديّة العربيّة تأثّراً بالمنهجيّات الغربية الحديثة بدأت تعمل على إنتاج مشاريع خاصّة بها ذات مرجعيّات فلسفيّة وفكريّة وثقافيّة على مستوى النظريّة والإجراء معاً، وبدأ النقد يعمل لحسابه له في ظلّ مشروع نقديّ خاصّ يتناول من التجارب الشعريّة ما يستجيب لفرضيات مشروعه، ويهمل غيرها حتى لو كانت نصوصاً رفيعة المستوى إذ صار فضاء المشروع النقديّ هو المعيار الأساس لمقاربة النصوص الشعريّة، وأخذ الناقد يبحث عن نصوص شعريّة بعينها يستطيع بوساطتها أن يصل إلى بناء مشروعه النقديّ على النحو الذي يناسب نظريّته، بحيث تستجيب هذه النصوص الشعريّة لمتطلّبات مشروعه ومن ثمّ يحقّق البرهنة على فرضياته التي وضعها في مقدّمة مشروعه لتوكيد نجاحه.
حصلت تغيّرات هائلة في العصر الأدبيّ العربيّ الذي نعيشه الآن، فقد تغيّر مفهوم الشعر في سياق وتغيّر مفهوم النقد في سياق آخر، على نحوٍ ينبغي أن تتغيّر فيه سبل التواصل والتلقّي والتداول أيضاً، ولم يعد من حقّ الشاعر العربيّ الحديث أن ينام ملء جفونه عن شواردها لأنّه لا يوجد ثمّة من يسهر جرّاها ويختصم، وأصبح الشاعر مسؤولاً عن تقديم نصّه الشعريّ والدفاع عنه بوعي نظريّ عالٍ ورؤية نفّاذة قويّة الحجاج وسبلٍ مختلفة، ونحسب أنّ المتنبّي مات وشبع موتاً وطويت صفحته تماماً وصارت القصيدة العربيّة الحديثة هي محور السجال النقديّ وبؤرة النظرية النقديّة في هذا السياق، فقصيدة النثر الحديثة بنماذجها العليا الراقية هي النموذج الذي يمثلّ العصر ثقافياً ورؤيوياً، ولم يعد من المناسب التغنّي بقصائد مضى على إنتاجها مئات السنين في نوع من النوستالجيا العقيمة.
لا يمكن في هذا السياق التعويل الحاسم على معيار نقديّ واحد يمكن الاستناد إليه لمقاربة النصوص الشعريّة الحديثة – ولاسيما في قصيدة النثر – بوصفها قصيدة العصر، فالمعيار على هذا النحو يجب أن يكون مرناً على النحو الذي يناسب التنوّع الهائل في نصوص قصيدة النثر، لأنّ كلّ نصّ من نصوصها بحاجة إلى مقاربة خاصّة تستلزم معياراً خاصّاً بحيث تستحيل مقاربة نصّين من نصوص قصيدة النثر على وفق معيار نقديّ واحد، فكلّ قصيدة لها عالمها الخاصّ وإيقاعها الخاصّ وتجربتها الخاصّة بما يتطلّب وعياً نقدياً خاصاً بكلّ نصّ.
علينا أن ندرك إذن أنّ التلازم الأدبيّ والثقافيّ بين الشعر والنقد لم يعد له مكان ولا حضور ولا أهميّة في واقعنا الأدبيّ الراهن، وعلى الشاعر الذي يصدر كتاباً شعرياً جديداً ويبقى على قارعة الانتظار لكي يقاربه النقد أن يكفّ عن ذلك لأنّه قد ينتظر طويلاً، فثّمة عوامل كثيرة بعضها غير أدبيّ وغير فنيّ دخلت على خطّ هذه العلاقة، قد يحتاج النظر فيها وتحليلها ومناقشتها إلى مداخلة طويلة لا تخلو من تعقيد وغموض، كوّنت أسباباً أخرى لتحريض النقد على مواجهة الشعر بما يجعل المعيار التقليديّ هنا أكثر صعوبة وحساسيّة، بما يجعل قضية المعيار تتعرّض لكثير من الجدل والسجال والحوار من زوايا نظر مختلفة ومتعدّدة.
لعلّ من الضروريّ أن تنتبه المؤسسات الأكاديمية والثقافيّة المتخصّصة إلى أهميّة النقد والعناية به وتحويله إلى نوع من الثقافة العامّة المتقدّمة، وربّما تكون الجامعات العربيّة هي الأكثر تحمّلاً لهذه المسؤوليّة في تحويل الدرس الخاصّ باللغة العربيّة إلى تشكيل ثلاثيّ وليس تشكيلا ثنائيّاً كما هو معمول فيه الآن، وهذا التشكيل الثلاثي في هذا الدرس يقوم على ثلاثة أقسام هي: القسم اللغويّ واللسانيّ، ثم القسم الأدبيّ، ثم القسم النقديّ، بحيث يكون للنقد كيان دراسيّ خاصّ به وليس ملحقاً بالدرس الأدبيّ، فضلاً على بناء تشكيلات جماعيّة نقديّة مرتبطة بمؤسسات أكاديميّة وثقافيّة متخصّصة تشتغل على وفق استراتيجيّات كبرى، من ضمنها تكليف كوكبة من النقّاد المتخصّصين في مراجعة الشعريّة العربيّة الحديثة على وفق خطط سليمة ذات برامج متكاملة تنتهي إلى وضع دراسات شاملة للظواهر والنصوص بآليّات وتقانات وأدوات علميّة يكون بوسعها تحقيق نتائج حضاريّة كبرى في هذا المجال.