أسئلة المعيار وأزمة نقد الشعر
لماذا لا يُفلح الاعتماد على الافتراضات العلمية ولا متابعة القوانين التاريخية في توقُّع التحوّلات الإبداعية، ولاسيما في فنّ الشعر؟ إذا كان الشعر العربي القديم قد قدّم لنا نماذج رائعة رائقة تجسّدت في نصوص خالدة، فإننا قد نلفي النتاج الشعري الحديث حسيرًا لا يفيض جماليًّا مثلما كانت عليه الحال مع الشعر القديم. ليس المجال لإطلاق أحكام استغراقية شاملة وباتة، ولكنه انطباع ذاتي (قد يشاركني فيه غيري) مفاده أن الجماليات الشعرية العربية الحديثة مشتتة قد تفرقت بها السبل وتناهشتها أحوال الضياع الوجودي والحيرة القومية لأبناء اللسان العربي وترددهم بين الوصل والفصل: أن يصلوا أسباب التعلق المتين بماضيهم أو أن يقطعوا حبال الوصل به وينبتّوا (من الانبتات) ويرتموا في حضن المجهول، ويقطعوا الحبل السري مع التراث.
هذه الأحوال البرزخية، تزداد سطوعًا على شاشة الذاكرة والفكر، في سياقات الجوائح والأزمات.
إن كان لنا الفن لكي لا تقتلنا الحقيقة مثلما قال نيتشه، فإننا واقعون مع الشعر في وهم مزدوج: إذ يسعى باختلاجاته إلى أن يخبرنا عن ذواتنا ويدّعي أنه يقف على كنهها، والواقع أنه يشهد معضلات تقنية وفنية ووجودية تعصف بحضوره بيننا، في عالم تزحف فيه إنترنت الأشياء شابكة الأخضر واليابس، جامعةً بين شعر امرئ القيس وكلام حارس مصنع وسنان في مدوّنة واحدة. العلم والطبيعة في صراع أزلي يتوسّطه الإنسان الحائر بين الفن (الوهم) والعلم (الحقيقة)، وهو يدرك حدسيًّا أن الإنسان لا يتماهى إلا مع حقيقة مموّهة.
إن التحديات غير المنسجمة التي تهجم على البشرية، تنقضّ على الشعر فتسعى إلى سحبه بجاذبية رهيبة نحو البؤرة السوداء. قد لا تكون أقوال الشعراء بأكذب من أقوال النقاد، ومن شابه منهم أرباب صنعة الشعر فما ظلم.
أمّا إذا أردنا أن نفحص جزئيًّا مسألة دقيقة من دقائق فن الشعر، تتعلق ببلاغة شعر النثر، فإننا نجد أن هذا الضرب من القول يقع في أزمة مزدوجة حيال أمر بلاغة اللّغة، فهو من ناحية يرفع شعار القضاء على القوالب البلاغية، ولعله يستمرّ في ذلك من منطلقات جمالية لا تختلف في جوهرها عن منطلقات التيار الرومنسي (الذي أعلن حربًا على البلاغة وعقد سلامًا مع النحو في القرن التاسع عشر في السياق الغربي)، والحال أنّ الشعر القديم إلى عصر الإحياء والرومنسية (التي تأخّر ظهورها عند العرب إلى القرن العشرين) غذى البلاغة وتغذّى منها تخييلا ونظاما لتقنين العدول.
وهو من ناحية أخرى يجد نفسه مجبرًا بحُكم العُرف اللغوي على مجاراة سُنن الكتابة ومنطق النحو العربي وإلاّ دخل حيّز اللغو.
فتكون مراعاة هذا الضرب من الشعر للبلاغة لا من باب الاختيار والتزيين، بل من جهة الاضطرار، ومن ثمّة يكون التصرّف في قوانين البلاغة في حيّز صغير يحجب التعامل مع سائر الوجوه.
لعلّ المتابع لنصوص الشعر النثري العربي ذي الذائقة الكلاسيكية، واجدٌ نوعًا من العُجمة هي أدنى إلى اللكنة التي تجدها في ألسنة بعض المستشرقين. ليست غرابةً محمودة ناجمة عن بكارة التأليف بين الألفاظ والمعاني، ولكنها تعوّل على إيقاع الإمتاع بالمفارقة وبالنشاز والتنطّع. فمن الإنصاف ألّا ننفي عن المجيدين كتابة نصّ يستحقّ القراءة، ولكن الذّائقة الرّاسخة تنأى عن استساغة جميع ما يَرِدُ في ذلك النص من طرائق التعبير والتصوير، ويزيد انتفاء الوزن الجفاء اتساعًا ويعطي ذريعة إضافية للكلاسيكيين بوصم شعراء النثر بضعف الباع في القريض، لا يُستثنى من ذلك من الشعراء إلا من بدأ الشعر العمودي وأجاد فيه القول، ثم انتقل إلى الشعر الحر (شعر التفعيلة) وأبدع فيه، ثم انتهى إلى شعر النثر، في هذه الحالة لا يُمكن رميُه بضعف القريحة، وإنما يُصبح الحكم الأقرب إلى الصواب أن صاحبنا (وهم قلّة) قد اتخذ اختيارات فنية عن اقتناع واقتدار ولم يلجأ لشعر النثر هروبًا من الشعر التقليدي (وإن كان ذلك ليس عيبًا في ذاته، فكلّ ميسَّر لما خُلق له، فكم من شعر عمودي هزيل يقول عنه سامعُه: ليته سكت!).
يبدو الشعر النثري عاملًا على تصوير مناخات عامّة يحاكي فيها الفن التشكيلي بحيث تعوم الدلالة وتصير أوغل في التجريد أو في افتعال البساطة المغشوشة، ولاسيما أنّ القرائن الدلالية قد تشتغل اشتغالًا هندسيًّا يُوهم بأنّ المعنى يرحل مكانيًّا من قسم من النص إلى قسم، ومن سطر إلى آخر. المهم أنّ معظم نصوص شعر النثر توهم بالمحافظة على بؤرة دلالية واحدة وعلى غرض خاص بكلّ نص أو سلسلة من النصوص المتعالقة.
ولعلّ التحليل التنظيري الجيّد هو ذاك الذي يُستنبط باستقراء عدد من النصوص كبير فضلًا عن اشتغال حدس القراءة النقدية واعتمال الثقافة اللازمة عند اقتحام التأويل وإنّه لَمن المتأكد أن يجري اعتماد نماذج دالّة من المدوّنة الشعرية العربية تنتمي إلى العشرية الأخيرة من القرن العشرين، والعشريتين الأوليين من القرن الحادي والعشرين، وذلك لرصد بعض ملامح قوانين كتابة الشعر النثري لدى هذا الجيل باعتماد المجاميع الشعرية الصّادرة في هذه الفترة. مع ضرورة أن يزهد النقاد – مؤقّتًا – في الحكم بالجودة أو الرّداءة (على الرغم من أنّ ذلك من صميم عمل النقاد الحقّ) لأنّ المجال اختلافي بامتياز، لذلك يُكتفى في البدء باستنطاق النصوص بمعزل عن الحكم على أصحابها بالبراعة أو القصور.
إن النقد يعيش أزمتين، أزمة النص المنقود وأزمة النقد الذاتية الراجعة إلى تلاحق المدارس والاتجاهات النقدية العالمية (البنيوية والنفسية والتفكيكية..) ومراجعة جوانب التخييل والإيقاع والدلالة في الشعر الذي نافسته الرواية بشراسة حتى خفّت الأمسيات الشعرية تنظيما وحضورا وأضحت الرواية “ديوان العصر”. ولئن ظل الشعر التقليدي (الموزون المقفى) يتخبّط في أفق جمالي محصور، ولم يجد الشعر الحر النفَس للمواصلة الحثيثة لخطى التجديد، فإن الشعر النثري لم يجد توازنه بعد.
لن أعيد القول إننا بإزاء شعراء قصائد لا شعراء تجارب، إذ ينجح بعضهم في كتابة نصوص رائعة ولكنهم لا يقبلون بأن يُقال لهم لقد أخفقتم في نصوص أخرى (لذلك ينسحب بعض النقاد، لأن الصراحة غير مرحّب بها لدى نرجسية الشعراء).
أدوات النقد لم تتطوّر بالقدر الذي يجعلها تعلّل مواطن الإلذاذ والإمتاع التي تجدها النفس وهي تقرأ نصًّا شعريًّا من جنس الشعر النثري.
لن أعيد خلع الأبواب المفتوحة، فأقول إن المدارس الأسلوبية والإنشائية والقراءة البلاغية التقليدية، بله القراءة الأيديولوجية لا تُجدي نفعًا في تعليل جماليات شعر النثر ولا في القبض على جمالياته.
قد يكون أقدر الناس على قول جمالية الشعر رهطٌ جمعوا بين قول الشعر ونقده. هؤلاء الذين عاشوا التجربة الجمالية من باطنها، ولم يكونوا “شعراء فاشلين” ولا كان شعرهم شعر العلماء، يبدو لي أنهم أولى الناس بأن يعرفوا أجود الأقفاص لعصافيرهم.
إذا كان من مهمّات النقد تسمية جمال الشعر وكشف آليات قوله ومناط التجويد في صنعته، فإن بين العارفين بالجماليات القديمة والممارسين لما يمكن تسميته “جماليات حديثة” (طرائق إنتاج القول الشعري في شعر النثر)، من الاختلاف والبون ما لا يسمح بجسر الفجوة بين هؤلاء وأولئك.
لذلك يتبادلان الرفض والإنكار ويسيّج كلّ منهم “مملكته” الإبداعية، فيقصر نقاد الجماليات القديمة نظرهم على النصوص التي تنضبط إلى معاييرهم، فيرصدونها انطلاقًا من تلك المعايير ويُطلقون عليها أحكامهم معتمدين مؤشرات فنية تنضوي ضمن منهجهم المقرّر.
أمّا قراء الجماليات الحديثة (لا يعترفون بالمهمات الاجتماعية للناقد في جلبابه القديم، ويفضلون تسمية القارئ وعمل القراءة المنفتح) فيتعاملون بتحرر تام مع نصوص شعر النثر، وأحيانًا تُضحي “القراءة النقدية” تشكيلة من منتقيات شعرية من نصوص الشاعر المقروءة أو تتبع ثيمة أو ملمح في تلك النصوص دون الارتهان إلى منهج أو معيار. فلا غرابة أن تتحرر القراءة بتحرر النص المقروء، أو لعل القراءة تستمد حريتها من حرية النص.
أمّا من ناحية التلقي، فقد عصفت بالذائقة تيارات النفور من الشعر؛ لأن فنّيته أضحت عسيرة على التقبّل، إذ همّ الناس بالانصراف عنه وتقلّص حضور الشعر في المساقات الدراسية التي كرّسته رسميًّا لتمجيد أيديولوجيا أكثر من تدريب الناشئة على التذوق الفني الجمالي.