هل يواجه الشِّعر العربي ضياع المعنى؟
ظلّ سؤال الشعر، في قديم الثقافة وحديثها، سؤالًا إشْكاليًّا. ثمّة أسئلة أساسيّة ضمن أخرى تضَعُنا في قلب الإشكاليّة، لكنّنا لا ننشغل، هنا، إلّا بواحد من مناحي النظر، الذي ظلّ مُعْتمًا ومحتجبًا في الخطاب الثّقافي رغم قيمته الرفيعة، وهو وضْعُ الشِّعر في/من زمنه وهويّته الجمالية وأخلاقيّاتُه ورؤيتُه إلى العالم من غير أن نغفل – في زخم ذلك – عن الإبدالات السوسيوثقافيّة الّتي طبعت مفهومات الذات والآخر، والمعنى والنوع وأوضاع الكتابة، وبالتالي سيكون بوسعنا أن نفهم التوتّر الحاد بين المعيار والانزياح، أو بين أخلاقيات القصيدة ومغامرة الفعل الكتابيّ.
من رحم التاريخ وتوالي محنه، طلع صوت الشعر العربي نابضًا على لسان أصحاب الموجات الأولى من سيرورة التحديث الذي أصابه، ووجد القارئ في رُوّاده من أمثال: بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي وصلاح عبدالصبور ونزار قباني وأدونيس وسعدي يوسف ومحمود درويش وغيرهم، صورَ العلاقة المتفاعلة بين نصوصهم وبين واقعهم الذي عملوا، بدرجاتٍ، على نقده نَقْدًا مُباشرًا حينًا، وتطهيره والسموّ به في الرمز والأسطورة حينًا آخر، بعد فورة الأحلام الرومانسية. ولم يكن ينفصل ذلك عن إبستيم العصر بعد الحرب العالمية الثانية وعام النكبة، الذي ساهم في ولادة وَعْيٍ شعريّ مغاير في تصوُّر عمل القصيدة وسياساتها، وفي بناء الموقف النقدي وأطروحات الرّؤية ضمن فضاء الكتابة، آخذًا من معين الفلسفات الحديثة والمعارف والصنائع المتنوّعة والنظريات الفنية والأدبية بنصيبٍ مؤثّر ومتجاوب مع ثقافة الالتزام التي كانت تغشى سماء الفنّ.
الشعر في مفترق طرق
في هذا السياق، برز الشعراء التمُّوزيّون والواقعيون الذين لم ينفصل تحديثهم للشكل الشِّعري عن الاهتمام بالمضمون السياسي والاجتماعي الرافض، فدعوا إلى الالتزام بـ«المبادئ الوطنية والقومية والإنسانية»، وبـ«تحرير الأوطان من الاستعمار والتخلف الحضاري»، وبـ«الدعوة إلى نهضتها ووحدتها ورفاه أبنائها»، بقدر ما هم يتطلّعون إلى غدٍ أمثل تسود فيه الحريّة والعدالة الاجتماعية. وكثيرٌ من هؤلاء الشّعراء كان تجمّعهم بمؤسسات سياسية وأيديولوجية واجتماعية وإعلامية (أحزاب الحركة الوطنية، نظريات فلسفية مثل الماركسية والوجودية، مجلّات طليعية مثل «الآداب، الثقافة المصرية، شعر»، أشرطة مُغنّاة تهدر بالثورة والتغيير..)، علاقات انتماء أو تعاطف كانت صالحة للطرفين معًا، ومنهم من تأثّر بهذه العلاقة حتى صارت نصوصه مواقف اجتماعية مؤدلجة بحكم الواقع السياسي الضاغط وتأثير النقد الأيديولوجي، لكنَّها انتهت وذابت في الماضي فيما تبدأ كلّ لحظةٍ تلك النصوص المنذورة، كتابيًّا وجماليًّا، للمستقبل وتأويلاته. نذكر، هنا، قصائد كثيرة سارت بذكرها الرُّكبان في المشرق والمغرب، وعقدت آصرةً سحريّة بينها وبين قرّائها، بَلْهَ جماهيرها، في كتب النقد والتأليفات المدرسية والملصقات الجامعية والاحتفاليات والمجالس الخاصة والأنطولوجيّات. ومن ينسى، تمثيلًا لا حصرًا، هذه القصائد: «غريب في الخليج» و«أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب، و«شنق زهران» لصلاح عبدالصبور، «الفراغ» لأدونيس، و«لا تصالح» لأمل دنقل، و«القدس عروس عروبتكم» لمظفر النواب، و«سجل أنا عربي» لمحمود درويش، و«خبز وحشيش وقمر» لنزار قباني، و«سبتة» لأحمد المجاطي..
فقد ظلَّ شعراء هذه المرحلة يُشخّصون الصراع، المعلن وغير المعلن، بين السياسي والثّقافي في الشعر العربي الحديث، ومثّلت الموضوعات القومية والاجتماعية، مثل الموضوع الفلسطيني والصراع الطبقي والاغتراب النفسي والموت والانبعاث، ضغطًا متصاعدًا على نصوصهم الشّعرية. ومن ثمّة، أدمنت الذائقة التعامل معهم بوصفهم الصوت السياسي للثورة العربية، من أجل التغيير والتقدم والرّفاه. وكانت الدراسات النقدية لكلّ من غالي شكري ومحمد النويهي ومحمود أمين العالم وعزالدين إسماعيل ومحيي الدين صبحي وآخرين، تُعزّز هذا الإدمان بقدر ما هي مشدودة إلى رهانٍ نظريٍّ ومعرفيٍّ يرهن رؤى الشعراء ومواقفهم بالقضية وتبعاتها وتداعياتها سياسيًّا واجتماعيًّا، أي يرهن «الشِّعري» بـ«ـالأيديولوجي» داخل حُمّى الاهتمام بجماليات الأدب الواقعيّ، وإن كانت هذه العلاقة المزدوجة بين ما هو اجتماعي وجمالي سوف تتسبّب، بلا شك، في خلق العديد من مشكلات الشعر المزمنة.
التكنية عن أزمة الشعر
عندما حدثت النّكسة لم تكن أقلَّ من صاعقة ومُدوّية. كانت، في نظر الكثير، زلزالًا لم يسبق له مثيلٌ في الوعي الثقافيّ الحديث، بحيث لم يسْلم من آثارها أحدٌ، وباتت قطاعاتٌ واسعة من نخب الثقافة والأدب والفنّ تُعيد، تحت هوْل ما حدث، النظر في حقول الفكر والرؤية والحساسية. إذا عُدْنا إلى الفترة التاريخية التي أعقبت النكسة وجَدْنا أرشيفًا مُهمًّا يصوّر لنا حجم الآثار وقوّتها. ردود فعلٍ غاضبة، سخط شعبيّ، مراجعاتٌ مذهبيّة ونقديّة، انقلابات العسكر، بيانات احتجاج، لكنّ أخطر ما حصل هو انهيار الأيقونات المادية والرمزية التي حملتها القصيدة واطمأنّ إليها جمهورها، وأعني بها الرموز والإيحاءات والأساطير التي كان يوحي بها الشعراء إلى نهوض الحضارة وانبعاثها بعد انحطاط وموت. إرْثٌ كبيرٌ من الآمال تبخّر، ومن التطلُّعات خاب، كما أجهضت الأحلام بالتغيير والرّفاه والعدالة الاجتماعية.
من هذه اللحظة بدأ الشعر في الانحسار، وسقطت القصيدة من الصفحة الأولى في عدد من الجرائد القوميّة إلى صفحات داخلية، بعد أن أخذت الشقّة تتوسع بينها وبين الجمهور الذي أحس بأنّ الشعراء باعوه الزيف والكذب، وأنّ ما وعدوا به لم يجلب إلّا المأساة. كما أحسّ الشعراء أنفسهم بالخيبة واللّاجدوى والشعور بالفاجعة من آثار الزلزال المدمرة، وممّا قفوا عليه من فشل المشروع الثوري والنهضوي، وتشرذم الكيانات السياسية الوطنية، وانطفاء روح العقل والنّقد، ومن لاجدوى «بحار المعرفة السبعة» التي رفدوها نحتًا من لحمهم ودمهم. وسوف يزداد ذلك الانحسار نتيجة المَيْتات المتقاربة لعدد من الروّاد، بالموت أو الانتحار أو المرض أو الصمت أو الخذلان. لكنّ آخرين، في طليعتهم سعدي يوسف، قبلوا التحدي في مواجهة ما تبقّى عبر رؤى ومضامين تقترب من الهجاء السياسي والسخرية والباروديا، وانزاح البعض إلى مناطق أخرى من الكتابة السردية والصوفية والسريالية، بل وصلت إلى حد التجريب واللامعنى، فتصادتْ نصوصها الدالّة مع نصوص قصيدة النثر التي كانت تشير من بعيد، وتغتنم أزمنة المنع والصمت التي واجهتها منذ بروزها أواخر الخمسينات.
بموازاةٍ مع ذلك، بدأ موضوع الأزمة تمتلئ به الأفواه، بعلم وغير علم. وبسبب ذلك، أخذ وعي الشاعر الحديث يتغيّر في علاقته بذاته ورؤيته ووظيفته من جهة، وفي علاقته بفنّه ومفهومه ومراجعه وأدوات عمله من جهة ثانية، وفي علاقته، ترتيبًا على ذلك، بالقارئ والمجتمع بأكمله.
وقد كشفت هذه العلاقات عن المكانة المتميزة التي أصبح يحتلها الوعي التّنْظيري والجمالي لديه في سياق الحداثة الناشئة باستمرار. وصار، من الآن أكثر من ذي قبل، يكتب الشّعراء شهاداتٍ وبيانات عن تجاربهم الشعرية، ضمن سياق تقييم تجربة الشعر الحر، وما حقّقته من إنجازات واستجاباتٍ لدى المتلقّي.
استطاع محمد الماغوط، بغنائيّته الخاصة والمتحرّرة من أعباء المعايير الناجزة، أن يضيء مسارح التاريخ من مُعذَّبيه ومهزوميه ومغتربيه وينقلنا، بغير قليلٍ من الاحتجاج والسأم والقسوة والسخرية السوداء، إلى المنافي والسجون والغرف المغلقة والعواصم الباردة التي تذوب في التاريخ. وعمل غيره من رعيل قصيدة النثر الأول، داخل جماليّات الانشقاق والتقويض، على كتابة نصّ العصيان مُسْتأنسًا بعزلته، وراضيًا بمنفاه الاختياري ضدّ «المعيار»، وضدّ «الذاكرة».
فبدلًا من الشاعر العرّاف والنبي والمبشّر والحالم، ظهر الفرد المعزول والمنبوذ والمهمّش والتائه والمغترب الذي يشعر بالدُّوار وانقطاع الزمن. لم تعد الحرية تعني لديهم الالتزام العضوي بقضايا المجتمع، بقدر ما باتت تعني أن يخلق كلّ فرْد عالمه ومداه، لكي يُظهر إبداعه ويمارس حضوره المفترض.
لهذا السبب، تحوّلوا، في رؤيا الشعر، إلى شعراء نرجسيّين ومستقلّين ولامنتمين وبالغي الهشاشة، يبحث كلّ منهم عن حريته بمعزل عن العالم، وعن سلطته الخاصة داخل كوكبةٍ من الرموز والإيحاءات الفالتة من كل عقال. صار الأنا الشعري إحدى أهمّ شذرات الحداثة الشّعرية الأساسية لصالح أن يكون الشّاعر بمفهوم الفرد المغترب، وقصيدة النثر ليس لها هاجس سوى وجودها الذاتي. راح الشاعر المعاصر يتعالى على المتلقي وينفيه من معادلة العمل الفنيّ، ليصير النتاج الشعري نتاجًا في ذاته ولذاته. لا وجود للآخر. الأنا وحده هو اليوتوبيا، المركز وقطب العالم.
قصيدة النثر واغترابها المضاعف
يمكن القول إنّ قصيدة النثر نفسها هي حالة اغتراب عظمى داخل ثقافتنا الحديثة؛ فمنذ نشأتها وسماع الناس باسمها المفارق والملعون وهي تعيش هذه الحالة ولن تخرج منها، على الأقلّ في مجتمعات نمطية توجّهها سلطة الماضي وذائقته الجمالية المخفورة بقاموس لا يستهان من الضبط والانتظام ورسم الحدود.
لسنا بحاجة إلى التذكير بأهمّ «مغتربات» قصيدة النثر، أو السمات التي تضعها خارج المُصنّف والسائد والمتفق عليه، فقد صارت معروفة لدى الكثير من المهتمّين بهذا الشكل من «اللاشكل».
لكن إذا أردنا أن نلقي نظرة سريعة على هذه السمات «اللا قواعديّة» نجدها ملتبسة وغير مفكّر فيها لطبيعة إيحائها الاصطلاحي المثير لمحيط من التأويلات المغرضة التي صاحبتْ تلقّي (كُتيّب) سوزان برنار منذ البداية، ثم هو المُهمَّش بين نقود وتصانيف مكرورة كانت ترتكن إلى السهل وتعمل على إشكالات معدّة سلفًا. وهذا ما ساهم في حالة من الإنكار والرفض التي تواجه بها قصيدة النثر من لدن شريحة كبيرة من الجمهور المتشبع بثقافة الأذن، ومن أساتذة الجامعة الذين وضع أغلبهم نفسه ضد هذه القصيدة وفوّت على درسها الأكاديمي أن يرتقي بالسجال الدائر في الصحف والمجلات وفي سائل التواصل الاجتماعي لاحقًا. كما ساهم في حالة الحجب والتعتيم عليها بـ«مسوخات أشكاليّة» من لدن شريحة أخرى ممن ادّعوا كتابتها وافتروا عليها تحت هذا المسمى أو ذاك.
على الرغم من انحسار الجدل الشكلاني حول قصيدة النثر، الذي حرم زمن الشعر العربي وقتًا رائعًا من التحليق الحُرّ، وشغل النقاد والدارسين بسجالات أكثرها غير ذي شأن بالنسبة إلى اللحظة الحضارية التي كان من المفترض أن الشعراء قد هجسوا بها وانتصروا لها في حدوساتهم وصيغ حضورهم في العالم، إلّا أن القصيدة لا تزال تواجهنا كمشروع أخطأنا الموعد معه أكثر من مرة. ولا أعرف إن كان يومنا مُواتيًا لتهييء مناخ هذا المشروع لاستكمال صرخة محمد الماغوط وعصيانات من جاؤوا بعده.
عندما أتت قصيدة النثر في نماذجها الأولى المُؤسِّسة، كانت مشاريع البعث الحضاري التي تتخذ أشكالًا من الصوغ الرمزي والأسطوري تملأ الأفواه وتتساوق مع الانقلابات العسكرية التي تذرّعت بشعارات التغيير والحرية والعدالة الاجتماعية والرفاه والحرب على الرجعية والإمبريالية، ولعلّ الحركة التموزية هي أبرز من جسّدها بالنظر إلى نوعية خطابها الشعري. أعادت هذه الحركة (1950- 1964) الماضي البعيد والأسطوري إلى الحاضر الكاووسي بطرق لا تخلو من جهد إبداعي، لكنها سرعان ما انهارت وتأكد انهيارها بعد حدوث النكسة المدوّي، وانهار معها جبل عائم من الرموز والأحلام والأيقونات التي حملتها القصيدة واطمأنّ إليها جمهورها.
كانت مشاهد «الأرض اليباب» بإيحائها الإليوتي تكشف عن واقع ممزق ومشرذم وسط تحديات جيوسياسية صعبة سرّعت في ظهور وعي حداثي مضاد، بارودي وساخر. قد يكون مؤتمر روما (16- 20 أكتوبر 1961) بدوره ساهم في نشوء هذا الوعي، فقد اقترح استراتيجيات شعرية ستعمل على تنويع مرجعيّات النص والكتابة. اغتنمت قصيدة النثر تلك المشاهد، ولم تخطئ بوصلة هذا الوعي؛ إذ أخذت تنزاح عن يوتوبيا الأنا الشعري التي اطمأنّت إلى خلق أوطان بديلة بالرمز والأسطورة، بقدر ما انزاح شعراؤها إلى مناطق جديدة من الكتابة الصوفية والإيروتيكية والسوريالية والتخييلية إلى حدّ التجريب، وهي تعبّر عن رؤى ومضامين وجماليات وجدت مُتنفّسها في أشكال من الهجاء السياسي والسخرية والتهكم، كأنما هو تعويض عن “اللاشعور السياسي” الذي يعلن خروجه على طرق التعبير والبلاغة المستقرة أو التي أصبحت سلطة في شكل قوالب وأنماط محددة.
المنفيّون من أبناء السندباد وعوليس: التأريخ لدال أبيض
أسهم التركيز على الدال في التّيه والعصيان، وإشاعة “الغموض” في كثير من نماذج قصيدة النثر الأولى، في أن يخلق تشويشًا مزمنًا لأفق انتظار الذائقة وأطرها المترسّمة؛ وذلك نتيجة عطالة الدلالة أو هدم العلاقة بين دالّ وفهم، بحيث لم تعد الأدلّة تُحيل على مرجع أكثر من صارت تنتقل في سلسلةٍ من الدوالّ لا تنتهي. لم يكن الأمر متعلّقًا بدائرة التلقي وحسب، بل بالتغير الكلّي للرؤية الشعرية وأفق اشتغالها كخطاب.
كان من جملة الرعيل الأول الذي انتصر لخطاب قصيدة النثر، شعراء من جيل الستينات العراقي الذي قاد – بحسب عبارة الناقد المغربي بنعيسى بوحمالة – «حرب الاستنزافية التجريبية».
كان هذا الجيل معظمه من المنفيّين المغتربين الذين خرجوا أو نُفوا بعد انقلاب 8 شباط/فبراير 1963 الذي أطاح برأس عبدالكريم قاسم؛ وهم مزيجٌ من ذوي النزعات اليسارية على اختلاف مشاربها وتلويناتها الأيديولوجية والعقدية.
أخذ منفى شعراء العراق الذي يتوسع منذ تلك الحقبة، وتدخل تحته أطيافٌ من الجوّالين الهائمين الذين يقتفون آثار عوليس والسندباد، أو آثار الثقافة القديمة وذاكراتها التي تطلق شعورها الكثيفة في الماضي؛ فكان هذا المنفى بمثابة استعارة للاغتراب المضاعف الذي عاشته قصيدة النثر، بل بقية فنون الكتابة التي انفتحت على أسئلة حادة وصادمة حتى أن الشاعر صلاح نيازي، في وقت لاحق وتعبيرًا عن زخم اللحظة الفارقة، أصدر مجلة “الاغتراب الأدبي” عام 1984.
وكان شعراء جماعة كركوك، بمن فيهم جان دمو، سركون بولص، فاضل العزاوي، صلاح فائق، مؤيد الراوي، جليل القيسي، أنور الغساني، يوسف الحيدري، الأب يوسف سعيد، ضمن كوكبة هؤلاء المنفيّين حتى قبل أن يهجروا مجتمعهم.
إنّهم عاشوا التجربة بكلّ زخمها وعرامها، وأعطوا للاغتراب طابعه المضاعف؛ فمن جهة أولى، واجهت الجماعة بالتقويض والسخرية ظرفًا سائدًا يتمترس وراء خطابات البلاغة المسكوكة التي تتجاوب مع خطاب الهيمنة وتتعيّش – إذا استعرنا عبارة المفكر علي الوردي – على «أسطورة الأدب الرفيع» . فقد كانوا في شقاق مع المجتمع، يهزؤون مما فيه من المزايا والسلطة ومظاهر التكريم، ويتبرمون من الأوضاع العامة التي كانت سائدة آنذاك، وهو ما غذّى نزوعهم الى التمرد ومعاناتهم من الإحباط وإصرارهم على الخروج.
إن تأثير نشاطيّتهم تعدى الشعر ليشمل المسرح والفن التشكيلي والمقالة والنقد والترجمة، أي مسّ مناحي الحياة الثقافية بأكملها. يقول صلاح فائق في حوار معه «كنا نحن ندعو إلى كتابة يكون الشخص مركزها، من ناحية الهموم والتطلعات الشخصية وعدم السقوط في أكاذيب أجهزة الإعلام الصاخبة (…) ولكن رغم كل العوائق استطعنا تحقيق هدفنا الأساسي، وهو تثبيت اتجاهنا في الكتابة الأدبية والشعرية، قبل أن نهاجر جميعنا تقريبا إلى بلدان أخرى، لتفادي التعرض المهلك لسلامتنا الشخصية».
من جهة أخرى، وترتيبًا عليه، أرادت هذه الجماعة أن تنتزع اعترافًا بنفسها على أهليّتها في مضمار الشعر وفضل روحها التجديدية، ومن خلال ما أخذت تقترحه من جماليات جديدة ومغايرة يفرزها جماع الصور والرموز التي بدت في منظور التلقي السائد غير مألوفة وغريبة جدًّا، بالنظر إلى تكوين مجتمع كركوك وطبيعة اختلاطه الثقافي والديني واللغوي (عرب، كرد، تركمان، آشوريون..).
من هنا، لم تكن لهم مرجعية شعرية تُنسب إلى بعض مدارس شعر التفعيلة آنذاك، أو إلى تيار مجلة “شعر” البيروتية، بقدر ما كانوا أصواتًا مختلفة حتى ضمن الجماعة الواحدة، وكان لكل شاعر داخلها أسلوبه الخاص. يقول سركون بولص «كان لكل واحد فيها خلفيّته الغنية بالتعابير والحكايات والأساطير والأشياء التي يمكن سبرها أو فهمها بشكل كامل، لكنّها في النهاية ظهرت على شكل أسلوب عند هذا الشاعر أو ذاك».
والأخطر في الأمر أن هذا الأسلوب لم يكن ضربًا عاديًا من تأليف اللغة الشعرية وتنميقها بهذا الشكل أو ذاك، بل كان في جوهره تعبيرًا سياسيًّا يضع نفسه في مواجهة حقيقية مع ما كان سائدًا على الصعيد السوسيوثقافي، ولاسيما أن قصائدهم كانت تسندها خلفيات معرفية جديدة ومناوئة تشمل الماركسية والوجودية والتحليل النفسي والسوريالية والنقد الجديد.
وقد خرج معظم أفراد الجماعة مبكّرًا من العراق في بحر الستينات المضطرب، وتوزعوا بين المنافي، باستثناء جليل القيسي الذي بقي في العراق ولم يغادره حتى رحيله. كان في دواخل كلّ شاعر ووجدانه وقصيدته يعتمل منفى، ولم يكن هذا المنفى عندهم يعني ما كان يعيشه ويتمثّله المهجريّون في أوائل القرن العشرين، بل صار معنى المنفى يحتفظ بطبيعته المعقّدة، إذ يستوعب معنيي الهجرة والاغتراب معًا: الهجرة حين يجري السعي إلى المنفى وتفضيل الإقامة فيه اختياريًّا خارج الوطن، والاغتراب حين يُنْظر إليه بوصفه حالةً من الشعور بالعزلة والإبعاد اضطراريًّا تحت تأثير ظرف قاسٍ. وفي كلتا الحالتين، كما نبّه إلى ذلك إدوارد سعيد، «يعيش مع كل ما يُذكِّره بأنه منفيٌّ… (و) يظلّ على صلة دائمة، موعودة ولا تتحقّق أبدًا، بموطنه».
في مغترباتهم التي لاذوا بها فرارًا من قمع السلطة وخطاباتها المتراصّة، إذن، سنجد كتابات الجماعة، بل وغيرها من الجماعات الأدبية التي جوبهت برفض السلطة وخذلان التاريخ، تستحضر هذا التشظي القاسي بين ما يتمّ استذكاره وما لا يتحقق ويظلّ وعد اللغة مستأنفًا على الإطلاق.
لا يوتوبيا إلا داخل الذات: منفى الهوية واللّامعنى
زمنيًّا بدأت الهُوّة تأخذ إليها الشعر، أو الشعر يرقص على حوافّها، منذ سنوات السبعينات التي خرجت من رحم الأزمة الوجودية، وكانت حاسمة في بروز وعي جديد داخل القصيدة العربية تسنده مرجعيّات جديدة في الكتابة هي خليط بين مغامرة البحث واللاشكل والعدميّة والجنون والهذيان، إلا أنها بقيت منسيّة لأنها ترافقت مع صعود نظريات الظروف الخارجية والخطابات الشكلانية التي تحركت خارج كلّ التزام بأخلاقيات الكتابة وحداثتها، ونذرت نفسها لما هو «ضدّ الذاكرة»، ولقصيدة النثر تحديدًا.
بدأ الأمر هَزْلًا مع مسألة الوزن، وحين جاوزتْهُ إلى شكل المعنى وجدت القصيدة نفسها تلعب في تجربة الحدود وتتسلّى معها، خارج شرائط القيمة والوظيفة ومعايير النوع المتواضع عليها؛ إذ لم يعد يستهويها الحدث وأخذت تُكتب في شكل نصٍّ كُـلياني ومُتعالٍ ومُفارق للواقع الإنساني. التِّرحال في اليوتوبيا، وما من يوتوبيا إلّا داخل الذات. أسهم التركيز على الذات، على دالّ الذات، في التّيه وإشاعة الغموض في كثير من نماذجها الشعرية، ممّا أحدث تشويشًا بائنًا لأفق انتظار الذائقة نتيجة «عطالة» الدّلالة أو هدم العلاقة بين دلّ وفهم، بحيث لم تعد الأدلّة تُحيل على مرجع، بل إنّنا ننتقل فقط في سلسلةٍ من الدوالّ لا تنتهي. بمقتضى ذلك، صار الدليل في خطاب القصيدة مُحطّمًا، ولم يعد القارئ يعثر على شيء ما كدلالةٍ، وهو ما أحدث، بالتالي، رُعْبًا.
وابتداءً من هذه اللحظة الفارقة، فصاعدًا، بتنا نعيش الأزمنة التي اهتزّت فيها «مؤسسة» الشّعر، وأخذت صناعات التجريب الإستيطيقي تعيد ترتيب أولويّات الدال النصي ومراتب تنزيله، وتآكلت صورة الشاعر المعتادة بما في ذلك الفوتوغرافية نفسها، المختومة بحبره الشخصي. وبدا كأنَّ هناك تراجُعًا في الشّعر بسبب خفوت صوت الشعراء السياسي وأدوارهم المرجأة باستمرار، وقد مثّل ذلك فرصة الإعلام السانحة حتى تمتلئ الأفواه بحديث الأزمة، أزمة المعنى تحديدًا، ثُمّ أخذ الصراع، بالتدريج، يتحوّل إلى الداخل، أي من صراع سياسيّ وأيديولوجي مبرر إلى صراع شعري – شعري محتقن ضاق معه فضاء القصيدة إلى شيع واصطفافيّين حينًا، ودخلاء ملتقطة حينًا آخر. فيما قلّة اعتزلوا هذا الصراع «الكاووسي» وثمّنوا نداء عزلاتهم الباهظة في الشعر وعبره، واعتكفوا على مشروع المغامرة الخاصّة وندائها المترائي من أمكنة بعيدة.
لنقُلْ إنّ الحديث عن الشّعر أصبح اليوم أكثر من الشِّعر نفسه، وهو حديث أكثره غير ذي شأن؛ لأنّه أخذ يبتعد عن الجوهري والإشكالي، بقدر ما يلتذُّ باستغراقه الطويل في الشّكْليات والتجميلات والمزايدات.
أعود فأقول إنّنا نعيش رُعْبًا: من الرعب التاريخي الذي نشأ من غياب أيّ دورٍ ما، إلى رعب ضياع معايير الكتابة: معيار الوزن، معيار الغرضية ومعيار الالتزام السياسي بمعناه الضيق. وهل غير ذلك في عالمٍ لاشعريٍّ مثل هذا الكابوس الذي يكبس على أنفاسنا ويتربّص بنا مثل نزلة برد حادّة!
مع ذلك، ثمّة سياسة ما في القصيدة، هي بمثابة الحركة التي تهجع في رحم الكتابة، التي نهتدي بنا إلى تلك اليوتوبيا في ليل الذات؛ المحبرة الأكثر تقشُّفًا وسخاءً، وعرامةً في صمتها كذلك. وإذا كان زمننا منذورا للتّباريح والعذابات، فإنّ الأزمة هي الشرط نفسه للمعنى وهو يتخلّق باستمرار إنْ ذاتيًّا أو جمعيًّا؛ لأنّه عندما يتوقّف المعنى يصير الشّعر ملفوظًا مُنْتهيًا، ولا حاجة للشِّعر إلى الشِّعر. لهذا، تنتهي جميع اليوتوبيات المغرضة إلا يوتوبيا الذات التي تبدأ كل لحظة يكون فيها ثمّة عملٌ؛ أي الأنا الشعري بوصفه مستقبل المعنى وكُلّ تاريخ ولاداته، فيما الحداثة – عبر كلِّ أشكال «كيف يمكن أن نكون حديثين» بتعبير آرثور رامبو – تمضي، والحاضر يبقى حاضرًا.
بهذا المعنى، تعرض علاقات القصيدة، بطريقتها المُميّزة، الرهان الإبستيمولوجي للشِّعر بوصفه عملًا فنّيًّا مفتوحًا على كل الاحتمالات، على المجهول. وعليه، فليس الرّهانُ شعريًّا فحسب، بل هو سياسيٌّ. وإذن، ثمّة جدوى تتّقد في كُلّ كتابة تنزع إلى مثل هذا الرهان، حتى وهي تتحرك بلا معنى أَصْلًا، ولا هُويّة كذلك. فالكتابة الشعرية بوصفها خطابًا هي، في نهاية التحليل، تاريخيّة ليس لأنّها تحمل تاريخها وحسب، بل ومكانها وعبورها للأزمنة والثقافات. فقط الشّعر دائم الإصغاء إلى زمنه وشرطه الإنساني، وكان للشعراء في قصائدهم، باستمرار، المهامّ الملقاة على عاتقهم حتى في الأوقات العصيبة من نبذهم وتهميشهم.
يعبر الكلُّ كما لو كان يعكس علاقات القوّة. يخشى الساسة وحواريُّوهم الشاعر الفرد، فيما الشاعر في عصرنا لا يخشى من يسعون إلى سحقه، ولا يخذل ما عداه، فيما لا أَصْلَ بائِدًا له يلتفت إليه سوى أصل الشهوة العارفة يرتقها بأثر الموهبة المثقَّفة وصنيع الجهد المُجرِّب في آن، ولا عزاء له سوى تجويد الأثر. ولكن رؤياه – مع ذلك – ما زالت تفترس عينيه؛ ليس من سِقْط خطاياه، وإنّما من زمن الأخطاء الباهظة وعولمة العماء المذعور.