ماهية الاختلاف
من الأسئلة المعرفية الراهنة التي تصادف المتتبع للمشهد النقدي العربي المرتبط بالشعر، نجد سؤالين: سؤال الاختلاف وسؤال المواكبة النقدية للتجارب الشعرية العربية الجديدة. وهما السؤالان اللذان يفضيان إلى نقطة الالتقاء المشترك بين أصناف القراء كلهم بسؤال آخر يتجلى في: ما هي السمة العامة التي تتميز بها إشكالية النقد والإبداع الشعري في ظل التحولات الجديدة التي يعرفها العالم العربي على المستويات الآتية: ما هي ماهية الشعر؟ كيف استطاع الشاعر العربي انطلاقا من وصايا سؤال الاختلاف أن يحافظ على سلطة القصيدة الكلاسيكية المعهودة، وفي الوقت نفسه أن يدخل مغامرات التجديد عبر طَرْقه لتشكلات جمالية ودلالية غير معهودة في المتن الشعري العربي؟ ما هي ثقافة الشاعر العربي المتشبث بسؤال الاختلاف، والتي بإمكانها أن تجعله أكثر تفاعلا وتجاوبا مع ما يسمّيه البعض “عالمية الشعر”، لكي يَخْرُج من عُنُق زجاجة الهوية الشعرية المحددة جغرافيا وجماليا ومعرفيا؟ ما هي أحوال النقد العربي؟ هل القراءات النصية استطاعت الوصول إلى الرفع من مكانة النص الشعري العربي وجعله أكثر تأثيرا في المعرفة الإنسانية وأكثر تداولا في المجتمعات العربية، ومن ثم، تقليص الفجوة الغريبة التي توجد بين الشعرية العربية والذائقة القرائية؟ هل تمكّن النقد العربي الحديث من تغيير مجرى التفكير النقدي العربي من فكرة المعيارية المقيدة إلى فكرة الإبداعية المتحررة؟ ما هي المقترحات المقارباتية التي تعمل على تطوير مكونات النقد العربي، ولترتيب الأفق الشعري العربي ترتيبا معرفيا وجماليا يلتقي مع النسقين القُطْري والكوني المَنْشُودَيْن؟
سؤال ماهية الاختلاف
لستُ أحْسبُني مُغاليا إذا بدأت الحديث عن الشعر والشاعر والمعيار وباقي الإشكاليات المرتبطة بالشعرية العربية، من الإبداع الجاهلي إلى الإبداع الافتراضي، وذلك بطرح إشكالية الاختلاف التي تعد إشكالية يلتقي فيها هذا الثلاثي، الذي شغل المتلقي بكل أصنافه إبداعا، وحياةً، وتجربةً، وكذلك نتيجة النسق الشعري العربي المتميز؛ لأن المفهوم للشعر له علاقة وطيدة بأسئلة الشاعر، وأجوبة المتلقي الذي يظل باحثا عن تلك الأسئلة عبر الشفاهية والكتابية لتحديد المفهوم وعوالمه، كما للمعيارية علاقتها المتينة بالإيمان الثابت لتحديد ماهية الشعر.
فتحديد موقفك بالإيجاب من التعريف القائل: إن الإبداع الشعري بداية اعتراف بوجود المختلف مع السالف والمألوف، مع الكشف عن علاقات أو دلالات أو قيم غير مسبوقة، هو فكرة من بيان شعري نَزَّاعٍ إلى تجديد مفهوم الشعر والشاعر والمعيار. أما إذا كان الموقف بالسلب بمعنى رفض الاختلاف، فهو، من البَدهِي، أن يكون تعبيرًا عن التشبث بالسائد والمُكرَّر والمُعاد. إذ كل الإشكاليات والقضايا التي عرفها الشعر العربي تنطلق من تحديدها لماهية الاختلاف. لهذا السبب وذاك، اخْتَرْتُ سؤال ماهية الاختلاف، لأنه عملية فلسفية ومعرفية ودلالية وجمالية لا يمكن التغاضي عنه غِبَّ الحديث عن عوالم الشعر والشاعر والمتلقي بالثقافة العربية، وسؤال المواكبة النقدية نظرا لما أصاب النقد العربي من هفوات ملحوظة، ليصبح حديثنا في هذه المقالة، دليلا على موقفنا من الموضوع المطروح للنقاش.
إن إشكالية الاختلاف سمة بارزة في ثقافة الإنسان العلمية والأدبية والفكرية، ومناقشة الإشكالية اليوم في الثقافة الشعرية أضحت جوهرية، وعنصرا مؤسسا لكل فكر فلسفي شعري جديد يتوخى طرحا متميزا شبيها بالطرح الفلسفي الذي يؤكد أن الفيلسوف لا يكون فيلسوفا إلا إذا كان صاحب منظور فلسفي جديد ينبني على المفارقات والاختلافات والإبداعات مع الفلاسفة السابقين؛ حتى قال جيل دولوز “الفلسفة لن تكون أيّ شيء إن كانت لا تحمل توقيع مبدعيها.”
فالحداثة تحيا بفلسفة الاختلاف، والاختلاف يتعمق بالحداثة؛ والشاعر الحداثي لا يرفع قيمة العالَم إلا بالدفاع عن هذه الماهية، لأنه بالنسبة إلينا تأكيد للتحرر وإثبات للتمرد وتوطيد للفوضى المشاكسة للمعيارية بالمعنى الإيجابي، خيالا ولغة ومعرفة، لكل نموذجية شعرية مقدسة تسعى إلى المشابهة؛ كما أنه مغامرة في التجديد على مستوى الرؤية؛ وعلى مستوى التعبير معا.
إن الاختلاف تجربة معرفية، وجمالية، لمعانقة الإبداع الحقيقي القائم على مثل هذه الأفكار المتمحورة حول مقولة: إن كل تجربة لها عالمها المغاير عن التجارب الأخرى في عملية الإبداع الفني عامة وعملية الإبداع الشعري خاصة، التي هي في الأساس تعبير عن حضور خاص في العالم وعن مفهوم للكون وللوجود وللجمال؛ حيث الاختلاف يزيد وينقص تبعا لعوامل كثيرة منها التاريخي والجغرافي والثقافي البحت، وهو مبدأ مؤسس للأكوان والعوالم. ذلك بأن الذوق الواحد لا يجمع اثنين في الكون، وأن توظيف المرجع لا يتشابه، وأن حس الإنسان يتعلق بالقلب الواحد، وأن التجربة في الحياة تقوم على التأمل المتفرد. فاختلاف الأذواق والمرجعيات والأحاسيس والتجارب تكون دائما نتيجتها الاختلاف في القبولية والرفض، الأمر الذي يؤدي إلى التفاضل بين الجنس الأدبي الواحد مثل الشعر، لكن التفاضل يكون في درجة الكتابة والتأمل لا في درجة الفعل الإبداعي.
وعلى هذا النحو، وانطلاقا من هذا التباين كذلك، تتوسع رقعة الاختلاف في الرؤى والتصورات والمواقف للشعر والشاعر والمعيار؛ مع العلم أن اختلاف الأذواق لا ينشأ من أسباب عارضة فقط، بل ينبثق كذلك من مصادر أساسية في الخيال والفكر، لهذا كان ضروريا الاختلاف بين الشعراء في التجارب وفي التحديدات وفي المقاصد وفي التصورات.
ولا مراء في أن يصبح الاختلاف معيارا من معايير قيمة التجديد في الخريطة الشعرية التي تتزعمها فكرة الانتصار له. وبكل موضوعية تاريخية معرفية، أعُدُّ الشعر العربي بلبنان وسوريا والعراق في الأزمنة السابقة من النماذج التي أدى فيها الاختلاف أهمية عظمى في التنظير للحداثة الشعرية العربية.
في ضوء هذا المعنى يتأسس النص الشعري، وفي ظل هذه القاعدة؛ “تحيا القصيدة العظيمة، التي تناصر الحركة لا السكون على حد قول أدونيس. ذلك بأن الإبداع الخالد هو الذي يستطيع أن يضم بين جناحيه حركة الحياة، ويستطيع أن يثير في المتلقي انطباعا يقينيا بحركة الحياة النابضة بعلاقات المجتمع البشري، ولكن بعد أن يخضعها لعملية تنظيم وتنسيق فنيين قائمين بالأساس على سيرورة التجديد.
إن الشاعر لا يمكنه أن يصل إلى مستوى الإبداع باتفاقه مع الشعراء، وإنما من خلال سمة اختلافه الذي يميزه، ويميز شعره، ويفصح عن تفرده، لأن جوهر الإبداع يكمن “في التباين وليس في التماثل” على حد تعبير الناقد العربي محمد مفتاح، شريطة أن يكون هذا التباين مبنيا على مرجعية معرفية وجمالية عميقة تقرأ خطوات فوضويتها قراءة مناسبة للأرضية التي تتربى فيها القصيدة العربية تاريخا وحضارة وجمالا، لأن للفوضى مستواها الأفقي والعمودي في ماهية الحداثة الشعرية العربية، لكن ليس بالمعنى المتداول اليوم في العالم الافتراضي، المنطلق عند الشاعر الرقمي إن صح التعبير الذي مارس كتابة القصيدة لأول مرة عبر الشبكة العنكبوتية، معلنا فوضاه غير المبنية على المعرفة الشعرية العربية من جهة والعالمية من جهة أخرى. ومتحاشيا، في الوقت نفسه، مقولة: ليس هناك شيء من لا شيء، فالشاعر حين يبدع نصا شعريا (انزياحا في البنية المعرفية)، يكتسب وجودا ذهنيا ديموميا يتغلغل في عقلية المجتمع ورؤيته.
وليس من الإسراف القول إن الشاعر الحقيقي هو ذلك الذي يحاول قدر الإمكان أن يتجنب الطريق المُعَبَّد المألوف، وأن يبحث بنفسه عن طريقة في التعبير، تكون جزءا من بصماته الخاصة، والتي لا تجمعه بشاعر آخر.
ولكن، من المفيد، في هذا السياق، الإشارة إلى أن هذا الاختلاف لا يعني القطيعة مع السابق، بل إن مفهوم الإبداع وأوله الشعر، يتطلب الإتيان بالمختلف، مع الاستحضار التام للتجارب والمعارف السابقة والاطلاع عليها، والتأثر بها، حيث وجود الأجناس الأدبية في تعاقب زمني، وهو الدليل على وجود تقاليد تفرض نفسها على المبدعين. خاصة إذا وضعنا مسألة صمود الأعمال الكلاسيكية العظيمة التي تتمكن من البقاء عبر القيام بجسور بين العصور، فعلينا بالاعتراف بقيمة الشعرية العربية القديمة التي لازالت تمارس سحرها علينا وهذا بارز في نصوص الشعراء المحدثين والمعاصرين والممارسة هنا لا تعني الهيمنة وإنما التأثر والتفاعل.
فالذي يحدث هو أن العمل الأدبي يبدع شكله الخاص به، وأنه ينساب في شكل هو ميراث من الآداب القديمة، فالأجناس الشعرية والنثرية كلها عبرت القرون على هذا النحو، عبارة عن أوان حقيقية تملأ كل مرة بسائل مختلف. “وهذه الأواني من ناحية أخرى يصيبها شيء من التغير، بتأثير السائل الذي يصبّ فيها، ولكنها لا تفقد ملامحها الأصلية”. ومقصدية ذلك كله أن الرجوع إلى النموذج أو النماذج المختلفة شيء ضروري بالنسبة إلى الشعراء لاكتساب هذا التصور الذي يوسع مداركهم ويعمق تجاربهم، فالشاعر المبدع مهما بلغ في تجربته الشعرية من الرقي يظل مدينا لمجموعة من التجارب السابقة، فهو لا يبدع أشياءه من عدم، بل عن طريق الجسور التي يقيمها مع الآخرين، فالتجربة الشعرية عند الشعراء المتمكنين تنمو باستمرار، وتتخذ طريقها نحو الأشمل دائما.
وبعبارة أخرى، في سؤال الاختلاف يكبر التجديد، وتتسع الرؤيا، ويولد الأفق، ويستمر الإبداع. هنا تلتقي ماهية الشعر مع ماهية الفلسفة. فالفيلسوف لا ينطلق من فراغ للتفلسف، فعليه أن يطلع على التراث الفلسفي، لكي يتجاوزه بطرحه الجديد. فشعار” اخْتَلِفْ لِكَيْ تَتَجَدَد” و”اغْتَرِبْ لَكَيْ تَتَجَدَّد”، هو الذي جعل التفلسف الشعري العربي التنويري لا يتراجع، على الرغم من المضايقات التي يسجلها التاريخ بألم.
من رسائل الشاعر التجديدي أن يتحرك كما يشاء، ويقرأ ما يحلو له، ويعمد إلى ملء مخزونه، ومحفوظه بحرية، ودون أن تكون هناك رقابة تفرض عليه، فكلما كثرت القراءات وتعددت المصادر واختلفت التجارب كان الشاعر أكثر أصالة وأعمق إبداعا وأكثر تجددا، شريطة استحضار آليات التجديد.
وتكفي المقارنة في الشعر القديم، فالذي حصل على مدى ثلاثة قرون مثلا، القرن الأول قبل الإسلام، والقرنان الأول والثاني من عهده، فمن معلقات الشعر الجاهلي إلى شعر الغزل في الحجاز إلى شعراء العهد الأموي إلى المولدين في مطالع العهد العباسي، ليس الأمر مجرد تغير في المواضيع المطروقة والأغراض المتناولة، وإنما التطور أبعد في أعماق الذائقة الشعرية أساسا، “فليس عنترة شبيها بالحارث بن حلزة، وليس كعب بن زهير شبيها بتأبط شرا، وليس البحتري شبيها بأبي تمام، “وليس جميل بثينة أو مجنون ليلى كعمر بن أبي ربيعة. وليس الفرزدق كالأخطل، وليس أبو نواس كبشار بن برد، وليس ابن الرومي كأبي تمام، وليس البحتري كأبي العتاهية، وليس المعري كالمتنبي” على حد قول أدونيس في كتابه “موسيقى الحوت الأزرق”. والذي وقع في الشعر الحديث، مثلا مطران خليل مطران ليس شبيها بجبران خليل جبران، وإلياس أبوشبكة ليس شبيها بمحمود حسن إسماعيل، وفي الشعر المعاصر، بدر شاكر السياب ليس شبيها بصلاح عبدالصبور، وسميح القاسم ليس شبيها بأنسي الحاج، وأدونيس ليس شبيها بمحمد بنيس، وهكذا دواليك. يمكن أن نقول بالاستناد إلى ما تقدم إن الشعر العربي تطور بالاختلاف وليس بالائتلاف.
إن شعر هؤلاء يقدم سيلا من” الاختلافات ” المتميزة بالتعدد والتنوع، على الرغم من وجود مجموعة من “المشابهات” في بعض التصورات والغايات. والواضح أن العرب القدامى فهموا هذا المعنى الاختلافي للشعر. ونضيف إلى ذلك أمرا آخر، هو أن ثراء التراث الشعري لشعب ما يقاس بمدى هذا التباين، حيث جمالية المحاكاة تعرف الانتشار الأوسع في المجتمعات ذات البعد الواحد، والفكر الواحد، بينما جمالية الاختلاف تتجاوب ماهيتها في المجتمعات ذات الأبعاد المتعددة. لهذا، عرف الشعر العربي في علاقته بالاختلاف مرحلتين بارزتين: مرحلة اعتباطية التعدد الناتج عن ثقافة الشفاهية في العصر الجاهلي وما قبله، ومرحلة العقلانية الكتابية الناتجة عن الاهتمام بالثقافات والمعارف الأجنبية، وهي أسمى مرحلة تجديد الخطاب الشعري العربي التي كانت في العصر العباسي، وهو العصر الذي اتسم بالتعدد الثقافي والانفتاح على ثقافة الآخر.
ولعل جوهر الاختلاف الموجود في الشعر العربي قديما وحديثا ومعاصرا، كان سببا من أسباب تطور القصيدة العربية، ويعد شعر الصعاليك من الظواهر الأولى التي سجلت حضور التمرد في الشعر العربي، الذين شقوا عصا الطاعة وخرجوا على الإجماع الشعري، معلنين اختلافهم الجمالي والمعرفي، ومؤكدين خاصية التغير والتنوع والتعدد في الشعرية العربية ولا ننسى في هذا الحديث، أبا العتاهية الذي أعلن أنه أكبر من العروض التي كانت تعبر عن الموسيقى الشعرية عند من سبقوه؛ وأبا تمام الذي طرح فكرة فَهْم ما يقال بديلا لقول ما يفهم، أي أنه طرح أسلوبا للقول الشعري مغايرا لما سبق، والشاعر الفيلسوف أبا العلاء المعري الذي قَدَّم ما أسميه “العقل الشعري العربي” انطلاقا من جمعه بين الشعري والفلسفي، والشاعرة العراقية نازك الملائكة التي تجرأت عبر وعي إيقاعي نقدي جديد لتعلن تقعيدها التفعيلي المغاير لإيقاع العروض الخليلي المعهود، والشاعرين اللبنانيين يوسف الخال وأنسي الحاج اللَّذَيْن غامرا مغامرة جمالية ومعرفية عَبْر رفعهما لشعار الشاعر الفرنسي شارل بودلير” كُنْ دَائِمًا شاعرا حتى في النثر”، لتكتسب قصيدة النثر شرعية الميلاد والتأسيس والترسيخ، متأثرة بتصورات سوزان برنار.
إذن، منذ القديم، والشعر يشير إلى أن لكل شاعر ملكةَ تختلف عن مَلَكات غيره، وأن كل جيل شعري يعمل على رفض طريقة “الرؤية” التي تكون لدى الآباء الشعراء. من هنا، فخروج الشاعر على انتظام الإيقاع والوزن والقافية داخل قصيدة معينة لا يضر بتكاملها، ولا حتى بالوحدة الشكلية للعمل. بل على العكس، مثل هذه المخالفة تؤكد وحدة القصيدة إذ تجعلنا أكثر يقظة في استيعاب علاقاتها وعناصرها، فتؤكد وحدتها العضوية، كما أن كل شاعر جديد يعبر عن تجربة جديدة، التي تجعله يتناول اللغة تناولا خاصا، يقوم بدوره على فهم خاص للحياة وظواهر الوجود، مادامت اللغة تشكل العمود الفقري لكينونة الشعرية في علاقتها بالوجود.
ففي كينونة اللغة يكبر نبض العصر بألمه وبأمله، بواقعه وحلمه. وإذا كان عصرنا يختلف عن العصور السابقة فكيف لا تختلف لغتنا عن لغة الآباء والأجداد؟ وإذا كان عصرنا يتميز بالقلق والخوف والتشتت والصراع بين الدول والمذاهب، وسيطرة الثقافة الرقمية على الإنسان وجعله مبتعدا عن رسائل الجمال وعن العالم بقدر محاولته السيطرة عليها والتحكم فيها، “فكيف لا تكون لغة الشعراء مرآة لكل هذه الأسئلة والقضايا؟”، وإذا جاز القول إن لكل منا عالمه، فكيف نستبعد على شاعر اليوم أن يكون له عالمه أو قل غابته الكثيفة المظلمة. ليس لكل عصر لغته فحسب، بل لكل شاعر لغته أو قاموسه الشعري الخاص به. لأن الشعر اليوم لم يعد منحصرا في العروض فقط، إنما أصبح تعريفه غير محدد، ومن بين التعاريف الجديدة: إنه لغة الكينونة الجديدة المليئة بـ”جدلية الخفاء والتجلي”، والتي هي أداة الإنسان لتحقيق “العلانية” وإبراز الباطني، أو هي تجلي الموجود البشري في العالم الخارجي. فبهذه اللغة المختلفة عن سابقتها تحررت القصيدة العربية من نمطية الأسلوب والإيقاع وجاهز الدلالة أو مسبق المعنى لتنهدم النماذج، كل النماذج المستهلكة، وقد عبر جبران عن ذلك بمقطعه المشهور “لكم لغتكم، ولي لغتي”.
والشرط الوحيد الأشد أهمية في ماهية الاختلاف أن يكون منسجما مع السياقات الثقافية والفكرية والحضارية المقتربة من الكينونة الجمالية للغة المنفتحة على الذات، وعلى الكوني المناسب والمتماسك الذي يسهم في إدماج النص الذاتي ضمن كونية النص، ومثل ما قام به أدونيس في مشروعه الشعري والفكري، “حيث يشكل المشروع الأدونيسي في مسير الحركة الشعرية العربية المعاصرة أنموذج التشبث بسؤال ماهية الاختلاف الذي تمكن من أن يستوعب حداثة السلف وبنى عليها حداثته الجديدة ليفتح القصيدة العربية على مجالات من الاتساع الكوني”، وما قام به الشاعر المفكر العربي محمد بنيس الذي قال ولازال يقول حياته شعرا ذا لغة عالية، مختلفا بذلك على المستوى النظري والإبداعي والنقدي مع سابقيه ومُجَايِليه، حيث ظل رافعا شعار “الحق في الشعر” كمدخلٍ رئيسٍ لقول المختلف الضروري من أجل معانقة مفهوم روح الإبداع الحقيقي المنبني على الأسس الفلسفية والمعرفية والجمالية التي تجعل للشعر والتجربة أفقا إنسانيا كونيا يتمكن الشاعر من خلاله ولوج الشعرية العالمية التي تؤمن بأهمية القول المختلف في تثبيت عملية تطور الشعر ورؤية مستقبله.
إن ماهية الشعر العربي من عصر المعلقات إلى عصر الشذرات، عرف تجارب شعرية متعددة تلك التجارب أثرت في الذائقة الأدبية، على الرغم من اختلافها لمفهوم الشعر معنًى ومبنًى، ومن أسباب التأثير أن الاختلاف كان يقع من داخل هوية النص الشعري العربي التي يتميز بها وحده، وقد قيل فيها الشيء الكثير، لهذا فأي مغايرة في الأدب والفكر والثقافة يستحسن أن تكون منطلقة من المكونات التي تؤسس هوية النص المرتبط جينيا وجينولوجيا وإبستمولوجيا بالذات لا غير، وأستغل هنا السياق، لأشير من شروط الشاعر العربي المتجدد شرط الحفاظ على قوة النص الشعري العربي المتميزة ما أسمّيها قوة “الاختلاف الملائم للهوية”. وهذا سر التفاعل الإيجابي الذي يقع بين المرسل والمرسل إليه، وتستمر رسالة التجديد بالصورة اللائقة لمفهوم التطور القائم أساسا على قراءة التراث الشعري ليس لإعادته أو لتقديسه، بل لتجديده عبر الاختلاف معه، ثم على التشبث بالنقد المعرفي للأشياء التي لم تعد مناسبة مع التقليد والمعرفة والذائقة.
سؤال المواكبة النقدية
ليس من باب الأحكام النقدية الجزافية القول إن ماهية النقد الأدبي العالمي في تواصله مع المتون النصية، لم يستقر على أرضية ثابتة نهائية منذ بزوغ التصورات والآراء النقدية التي تباشر تفاعلها وتَحَاوُرها مع الإبداعات الإنسانية المختلفة التجارب والحيوات. ومن بينها النقد العربي الذي يتسم في شموليته المتأثرة بالتحولات، والتطورات الكبرى التي شهدتها العصور العربية منذ ما قبل العصر الجاهلي إلى العصر الحالي بالتذبذب بين نوعين من النقود: النقد الذوقي الذاتي القائم على عنصر الإبداعية في المصطلحات وفي الغايات، فكل ناقد يبدع معجمه وألفاظه، طوال مشروعه النقدي حتى أصبح العصر مشهورا به، ولنا أمثلة متعددة في هذا النوع، حتى أنه يمكن وصف النقد العربي، انطلاقا من هذا النوع، بـ”النقد الانطباعي الفردي”. وهناك “النقد العقلي الموضوعي” الذي يتأسس في غالبيته على التنظير المعرفي السابق عليه والسائد في عصره، والمنطلق في مجمل أفكاره من المدارس والتيارات والاتجاهات التي تمكنت من بَسْط مبادئها وتحديداتها. وهنا يمكن الإشارة، إلى أن هذا النوع لا فرار له من وظيفة التزود بمبادئ المناهج النقدية وقواعدها المنطلقة من التحديد للمفاهيم والأنساق والسياقات التي تنشغل بها وتشتغل عليها، لِتُقَدَّم شرحها أو تفسيرها أو تأويلها للنص الإبداعي الذي تسعى إلى الاعتراف بماهيته والاحتفاء بأبعاده الدلالية والجمالية، والتي بطبيعة الحال لا تخرج عن أمرين: أمر التأثر عن قرب وأمر التأثر عن بعد، أو بمعنى آخر الانطلاق من ثقافة الذات والانفتاح على ثقافة الآخر.
يتفق معظم أهل الأدب والفكر بأن النقد حياة جديدة للإبداع، فكل إشارة بكل الأطياف والدرجات إلى نص مُبْدِع فهي بمثابة إعلان عن ميلاد جديد له. كما أن كل حديث عن عوالم المبدع وإبداعه، يعد نصا ثالثا يحمل ثنائية ضدية تتسم بالتفاعلية والتكاملية، وبالتبادل الوظيفي للكينونة المشتركة التي لا تنتهي. بهذه الرؤية الوجودية ظل النقد العربي يواكب كل جَدِيدِ نص عربي، بيد أن هذه المواكبة لحد كتابة هذه السطور لم تتمكن من التخلي عن مجموعة من العوائق العرفية والمعرفية والأيديولوجية التي تقف سدا منيعا في وُثاقة تلك الكينونة.
فمن العوائق العُرْفية نجد أن الناقد العربي يتعامل مع النصوص تعاملا تقليديا؛ ظل حبيس مناصرة تقديس السابق على المعاصر، وسجين الاهتمام بالمشهور وتهميش المغمور. حيث هناك مواكبة دائمة كأنها ميثاق شرف بين النقاد العرب لثلة من أسماء الشعراء العرب، حتى أصبح القارئ العربي لا يعرف في العصر الشعري العربي إلا شاعرا واحدا أو شاعرين. وهنا نشير إلى أن سؤال المواكبة في النقد العربي بالمعنى الأكاديمي وغير الأكاديمي أفسد شيئا ما طقوس المتلقي، فجعله في صحبة ديوان العرب لا يتهافت إلا على المكرّر والمبتذل والمشهور ليقدم لنا بذلك قارئا لا يمكنه أن يدرك العمل الشعري إلا من خلال نظام عرفي تقليدي يشكل البداية على تربية ذائقة تابعة؛ وهذه ظاهرة منفردة في الجغرافية النقدية العربية، لم يستطع النقد المعاصر الفكاك منها. ولا داعي لذكر أسماء الشعراء المفكر فيهم. فهل هذا يعود إلى تفوّق نصوص الشعراء المحظوظين أم إلى أن سؤال المواكبة النقدية يحتاج إلى إعادة وجهة نظر التي تتخلى عن تلك الأعراف التي لم تقدم خدمة للنص العربي، بقدر ما قذفت به في سلة التكرار غير المفيد. في هذا السياق، يمكن القول إن النقد العربي قديما وحديثا ومعاصرا والذي تمكن من أن يصبح كينونة مشتركة دائمة بين النقد والإبداع، هو ذلك النقد الذي انطلق من ذلك التصور المعرفي النقدي الديمقراطي الشامل الذي لا يستدعي العائق العرفي المحدد في القول “إن الناقد فُلان دَرس الشاعر فلانا، فأنا كذلك أَحْذُو حَذْوَه”. ونظن بأن هذا العرف لا يستقيم وثقافة الاعتراف بالمهمش واللامفكر فيه مغيبة في أطروحته؛ مع العلم أن هناك شعراء عربا قدامى ومحدثين ومعاصرين بكل طبقاتهم الشعرية لم ينالوا ما يستحقون من دراسات وأبحاث، على الرغم من غنى تجاربهم وإسهاماتهم الملحوظة في الرفع من قيمة جماليات الشعرية العربية. وهذه الظاهرة النقدية لازالت سائدة في النقد العربي المعاصر، حيث هناك شعراء كبار كانت لديهم الريادة في تجديد الخطاب الشعري العربي وإدخاله العالمية بكل اللغات لكن النقاد عامة والنقاد المختصين خاصة لم يُكِنُّوا الوُدَّ لنصوص هؤلاء في المواكبة.
وفي المستوى المعرفي نلاحظ معاناة النص الشعري من غياب الحديث عنه من خلال المرجعيات التي يتأسس عليها خطاب الشاعر العربي المنفتح على المعارف والثقافات. ولعل فكرة موت المؤلف بما تحمله من تعدد في المعرفة لا تناسب النص الشعري العربي الذي يحيا بالواقع والتاريخ والمجتمع والحدث، يحيا بالمعنى والمبنى معا، وينطبق الأمر كذلك على القارئ الذي يصيبه النفور من النص الذي لا يخاطب فيه الذاكرة والألم والحلم انطلاقا من التجربة العربية حضاريا وفكريا واجتماعيا وجماليا. فكل ناقد لا يستحضر المرجعية التاريخية في تحليله للنص الشعري يبقى تحليله ناقصا، ولعل هذا ما أصبح مستدركا في مجموعة من التصورات النقدية الجديدة، حيث بدأ أنصار النقد البنيوي مثلا في فرنسا، يعودون الآن إلى المرجعية التاريخية مرة ثانية، لأنهم أدركوا أنهم عزلوا الإبداع عن سياقه التاريخي والاجتماعي لدرجة انه أصبح شيئا مستقلا بذاته، وما عاد يغري الإنسان بالتمعن فيه والتأثر به. الآن يريدون أن يعيدوا هذا الإبداع إلى سياقه التاريخي والاجتماعي لكي يتأثر الإنسان به من جديد، ويصبح فيه غنى للنفس الإنسانية وقوة أخرى تساعد في تطويره. فالمقاربات التي تركز على النص ولا تعترف بما سواه وتعتبره مغلقا ولازما أي غير متعد إلى دلالة من خارجه فيها إجحاف في حق الشاعر ومعاناته. فدعك من قولهم بموت المؤلف/الشاعر مثل شعار رولان بارت مثلا، أو موت الناقد/القارئ مثل شعار رونان ماكدونالد، فكل ما يؤسس النص الشعري يفرض وجوده بقوة الحياة والجمال، دونهما لا يكون الإبداع ولا تتوافر مادة للنقد ولا للمتعة الفنية. فالشاعر حاضر في جميع ثنايا النص يَتَنَفَّسُه ويُلَوِّنه بأحاسيسه وأفكاره. والظروف التي يعيشها الشاعر هي التي تكيف اختياره وتوجه إبداعه حتى من الناحية الشكلية والأسلوبية. بالإضافة إلى أن تَعَمُّد التركيز على جانب واحد من النص أي الشكل أو البناء أو اللغة أو الأسلوب فيه إجحاف في حق النص متعدد الأبعاد والدلالات. وما يمكن الإشارة إليه في هذا السياق أن النص الشعري العربي لا يستقيم عود جماله إلا بحياة قائله، ومن ثمة فقد ارتكب النقاد خاصة البنيويون خطأ جماليا ودلاليا، حينما فصلوا الشكل عن الدلالة، مع العلم أن الثقافة العربية على المستويات جميعها متعلقة بالمعنى شكلا ومضمونا، فتهافت المتلقي العربي على النقد اللساني الغربي جعله يتخلى عن اللسان العربي الذي يربط المعنى باللفظ واللفظ بالمعنى. كما أن الشاعر والناقد الرقميين أصبحا يعيشان استلابا ملحوظا جعلهما يدخلان أحيانا في تحريك طواحين الهواء الدونكيشوتية التي تعود بالسلب على الكون الشعري العربي على المستويات جميعها.