اختلاف الأفراد ومطابقة الجماعة
من أجل أن يستعيد الفرد هويته الإنسانية الحرّة بمعزل عن تحيّزات القطيع الاجتماعي يلزمه بناء وعي بذاته، وعي عابر للهويات الضيقة، والانفتاح على الهويات الفاعلة في العصر الذي يعيش فيه، وهذا رهان صعب جدا، فمغادرة التحيزات الدينية والعرقية والمذهبية والقبلية رهان شبه متعذّر في مجتمعات تنكّبت لمسار التقدّم المتدرج، وسقطت في دائرة لاهوتية لا تفضي بها إلى تعديل نظرتها لنفسها، وللعالم الذي تعيش فيه، وأول ما ينبغي عمله هو زعزعة المسلّمات الداعمة للظواهر الهوسيّة سواء أكانت دينية أم ثقافية أم سياسية، وتغيير مسار تلقّيها عند الأفراد، وهو ما يسهم في خلق وعي يتجرّأ على تهديمها، فلا يمكن، على سبيل المثال، تهديم المركزيات الكبرى، كائنا ما كانت طبيعتها: عرقية أو دينية أو ثقافية، بل التشكيك في مشروعيتها، والارتياب بمسلّماتها، والسعي إلى تقويض فرضياتها، بما يجعل الناس يعيدون النظر في علاقتهم بها، ثم التجرّؤ عليها بالنقد الكاشف لمخاطرها؛ فالنزعات المذهبية والممارسات العنصرية والأنظمة الأبوية والتحيزات القبلية لا تتفتّت بالطّرق عليها، إنما بالتوغل فيها لفضح مخاطرها ونزع المشروعية عنها، ولن يتأتّى للفرد أن يقوم بذلك إن لم يكن مهيّئا للخروج منها بما يحتاج إليه في رحلته الطويلة.
ومادام الفرد محشورا في إطار الجماعة المنقطعة عن سياق التاريخ، فلن يتأتّى له اكتشاف نفسه بوصفه فاعلا اجتماعيا مؤثّرا، وعلى هذا يجب التحذير من خطر الارتماء في حضن الهويات المغلقة، والاعتصام بها، وتزوير حقائق التاريخ، وبخاصة الهويات المجتمعية التي بنيت على قواعد متحيّزة تقول بالتفاضل، سواء أكان تفاضلا عرقيا أم دينيا، فالتفاضل ضرب من العنصرية المقيتة التي تحول دون إقامة علاقة سوية بالآخرين، وله تجليّات كثيرة في الظاهرة الدينية، ومعلوم بأن التأويل الديني للتاريخ نجح في خلق نظام تراتبي يفصل بين المسلمين وسواهم من ذوي الأديان الأخرى، ومنح أرجحية لهم على ما سواهم، بل إنه شقّ العالم الى ثنائية متضادّة الأطراف، ولم يأخذ به على أنه وحدة كلية متنوعة، وجرى عمل شاق لبناء سلّم قيم خاص بالمسلمين يحميهم من جهة من السقوط في مهاوي الرذيلة الاعتقادية والحياتية، ويدرأ عنهم الشُبهات، ويسمُ الآخرين بسوء المصير إن لم يهتدوا الى طريق الصواب، ولم يكتف التأويل بذلك بل أعطى شرعية للتنكيل بالمخالفين، وقسرهم على الأخذ بسلّم القيم الاسلامي.
أنتج هذا التأويل الديني لاهوتا سجاليا لحماية المعتقدات، بل حبسها في إطار خانق، وقد تورّطت فيه الأديان السماوية التي صدرت من اعتقاد يرى أنّ كلاّ منها يملك الحقيقة الكاملة، وفيها يكمن الوعد الأخير لسعادة الانسان، وسوف ينتهي هذا الاعتقاد الى قسر الآخرين على ما أمسى مُعتقدا مطلقا بمرور الزمن بعد أن كان مجرّد سلوك خاص بجماعة، ولن يكون للفرد موقع فاعل في هذه المنظومة اللاهوتية التي تعيد إدراج الأفراد بوصفهم عناصر خاملة في عقيدة لا نظير لها في التاريخ.
ومن أجل أن يتحوّل الفرد من تابع إلى مشارك في المجتمعات الإسلامية، ينبغي وقف التأويلات المتحيّزة للظاهرة القرآنية وفتحها على تأويلات جديدة، أي اقتراح تأويلات تتخطّى النموذج اللاهوتي، فتأخذ بالنموذج الدنيوي للأفكار، والأدوار، والأهداف، والمصالح، بحيث يتوارى الدعم الاعتقادي للتمركز حول الذات الدينية، وبالنموذج اللاهوتي تستبدل مفاهيم الشراكة، والتعددية، والتنوّع الثقافي، والاعتراف بالآخرين، فيظهر الفرد المسؤول عن أفعاله، ويتحلل القطيع الاجتماعي الذي يحكمه تحيّز أعمى للهوية القائمة على تأويل أعمى للظاهرة الدينية. ولا يجوز أن تتحصّن النصوص وراء قداسة تحول دون تحليلها، فقيمتها تكمن في قدرتها على قبول الاستنطاق.
النصوص الدينية ليست زجاجا هشّا قابلا للكسر ما أن نضع أيدينا عليه، ولا هي بغشاء رقيق يتفتّت بأوّل لمسة، بل هي مستودع رمزي للأفكار، قامت بتمثيل شامل لشؤون عصرها، لكنّها جهزت النموذج اللاهوتي بتأويلات خطيرة، وهي تأويلات لها علاقة بالظروف السياسية والتاريخية والثقافية، والآن صار من اللازم مراجعة تلك التأويلات، ونقدها، وكبح تأثيرها، بإحلال تأويلات بديلة تنزع عن الظاهرة الدينية تلك الهيبة المخيفة وتقترح هيبة تقوم على الألفة والمودّة والشراكة، وليس هيبة تقوم على الخوف والتبعية والعبودية والترهيب.
وظنّي أنّ النقد سوف يسحب الشرعية الزائفة عن معظم الظواهر الاجتماعية والدينية والسياسية التي تغمر مجتمعاتنا، وتنزع الغطاء الثخين عن الظاهرة الدينية، وتجعلها تظهر بعيون لم تعتد على تلك الظلمة التي اختبأت فيها طوال أكثر من ألف سنة. النقد المسؤول، في تقديري، يمكّن المؤمنين من إعادة الاعتبار للظاهرة الدينية، والنظر إليها على أنها خيار فردي حرّ وليس تركة سياسية واجتماعية مُذّلة يساق الناس لتطبيقها بالعصي والسياط، وتقطع رؤوس غير الآخذين بتفسير مخصوص لها.
كنت اصطلحت، من قبل، على المجتمعات المحكومة بمزيج من التحيزات الدينية والعرقية، بـ”المجتمعات التأثيمية”، وقصدت بذلك أنها مجتمعات استقرّت على مرجعيات عقائدية ضيقة، وفشلت في صوغ تصوّرات شاملة عن نفسها وعن الآخر، فانكفأت على الماضي بدعوى صون الهوية وحماية الأصالة، فأظهرت خشية مفرطة من التغيير الذي رأته مهدّدا لقيمها الدينية والاجتماعية، وبالغت في تأثيم أفرادها ما أن يخطر لهم تقديم الأفكار الجديدة، والمطالبة بالحقوق الطبيعية، فكل ابتكار فكري هو نوع من المروق، بل العقوق، وهي بحاجة لأن تعيد النظر في رؤيتها لموروثها، والقيام بتعديلات جذرية لكثير من مضامينه؛ حدث ذلك لأن المجتمعات التأثيمية لاذت بتفسير قطعي لنصوص الدين لا يقبل الانفتاح على تعاقب الأزمنة وتغيّر الأمكنة، وأذلّت نفسها لذلك التفسير المغلق أكثر من خضوعها للقيمة الثقافية والأخلاقية والروحية للنصوص الدينية الأصلية، فراحت تقدّس سردا خياليا عن ماضيها توهّمت صوابه، وسكتت عن ضروب الاختلاف في تاريخها القديم، وعدّته خروجا على الطريق القويم.
وفي التفصيل، يمكن القول بأنّ “المجتمعات التأثيمية” لم تميّز بين الظاهرة الدينية من جهة، وتأويلاتها من جهة أخرى، فالتبسَ الأمر عليها، إذ حَسِبتْ أنّ الكتلة الصلبة من التأويلات هي الدين عينه، فأضفت قدسيّة عليها، وصارت تفكّر بها وتتصرّف في ضوئها، وتحتكم إليها، فأفرزت تصوّرات غائمة عن حرية الفرد ومشاركته في الميدان العام، فمفهوم الحرية ليس مشروطا بالمسؤولية الهادفة إلى المشاركة، ثم التغيير، بل هو مقيّد بالولاء والطاعة، وكلّ خروج على مبدأ الطاعة يعدّ ضلالة؛ لأن المرجعية المعيارية للحكم على قيمة الأعمال وأهميتها وجدواها مشتقّة من تصوّرات منكفئة على الذات ومحكومة بمفاهيم مستعارة من تفسير مخصوص لترِكة الماضي، وقائمة على ثقافة الوعظ وليس على ثقافة الفكر. ودون تحرير المجتمعات من ذلك النزوع المدمّر للذات يتعذر عليها الاعتراف بالفردية والحرية والمشاركة والمسؤولية، وظنّي بأنه من المحال لها أن تندرج في سلّم التمدّن الاجتماعي والسياسي والثقافي.
إذا، ما هو حال المجتمعات التأثيمية في ظل الحداثة الكونية؟ من الصحيح أن الحداثة خلخلت جزءا من العلاقات التقليدية، وبه استبدلت نظاما مغايرا يقوم على التعاقد الاجتماعي وحرية الرأي والاعتقاد، ولكنّها لم تنجز وعدها كاملا في مجتمعات ظل هاجسها الارتماء في أحضان الماضي، وقد عرّف هيجل الحداثة بأنّها تغيير نمط العلاقات التقليدية في المجتمع. غير أنّ الكلام عن الحداثة في المجتمعات التأثيمية ينطوي على مفارقة؛ لأنها متّصلة بتطلّعات حالمة بالتحديث من جهة، وإخفاقات في الواقع من جهة أخرى، فكثير منها لم يطوّر مفهوما خاصا بحداثته؛ بل لم تراكم معرفة نقدية تمكّنها من الاقتراب إلى خيار الحداثة، الحداثة كمشروع لتغير البنى التقليدية في المجتمع والأفكار، ومازال النسق المهيمن في علاقاتها الاجتماعية نسقا إقطاعيا – أبويا يقوم على الطاعة والخضوع، ويحكمه التراتب الفئوي والطبقي والجنسي والمذهبي. تقوم الحداثة الاجتماعية بتفكيك العلاقات التقليدية المعيقة للتطور، وبها تستبدل ضروبا مختلفة من العلاقات القائمة على التكافؤ والشراكة، وليس التمايز والتراتب والتفاضل، فتدفع عامة الناس إلى منطقة مشتركة مفتوحة على الاختيارات كلها، ولا ترمي بهم خلف الأسوار العرقية والعقائدية والمذهبية والقبلية والجنسية التي تحول دون التواصل والتفاعل.
ليس من الخطأ القول بأنّ كثيرا من تعثرات المجتمعات التأثيمية سببه الرغبة في مطابقة الماضي والامتثال لشروطه التأويلية، ولكنّ شطرا كبيرا من التعثرات نتج عن الآثار الفادحة للمركزية الغربية وللتجربة الاستعمارية، فقد أقام الفكر الغربي تعارضا بين المجتمعات وبموجبه جرى إقرار التناقض الآتي: الغربيون يتَّسمون بميل فطري لممارسة الحرية، فيما يستمرئ الشرقيون الاستعباد؛ فاستقامت سياسات تربوية وثقافية دعمت هذا التصوّر، وفرضت فكرة السموّ الغربي نفسها في العالم نتيجة للتجربة الاستعمارية، فأمسى الخطّ الغربي للتقدّم نموذجا ينبغي أن يُحتذى في كلّ، وحيثما وصل الغربيون أعلنوا أنّ هدفهم إدراج العالم الخامل في سياق التاريخ الإنساني الحيوي. وترتّبت علاقات الغرب بغيره من الحواضر في ضوء علاقة جديدة، هي علاقة المتبوع بالتابع، تعني التبعيَّة تفّوق طرف على آخر، أي تنظم العلاقات بناء على تراتبية تحجب معرفة الآخر، بقدر ما تحجب معرفة الذات عن حقيقتها.
وينبغي الاعتراف بأن الاستعمار الغربي نجح في تفكيك الشبكة الرمزيّة من المعاني والتخيّلات والأخلاقيّات للجماعات الأصليّة، وأحلّ معها بالقوّة العسكريّة أو السياسيّة أو الاقتصاديّة أو بالتعليم الاستعماريّ شبكة مختلفة من المعاني حملها معه من وراء البحار، وحينما استقام الأمر للقوى الاستعماريّة وصمت المجتمعات الأصليّة بالهمجيّة ورسمت لها صورة سلبيّة. ولكي تنخرط في مسار التاريخ العالميّ، فيلزمها الاندراج في سياق الثقافة الغربية، وتبنّي ما تقدّمه من أفكار وتصوّرات ومناهج، وطبقًا لقاعدة التبعيًة، فلا يجوز الابتكار، بل تنبغي المحاكاة، وعلى هذا نشأت مطابقة أخرى غايتها محاكاة النموذج الغربي، تقف على النقيض من المطابقة الهادفة إلى محاكاة النموذج الموروث، وبسبب الانجذاب المتزامن إلى تركة الماضي من طرف، والانشداد إلى المعطيات الغربية من طرف آخر، ارتسمت معالم “مطابقة” جماعية كاملة الأركان لم تتح لظهور خيار “الاختلاف” الفردي عن هذا وذاك، ولا يراد بـ”الاختلاف”، بأي معنى من المعاني، تحقيق قطيعة عنهما، بل الشروع في بناء معرفة بالواقع لا تقطع صلتها بهما غير أنها تنأى بنفسها عن المحاكاة والاستنساخ، وهذه الغاية المنشودة من “الاختلاف” الذي يتطلّع إلى المساهمة في خضّ ركائز ثقافة “المطابقة”.
وإذا كانت الظاهرة الاستعمارية ظاهرة سياسية عابرة للحدود فالعولمة ظاهرة عابرة للثقافات، فقد صار من المؤكّد أن المركزية الغربية اصطنعت مفهوم العولمة الذي يهدف إلى بناء عالم يستجيب لتوقّعاتها ويوافق مصالحها ويشبع حاجاتها، عالم تحلُّ فيه وحدة القيم والغايات والرؤى والأهداف محل التشتت والتمزق والفرقة، من أجل السيطرة عليه بالقوّة العسكرية أو بالتبعية الاقتصادية، وقد اختزلت هذه النزعة العالمَ إلى مفهوم سياسي بدل أن تراه تشكيلا من القوى والإرادات والانتماءات والثقافات والتطّلعات، وزعزت ثقة الفرد بنفسه حينما اقترحت عليه نوعا من العدمية.
ومعلوم بأنّ وحدة افتراضية للعالم لا تأخذ في حسبانها التنوّع الإنساني سينتج عنها القول المتشدّد بالهويات الدينية، والثقافية، والعرقية، وهو ما يمور به العالم في مطلع الألفية الثالثة؛ ذلك أنّ العولمة بتعميمها النموذج الغربي على مستوى العالم، ومحاولة استئصال الانتماءات الأصلية، أوقدت شرارة التفرّد الأعمى في صوغ الخيارات التي يحتاجها الإنسان في حياته؛ فبسط نموذج ثقافي بالقوة لم يؤدّ إلى حلّ المشكلات الخاصة بالهوية والانتماء، بل تسبّب في ظهور أفكار متطرّفة دفعت بمفاهيم جديدة حول نقاء الأصل وصفاء الهوية، فحركات التطرّف الديني والعرقي انبثقت من وسط هذه التصورات التي أُرغمت المجتمعات التقليدية عليها، وازدهر أمرها بذريعة صون الذات من الذوبان في عالم هلامي سائل لا هوية له.
ما الذي نتج عن تداخل النماذج الثقافية المنبثقة من كهوف الماضي بالنماذج المستعارة من الآخر، ومعظمها وصل بالقوة العسكرية، نتج، في تقديري، تشويه صريح لمفهوم الفردية وتعطيل لسيرورة التمدّن الحقيقي. ولهذا وجدت النخبة الثقافية نفسها عاجزة عن استقبال هذه المؤثرات استقبالا نقديا يجردها من غلوائها، ويخفض من تأثيراتها السلبية، ويقترح بدائل نافعة، وإلى ذلك فإنّ النخبة الثقافية العربية التي استأثرت ببعض مواقع المسؤولية في الحياة الاجتماعية منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر لم تسهم جدّيا في نقد المفاهيم الأساسية السائدة في المجتمع، كمفهوم السلطة والحرية والحقوق وهيمنة الذكورة، ولجأت إلى ممارسات متواطئة مغلّفة بشعارات تنتج باستمرار نسقا متماثلا من السعار الأيديولوجي الذي لا يعالج القضايا الجوهرية، ولكنه يوهم بذلك، وغالبا ما تفيّأت ظلّ السلطان في قيلولة مُخدّرة طالت أكثر بكثير ما ينبغي لها، ويصحّ القول بأنها نأت بنفسها عن معالجة هذه القضايا الجوهرية.
لم تدرك النخبة الثقافية أهمية دورها، ولم تمارس نقد ركائز التخلّف، ولم يتعرّض نسيج المجتمع التقليدي للتحليل والتشريح والنقد، فنشأت مخاوف الاقتراب إلى هذا الموضوع الذي يكاد يعتبره الجميع قيما مقدسة لا يصح نقدها. والحال، فما من مسافة تفصل المثقف العربي عن شيء آخر أبعد من المسافة التي تفصله عن مجتمعه، وحـتى لو ادّعى الاقتراب إليه فهو اقتراب محكوم بدرجة عالية من سوء التفاهم وسوء الظن، وهذا الوضع هو الذي قاد، وبصورة لا تقبل اللبس، إلى نبذ المجتمع للمثقف، وتجريده من دوره الفاعل في وسطه الاجتماعي؛ فأقصى ما قام هو وصف بعض الظواهر الاجتماعية، لكنه لم يجرؤ على نقد شيء، فبقي المجتمع راكدا، وخيرة التحليلات الفكرية والأنثروبولوجية والتاريخية والاجتماعية والأدبية المعتمدة في الأوساط الأكاديمية والتربوية قام بها دارسون غربيون لمجتمعنا وثقافتنا وديننا وتقاليدنا وأدبنا، وهي تحليلات تعكس رؤيتهم ومرجعياتهم التي يصدرون عنها أكثر ما تعبّر عن حقيقة الموضوعات التي درستها، وكثيرا ما جرى تعسّف في إخضاع المادة المدروسة لتوافق الخلفيات الثقافية التي توجههم، وذلك يفضح قصور النخبة الثقافية، فسؤال الحداثة، وهو الذي يخلع على الإنسان دوره الجديد، ضائع في خضّم التوترات العرقية والمذهبية، ومفرَّغ من المعنى في عالم مضى بتحديث شأنه، وترك المجتمعات التأثيمية قابعة في مكانها ليس لها القدرة على ادراك حالها الراكدة، والاعتراف بحرية أفرادها.