أطاريح في ماهية الشعر
الأطروحة الأولى
ليس لأحد من نقاد الشعر وعلماء اللغة أن يصل إلى ماهية الشعر كما هي عند الشاعر. فروح الشعر عصية على من لم يعش التجربة الشعرية، حتى ولو كانت فاشلة. وبالتالي كل قول في الشعر يصدر عن غير الشعراء قول تعوزه القدرة على فهم التجربة الشعرية في أصلها وفصلها. فالنقد الشعري ليس مجرد معرفة أصول الكتابة الشعرية، واستخدام مناهج النقد الأدبي، ومفاهيمه، بل الدخول إلى روح الشعر نفسه. فالشعر حالة خاصة من أحوال الذات لا تماثلها أية حالة أخرى.
وفي محاولة بعض النقاد دخول عالم الشعر على أنه شكل من السرد شأنه شأن الرواية والمسرح فإنهم ينزاحون انزياحاً كبيراً عن ماهية الشعر التي تنتمي إلى اللامتوقع، وإلى الفيض بما ينطوي عليه الشعور واللاشعور، بل الشعر ينتمي إلى “الهو”، ولا تفعل الأنا سوى أن تكتب بالقلم فيضه.
الأطروحة الثانية
دعونا نعرف الشعر بأنه تخيل جمالي لعلاقات بين وقائع العالم غير موجودة واقعياً، الموجود هو الواقع، أما العلاقات فهي مصطنعة، تخيل يُعبّر عنه بالكلام اللابس زياً جمالياً أخّاذاً يُحدث هزة في النفس منقولة من هزة نفس الشاعر التي عبر عنها شعرياً، والتي لا يعرف أوانها.
بل إن الشعر في ماهيته ينتمي إلى عالم المصادفة الروحية التي تتوسل التحقق بلغة لا تشبهها أيّ لغة من لغات السرد وأساليبه.
وتكمن ماهية الشعر في أنه حدس لامنطقي ولا واقعي، ولهذا نحصل في الشعر على الميتا- لغة.
هذا التعريف الماهوي للشعر لا يقول شيئاً عن الشكلية الشعرية، الوزن – الموسيقى – البحر والقافية والغرض.
إن الشعر هو الذي يبث الحياة في الأفكار والعواطف والحالات المعيشة، حتى ولو كان المعيش زائفاً، فإن عيش الزيف تجربة. (مدح المتنبي لكافور) والخيال هنا يمنح الحياة للكلام، فيلبسه الزي الجمالي الذي يطير به إلى الوجدان. إذن الجمالي في الشعر هو الروح التي تمنح الحياة للوجدان دون الاكتراث بالعقلي والواقعي، وقواعد منطق أرسطو.
الأطروحة الثالثة
الخيال هو ظهور للعقل بالمعنى المجرد للكلمة وبعيداً عن الصفة المحمودة التي تنسب إليه، فكل ما يصدر عن العقل هو عقلي، وهماً كان أم حقيقة، خيالاً كان أم واقعاً، خرافة أم علماً، العقل يظهر بقوة خياله، فالعقل لا يستعير الخيال من خارجه لأنّه هو ذاته ينطوي على قوة التخيل.
الأطروحة الرابعة
لماذا يكون هناك شاعر، لماذا هذا الموجود شاعر، فإنه سؤال صعب، والإجابة عنه تحتاج إلى معرفة بالشخص وتاريخه وطفولته وواقعه، لكن هناك أمر أكيد ألا وهو الموهبة، والموهبة على ما أظن حالة دماغية. فالعبقرية قبل كل شيء هي بنية دماغية.
وقد نظر كانط في وقته إلى العبقرية بوصفها موهبة ولا انفصال بين هذه الموهبة وبين قوة الخيال. ولهذا لا يمكن للإنسان أن يتعلم العبقرية، العبقرية بوصفها تنتمي إلى الطبيعة كما يقول كانط. بل الفنون الجميلة هي فنون للعبقرية وحدها. والعبقرية إذ تنتج الجميل فإنها لا تنتجه وفق قواعد لإنتاج الجميل بل إن العبقرية تعطي القاعدة للفن. ولهذا يخلص كانت إلى القول “إن الفن الجميل لا يكون ممكنا إلا بوصفه نتاجا للعبقرية”.
لهذا فكما أن الإنسان لا يستطيع أن يتعلم كيف يكون عبقريا فإنه لا يستطيع أن يتعلم كيف يكون شاعرا. يمكنه أن يعرف القواعد التي أنتجتها عبقرية المبدع لكنه لن ينتقل من المعرفة هذه إلى الإبداع.
ولهذا الخيال الشعري الخالق العبقري متفاوت بين من هم منتمون إلى عبقرية الخلق، ومتفاوت في الشروط التي أنمت العبقرية ومدتها بأسباب التجربة والثقافة.
الأطروحة الخامسة
يمكن أن نتحدث عن نوعين من معايير الشعرية. معايير عامة لا ترتبط بالزمان والمكان ومعايير خاصة ذات ارتباط وثيق بالشرط التاريخي. ولكن معايير الشعر ليست سابقة على الشعر، بل هي مشتقة من الشعر نفسه.
فأرسطو حين رأى في الشعر محاكاة فكان يستخلص المعيار هنا من أهم شاعر يوناني هو هوميروس، لكنها محاكاة للشعور وأحواله. وكذلك ما ذهب إليه ابن طباطبا في عيار الشعر. فعيار الشعر أشتُق من أحوال الشعر العربي وأوزانه وأغراضه.
الأطروحة السادسة
تجريد معايير الشعر لا يكون إلا تأسيساً على التجربة الشعرية لعصر من العصور، لكننا نواجه مشكلة لا بد من حلها ألا وهي: هل يمكن الوصول إلى تجريد عام وشامل وكليّ لمعيار الشعر بمعزل عن الزمان والمكان؟
أعتقد دون الوصول إلى هذا النوع من التجريد لا نستطيع أن نميز بين ما ينتمي للشعر وما لا ينتمي بشكل عام وفي كل اللغات.
الأطروحة السابعة
إذا كان الخيال قدرة العقل على منح الوقائع الروحية والمادية نوعاً من الترابط دون أن يكون لهذا الترابط أيّ وجود موضوعي . إذن هو ترابط مُخْتَلق، فإن الفن بكل أشكاله خلق، والخلق يكون دائما من شيء ولا يكون من عدم.
إذن هو عملية تتم في الذهن لصياغة معنى جمالي صرف، وكل ذلك تعبير عما يجول في النفس من قلق وتأفف وعاطفة وموقف ونظرة إلى العالم . فالجمالي هنا متحد اتحاداً مطلقاً بالفكري. والخلق الفني في الشعر يقع في مرتبة أعلى في سلم الفنون عند هيغل، فهو متحرر من المادة التي يخضع لها النحت والرسم، ومادة الخلق الشعري هي اللغة.
الأطروحة الثامنة
إن الخيال الشعري بوصفه ترابطا بين الوقائع الروحية أو الوقائع المادية عبر اللغة ، قد يكون أقل تجريداً من لوحة لبيكاسو إذا كان هذا الخيال الشعري عادياً، وصادراً عن عقل عادي. ولهذا نحن، كما أشرنا ،نتحدث عن خيال عبقري.
الأطروحة التاسعة
لما كان الشعر يتوسل الخيال تعبيراً عن التجربة المعيشة، فإن المباشرة في الشعر تخرجه من دائرة الشعر حتى لو انطوى الشعر المباشر على فكرة عظيمة .
الأطروحة العاشرة
الخيال على أنواع، خيال حسي وخيال ميتا-حسي. الخيال الحسي الصرف هو إيجاد ترابطات بين وقائع حسية جدا، ومباشرة لا يسمح لخيال المتلقي أن يحلق في تصورات متنوعة أو تأويل يتجاوز الوصف المحدد، وهذا نوع من تشبيه واقعة حسية بواقعة حسية أخرى تشبيه لا يحيل إلى ذاته : فالشاعر الذي يشبه عيون حبيبته بعيون المها وجيدها بجيد الغزال وقدها بشجرة الحور وشعرها بالليل الخ خيال حسي فقير جداً، بل قل خيال عامي. فالمتلقي هنا لا يتجاوز العلاقة المباشرة بين عين المرأة وعين المها والليل والشَعَر. التشابه هنا بين عين وعين، بين لون ولون، بين طول وطول، وقس على ذلك قول الجواهري :
حَيّيتُ سفحَكِ عن بُعْدٍ فحَيِّيني*** يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمَّ البستاتينِ
فهذا القول العامي خيال حسي بسيط، وليس شعراً في معايير الخلق الفني – الشعري. ولكن تجب الإشارة بأن استخدام الوقائع الحسية وإيجاد الترابط بينها لا يعني أمراً مذموماً، بل نوع الترابط هو الذي يحدد الصورة الخلّاقة.
لكن تأمل معي هذا البيت للشاعر الضليل امرئ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدولهُ***عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
الليل وموج البحر واقعتان حسيتان وليس بينهما أي تشابه حسي أبداً. الليل غياب الشمس وحلول الظلام وموج البحر حركة الماء في البحر، وما خلق هذا الترابط بين واقعتين غير ليس بينهما أيّ شيء مشترك إنما خيال لوصف حالة نفسية عاشها الشاعر، ولهذا فهي خيال حسي – مجر وخالق .
وقس على ذلك قول نزار:
عيناك كنهري أحزان، نهري موسيقى
العينان واقعة حسية والنهر واقعة حسية، لكن نهر الأحزان ونهر الموسيقى واقعتان متخيلتان لا وجود لهما في الواقع، خيال حسي – مجرد لوصف حالة شعورية.
الأطروحة الحادية عشرة
الخيال الخالق، الميتا – حسي المجرد خيال المعنى حتى لو ربط بين الحسي والحسي أو ربط بين الحسي والمعنوي :
ضحكت أمواجه مني وقالت لست أدري
ضحك وبحر وموج وقول في ترابط مذهل تعبيراً عن السخرية والشك واللاأدرية. الخيال المجرد الذي قال قولاً مجرداً بإقامة ترابط بين وقائع حسية ومعنوية ليخلق حالة جمالية خلّابة تعبيراً عن فكرة، عن موقف .
لا شك بأن الشعر أكثر من هذا بكثير، لكنه دون هذا ليس بشعر، بل قل دون أن يكون هذا معياراً من معايير الشعرية لا يكون هناك نقد.
فلا يتكدر خاطر أحد إذا وجد بعد هذا بأن من ظنه شاعراً كبيراً يوماً ما ليس إلا شاعراً عادياً لم يتجاوز خياله عيون المها.
الأطروحة الثانية عشرة
الوعي الشعري الجمالي أكثر أشكال الوعي فرادة وخصوصية إنه ليس مستمداً من أيّ منابع خارجية ولهذا فالشعر جمالياً معجم لغوي جديد وخاص بالشاعر وحده. إنه – أي الشاعر – يحوّل معجم اللغة الميت إلى معجم لغوي حيّ وحرّ.
ولا شك أنه كلما كان مخزون الشاعر اللغوي ثرياً ساعده ذلك على تشكيل الصورة الجمالية على نحو حرّ. فاتساع فضاء اللغة اتساع لفضاء الشعرية عند الشاعر. فاستحضار الكلمات لتركيب الجملة الشعرية يأتي من المخزون اللغوي وليس من مخزون الذاكرة الشعرية بوصفها ثقافة. ولا علاقة بين الجملة الشعرية والجملة العادية أو السردية، بل هي تركيب خاص لا يخطر على بال أحد.
الأطروحة الثالثة عشرة
الحق أن التحرر من الذاكرة الشعرية الثقافية شرط ضروري وليس كافياً لتجديد اللغة الشعرية. فالشعر، حتى لو استعار الشكل القديم للشعر، لا يمكنه أن يجدد نفسه دون تحرر من الشعرية السابقة عليه. ولهذا فإن التشبه بشاعر ليس سوى مثال وخيال.
الأطروحة الرابعة عشرة
ماهية الشعر وعي أسطوري، نص أسطوري. ونحن لا نتحدث هنا عن استخدام الأساطير المتكونة تاريخياً لدى الشعوب فقط وإنما عن إنتاج الأسطورة في الشعر، الوعي الأسطوري هنا وعي جمالي فقط وليس وعياً فكرياً بالعالم.
ونحن لا نعرف بدقة درجة الإيمان بحقيقة أسطورة جلجامش، أو عشتار وبعل أو… عند الإنسان البابلي والآرامي. غير أننا إذا افترضنا أن هناك علاقة بين الأسطورة القديمة والحقيقة المعرفية، فإن الأمر عند الشاعر هو أسطرة الوجود الذاتي جمالياً، أسطرة المعنى عبر العلاقات الغريبة والعجيبة بين الكلمات الدالة على الأشياء.
والشاعر عندما يستعير الأساطير القديمة ورموزها في تجميل نصه وتعميق معانيه فإنه يعود إلى الرحم الأصلي للشاعرية، ويقوم باستعارة الرمز ومنحة حياة جديدة في النص الشعري. بل وإن استعارة الرموز الأسطورية القديمة نوع من مشاركة الأسطورة خلودها وتحريرها من تاريخها عبر منحها لبوساً جديداً.
صحيح أن الشاعر يلقي على القارئ عبئاً جديداً في امتلاك النص وفهمه، لأن امتلاك النص الشعري الغني بالاستعارات الأسطورية القدمية وفهمه يتطلب معرفة مسبقة بالأساطير ورموزها ودلالات حوادثها المتخيلة، وهذا أمر قد لا يتوفر للعدد الأكبر من القراء.
غير أن ذلك ليس سببا وجيهاً لأن يكف الشاعر عن استخدام الأساطير، بل على القارئ أن يتعلم ويعود لثقافة الأسطورة، أُم خيالنا هو الجامح. إن اللغة هي التي تجعل من الشعر ميتا، لا بوصفها أداة للتعبير بل بوصفها أسطرة الوجود وميتا – لغة. إذا افترضنا أن هناك علاقة بين الأسطورة القديمة والحقيقة المعرفية، فإن الأمر عند الشاعر هو أسطرة الوجود الذاتي جمالياً فقط.
الشاعر – وعبر أسطرة الموجود – يحول اللغة إلى ميتا – لغة. وكلما غرق الشاعر في الأسطورة ارتفع باللغة إلى الميتا. حتى يمكننا القول: الأسطرة أحد أهم معايير الشعرية ومكوناته الماهوية.
الأطروحة الخامسة عشرة
الشعر بوصفه الميتا – لغة امتداد للخلق الأسطوري يحمل حدساً فلسفياً، نظرة إلى الدنيا، فالحدس الفلسفي الشعري هو ظهور الفكرة ظاهرة أو خفية.
من سمات الحدس الفلسفي الشعري أنه فكرة طليقة ترقص في زي جمالي أخّاذ وليست بحاجة إلى منطق أرسطو ولهذا هي حدس.
وهناك مستويات من حضور الحدس الفلسفي في الشعر فإما أن يأتي في صورة عفو الخاطر أو يكون مقصوداً لذاته بوصفه مقصود الشعر.
ولقد دللت التجربة الشعرية أن مرحلة ما بعد النضج تكون أكثر امتلاءً بالحدس الفلسفي، وتصل حد وقوف الشعر عليها.
وعندي أن ليس هناك – في الشعر – انفصال بين الحدس الجمالي والحدس الفلسفي، والقرابة بين الشعر والفلسفة قرابة من الصعب فصلها.
يظهر الحدس الفلسفي – الشعري في الغالب عبر أجوبة عن أسئلة مضمرة، بحيث تبدو الفلسفة شذرة فكرية تقول قولاً فصلاً، قولاً يأخذ شكل ما تسميه العرب الحكمة.
الأطروحة السادسة عشرة
غير أن ذلك لا يمنع أن يكون النص شعرياً حدساً فلسفياً بالأصل. وآية ذلك أن الشاعر وهو يعيش التجربة الشعرية بوصفها كينونة، نمط وجود يعيش الأرق الفلسفي عبر القلق الوجودي. فالموت والمصير والحزن والفرح والبحث عن المعنى وكل أسئلة الوجود الكبرى تحضر في التجربة الشعرية فتخلق الحدس الفلسفي الشعري بعد أن يصل الشاعر إلى مرحلة النظرة إلى العالم والموقف من الوجود والعدم الذاتية.
والسيرة الشعرية للشعراء الطغاة تدل على تحرر الشاعر من تجربته الذاتية المعيشة والانتقال إلى تجربته الوجودية الكلية، أو قل تتحول التجربة الوجودية الكلية إلى تجربة ذاتية.
الأطروحة السابعة عشرة
يختفي الكلي خلف الجمالي، في الشعر، والجمالي حين يظهر في المعنى يزيد من جمالية المعنى ومن معنى الجمال. عندها لا يبقى الشعر عند حدود الميتا اللغوية بل ويتجاوزها إلى الميتافيزيقا – الفلسفة.
ولكن حذار من اعتبار الشعر فلسفة. فليس هاجس الشعر قول الحقيقة والدفاع عنها. الشعر هنا وجدان فلسفي وليس عقلا فلسفيا. الوجدان الفلسفي الشعري هو في النهاية تجربة وجودية وليس تأملا باردا بالعالم .
فالشاعر لا يسأل ما الموت؟ ما العدم؟ ما الحب؟ بل يعيش تجربة الموت فينقل الموت من التجربة المعيشة إلى الحدس الفلسفي – الشعر الكلي. وهذا هو معنى أن يحوّل الشاعر تجربته الوجودية المعيشة إلى تجربة كلية.
الأطروحة الثامنة عشرة
توسل الشعر وسيلة للتعبير الفلسفي الحدسي فقط سيضعف الجمالية الشعرية، وتصبح التفاتة الشاعر إلى المعنى فقط. ولهذا فإن الشعراء الطغاة – العظام يجمعون بين الحدس الفلسفي والحدس الجمالي فيوحدون على نحو مبدع بين الميتا – لغة والميتا – فيزيقا.
والميتا بطابعها المزدوج تحقق المتعتين الجمالية والعقلية معاً، وترتفع بالشعر إلى الأبدية.
غير أن قلة من شعراء العرب قد أظهروا عبقرية خاصة في الشعرية هذه التي هي الميتا التي وحدت بين الحدس الجمالي والحسد الفلسفي.
الأطروحة التاسعة عشرة
لقد قيدت أغراض الشعر العربي الشعرية العربية وحالت دون الوصول إلى وحدة الحدسين إلا على نحو محدود، اللهم إذا استثنينا أبا العتاهية و المعري وبعض المعاصرين من أمثال إيليا أبي ماضي فلقد انشغل الشاعر العربي على شاكلة المتنبي بالمديح الذي انطوى على حدس جمالي و فلسفي. غير أن هذه الوحدة نشهدها في الشعر المعاصر الجديد.
تجلت وحدة الحدسين الجمال والفلسفي في انتقال الشعر من وحدة البيت في القصيدة التقليدية إلى المشهد الشعري في القصيدة المنتمية إلى شعر التفعيلة الحديث وقصيدة النثر.
الأطروحة العشرون
الشعر لا يكون في وحدة مع ماهيته إلا في صورة المشهد الشعري. المشهد الشعري هي حالة نفسية – عقلية – جمالية تشكل وحدة في المعنى.
لا شك بأن المشهد الشعري موجود في القصيدة التقليدية ولكن على نحو محدود. فالمشهد موجود داخل قصيدة تنطوي على مشاهد متعددة، ولم تصل إلى القصيدة المشهد.
ففي معلقة امرئ القيس نقرأ مثلاً المشهد الشعري الآتي:
وليلٍ كمَوجِ البحر أرخى سدولَه
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لمّا تمطّى بصُلبه
وأردف أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويلُ ألا انجلي
بصبح وما الإصباحُ منك بأمثلِ
فيا لك من ليل كأن نجومَه
بكل مُغار الفَتلِ شُدّتْ بيَذْبُلِ
كأن الثريّا علّقت في مَصامها
بأمراس كّتّان إلى صًمّ جندَلِ.
وهناك مشاهد متعددة في هذه المعلقة، مشهد الفرس، مشهد حبيبته فاطمة.. الخ. وقس على ذلك كل قصائد الشعر العربي حتى مرحلة نشأة القصيدة الحديثة، لذلك تجد في القصيدة التقليدية الواحدة عدة شعراء وليس شاعراً واحداً.
واللافت للنظر بأن المرء لا يمكنه أن يعيش في القصيدة العربية التقليدية القائمة على البحر والقافية أيّ حال كلية من الميتا- لغة. وربما كان سبب ذلك غياب الوحدة النفسية للحالة التي كتبت فيها القصائد. إذ تجد في القصيدة الواحدة أعلى درجات التبلد الشعري وأعلى درجات التوتر الشعري.
لم ينتصر المشهد الشعري إلى في الشعر الراهن، إذا صارت القصيدة كلها مشهد واحد متنوع المبنى والصورة.
الأطروحة الحادية العشرون
كل شعر ينطوي على حظ من الغموض، وغموض المعنى في الشعر، يعني بأن المعنى ليس معطىً بشكل مباشر. فالقول: “السيف أصدق إنباءً من الكتب، في حده الحد بين الجد واللعب” ينطوي على غموض ولا شك، وبخاصة بالنسبة إلى القارئ العادي. فالمعنى ليس معطى مباشرة في هذا الزي الجمالي. وهذا الذي حمل النقاد على اجتراح مفاهيم الشرح والتأويل والقراءة.
الشاعر في الحالة الطبيعية لا يتقصد الغموض، الغموض يأتي من الترابط المتخيل المتدفق في لحظة الكتابة الشعرية. أما الغموض عن سابق تصميم وإصرار والإشتغال عليه فهو الغموض المرذول، لأن صاحبه يعتقد بأن الغموض يمنحه فرادة القول، مع تيقنه بأن معنى الصورة الشعرية التي في ذهنه غير قابلة للوصول إلى المتلقي.
وهناك مثلب ثقيل الظل عندما يسعى شاعر ما إلى إبراز عضلاته اللغوية في استخدام الكلمات المعجمية الميتة، وبخاصة تلك الكلمات التي لن تعود إليها الحياة. فيفقد النص وضوحه اللغوي المطلوب لقيام التواصل معه.
وفي الحالة يفقد المتلقي القدرة على التواصل مع الغامض ويفقد المتعة في آن واحد. ويترك الشاعر شعره للمشتغلين بالنقد الأدبي فقط. فمهما كانت الصورة الشعرية تحتاج إلى تأمل فإنها يجب أن تصل إلى المتلقي ولا تظل مغلقة على فهمه.
الأطروحة الثانية والعشرون
ليس مفهوم المباشرة نقيض مفهوم الغموض، نقيض الغموض درجة من الوضوح تجعل النص قابلاً لاختراق وجدان المتلقي. أما المباشرة فهي تجعل الشعر شبيهاً بالشعر. والمباشرة لا تعني بأن الصورة الشعرية مفقودة في النص الشعري المباشر، بل هي نوع من المحاكاة ركيكة. كقول المتنبي مثلاً في مدح سيف الدولة:
نثرتهم فوق الأحيدب نثرة ** كما نثرت فوق العروس الدراهم
صحيح بأننا لا نستطيع أن نحكم على قصيدته كلها تأسيساً على هذا البيت، لكنه مثال ساطع على المباشرة الفجة. وقس على ذلك.
أما المباشرة الأكثر فجاجة فهي تلك التي تحاكي الواقعة محاكاة تامة. وهذه كتابة لا ترقى إلى ماهية الشعر.
الأطروحة الثالثة والعشرون
هل تشكل الموسيقى الشعرية ركناً ضرورياً غير كافٍ من أركان الشعر أم لا؟
إن تعريف الشعر بأنه ذلك الكلام الموزون المقفى الذي له المعني، تعريف لا يقبض على ماهية الشعر أبداً. ولم يعد الالتزام بالبحر الواحد أو ببحور الشعر عامة شرطاً من شروط القول الشعري. وعوضاً عن هذا الشرط الموسيقي راحت الروح الإنسانية في الكلام المعبرة عن تدفق الروح الشعري تغدو بديلاً عن الشروط الشكلية للقصيدة التقليدية.
نقرأ عند نوري الجراح في ديوانه الأول “الصبي”:
“صباحُ الخير أيَّتُها المُعلِّمة
كان بودِّي أن أهديَكِ بستاناً
ولا أستطيع
ولأنَّني أكرَهُ الأناشيدَ نسيتُ كتابَ الاستظهارِ في البيت
سأرمي بنظري إلى الأرض
ريثما
تفرغينَ من توبيخي
ثُمَّ أنسحبُ إلى المقعد الأخير
وإذا كانَ لا بُدَّ من السُّؤال:
لمَ كنتَ شديدَ التعلّقِ بالمقاعد الاولى،
سأُجيبُ:
لأنَّهُ كانَ من السَّهْلِ عليَّ
النَّظر إلى ساقيكِ العاريتين
بحجّة التقاطِ قلمٍ أو ممحاة”.
فروح الموسيقى التي تنساب في القصيدة لا تنتمي إلى بحور الفراهيدي، ولم تسجن الشاعر القوافي .بل إن سجناء القوافي وأسراها يقتلون الطبيعة النهرية لماهية الشعر، ويجعلون من القافية عثرات على طريق تدفقه.
الأطروحة الرابعة والعشرون
هل الذائقة الشعرية لدى المتلقي هي الحكم في تقويم ماهية الشعر؟ يبدو هذا السؤال مبتذلاً، لأنه تكرر على أكثر من لسان. لكنه، في حقيقة الأمر سؤال تخفي الإجابات عنه نزعات ذاتية وأيديولوجية دون ربطها بماهية الشعر، وصنف المتذوق الشعري.
إذا انطلقنا من أن الشاعر هو صورة من صور ظهور ماهية الشعر التي جردناها من الشعر نفسه، فصور الظهور أغنى من الماهية، تماماً كالعلاقة بين العام والخاص. فالتعين الواقعي لماهية الشعر لا حدود له، وهذا الذي يجعل الاختلاف ممكناً وواقعاً في نفي صفة الشاعر عن شاعر من قبل ناقد وتأكيدها من قبل ناقد آخر، ومن متلقٍ وتأكيدها من قبل آخر. ويجب أن نحذر من أحكام الشعراء التقويمية بحق بعضهما البعض الآخر.
الأطروحة الخامسة والعشرون
تتحدد علاقة الجمهور بالشاعر انطلاقاً من عاملين أساسيين: لغة الشاعر وموضوعات شعره من جهة، ومستويات ذوق الجمهور الجمالي – الشعري.
وجمهور الشعر على ثلاثة مستويات: الجمهور العام الخطبي، والجمهور الخاص، وجمهور خاصة الخاصة وهو المحدود، ولكل صنف من هذه الأصناف نوع من الشعرية مفضل عن غيره. وهذا التصنيف لعلاقة الجمهور بالإبداع ينسحب على كل أصناف الإبداع، باستثناء الفلسفة التي هي لخاصة الخاصة.
فالمرأة والوطن ونقد السياسة والهجاء وهي الموضوعات الأثيرة لدى الناس إذا ما قُدمت من شاعر ما بلغة بسيطة وبحظ من الشعرية قليل فإنه، هذا الشاعر، سيكون له مكانة عند الجمهور العريض.
والموضوعات نفسها إن كانت موضوعات شاعر ذي لغة من طراز عالٍ فسيكون جمهوره أضيق ومحدود بالخاصة.
أما إذا ارتقت موضوعات شاعر لمستوى مشكلات الوجود والمصير والموت وأخذت شكل التمازج بين الروح الشعرية والروح الفلسفية فإن نصوص هذا الشاعر ستكون وقفاً على خاصة الخاصة.
وهذا يعني بأن الذوق الشعري للمتلقي لا يحدد ماهية الشعر بل هو ذو علاقة بصور تحقق هذه الماهية في القصيدة.
بل إن جمهور سجل “أنا عربي “و”أحمد العربي “و”مديح الظل العالي” ليس هو ذاته جمهور “الجدارية” مع أن الشاعر هو هو. وآية ذلك أن “الجدارية” ذات لغة وموضوع يحققان ماهية الشعر على نحو لم يألفه الجمهور العام، فامتزاج الروح الشعري والفلسفي واستخدام مفاهيم ومفردات ذات تجريد عال حرمت درويش من جمهور “مديح الظل العالي”.
الأطروحة السادسة والعشرون
لما كان الشعر هو أرقى أنواع الإبداع الجمالي اللغوي، بل هو أرقى الفنون، حيث تحرر الأثر الجمالي من أيّ علاقة بالمادة فإن تحقق ماهية الشعر في القصيدة يجعل من القصيدة، وخاصة القصيدة – المشهد، مشهد النفس في انفعالاتها الوجدانية المعبر عنها جمالياً، عملاً فذاً بامتياز.