سؤال الذات
أوّل ما يتبادر إلى ذهني ساعة نتحدّث عن الفردانيّة هي رواية “نهاية رجلٍ شجاع” لحنا مينه، فبدءاً من عنوانها ودلالات صفة الشجاعة الواسعة وصولاً إلى لحظة انتحار “مفيد”، تندرجُ هذه الرواية ضمن حالة الفرد الذي يسعى للانعتاق من مجتمعٍ لا يشبهه، فمفيد ابن بلدة “الخراب” البانياسية الذي يجد نفسه مضطهداً من قبل والده وأستاذ مدرسة القرية وأبنائها يقوم بالفعلة التي تقلب حياته رأساً على عقب، والمقصود هنا هو قطعه لذيل الحمار دون أن يجد مبرراً لذلك، هو ليس بحاجة لتبرير بقدر ما يرغب في تصدير نقمته على الحياة التي يعيشها مرغماً، مما يدفعه بعد ذلك لمغادرة القرية دون رجعة منطلقاً نحو حياته الخاصة في بانياس واللاذقية، وتتمة الرواية معروفة.
بيد أنّ الخاتمة كانت محزنة بحق، فظاهرة “مفيد الوحش” لا تختلف أبداً عن العديد من الأفراد الذين يقرّرون بإرادتهم أن يخرجوا عن ثقافة القطيع صانعين عالمهم الخاص، هذه الظاهرة – أي الفردانية – التي كانت إرهاصاتها القديمة الأولى مع فلسفة الكارما الهندية وتعاليم سقراط وصولاً إلى فرز الفردية لحالة اجتماعية كاملة مع الفلاسفة الوجوديين (أبرزهم هايدغر وسارتر)، لم تجد في عالمنا العربي بعد أن تخلق لنفسها ذلك الحيّز الكبير في حياة الفرد، ونهاية رجل شجاع هي نهاية كل مغامرٍ يطمح لتلك الاستقلاليّة التامة عن العالم المحيط به، وعلى الرغم من أنّ الثقافة العربية اليوم تحاول جاهدةً العمل على خلق الذات العربية المستقلّة، غير أنّ معظم المثقفين العرب إن لم نقل غالبيّتهم، ورغم ما يتردّد على مسامع الناس ونكاد نصدّقه بأنّهم فرديون، غير أنّ هامش فرديّتهم لا زال ضيّقاً ولا زالت ثقافة القطيع الشموليّة تنطلي عليهم لطالما الفشل بتثبيت مركزية الفرد لا زال يواجه هذا الفشل.
قد يتساءل البعض عن السبب الرئيس الذي يمكننا أن نرد له هذا الفشل، سيذهب البعض لوضع سريان ثقافة القطيع في نفس الثقافة العربية ومعارضتها للذات الفردية بل ونبذ دعاتها، وسيتهم البعض الأنظمة العربية التي كان من أعمدة قيامها الارتكاز على أساساتٍ قبليّة طائفيّةٍ عسكريّةٍ شموليّة ساهمت في تدجين العقل البشري لصالح غاياتها ومصالحها، بل ورغم بعض مظاهرها المنتمية لعالم الحداثة غير أنها لم تأخذ من الحداثة سوى ظاهرها المبرقع متناسيةً أهميّة الفردانية في تقدّم المجتمع ككل، عملياً يمكن أن نعزو هذا الفشل لهذين السببين معاً، فكلاهما مكمّل للآخر، فحتماً لن تتمكّن الأنظمة العربية الحاكمة أن تفرض رؤاها على الأفراد لولا العقلية السائدة للمجتمعات التي عانت طويلاً فترة الحكم العثماني من سياسة التجهيل وإطفاء الثقافة العربية وإهمالها لصالح الثقافة العثمانية الحاكمة، حتى عصر النهضة لم يتمكن فيه المثقف العربي من انتشال مجتمعه من قاع التخلّف هذا بفعل الخضات السياسية والاجتماعية التي سبقت قيام الحرب العالمية الأولى.
في ستينات القرن الماضي شكّلت بيروت مركزاً استقطابياً للثقافة العربية حتى أن البعض وصفها بـ”كعبة المثقفين”، ولعلّ هذا التوجّه الثقافي باتجاه العاصمة اللبنانية مردّه، بشكلٍ غير مباشر، الهرب من الأنظمة العربية القامعة لحرية التفكير والمبادرة الفردية في وقت كانت بيروت تشهد انفتاحاً غير مسبوق على الحريات الثقافية والصحافية والفكرية والأدبية، ولولا ضربة الحرب الأهلية التي خرّبت الحجر وقتلت البشر لكان الأمر مختلفا اليوم.
ما تغيّر اليوم في عالمنا هو سطوة العولمة وأجهزتها الأكثر فاعليّة ألا وهي وسائل التواصل الاجتماعي، والتي عززت هامش الفردانية في نفس الفرد وأشعرته بقيمته وفاعليته، غير أن عدم نشوء أرض خصبة لتنميّة الفكر الفردي في النفس أدّى إلى ازدواجيّة حادة بين حركة تسير نحو انتصار الذات في سلوكياتها وفكرها، وبين حركة رجعيّة لا تزال تؤمن بالثقافة الجمعيّة التي تبتلع الفرد تحت مسمّى الجماعة، فكان للمثقف نصيبه من معايشة هذا الصراع الحاد، وهنا كان دوره في نقل رسالته كنوع من التبشير، غير أنّه ليس بقادرٍ كفرد لنفسه أن يعمل على توعية أفراد المجتمع وإرشادهم، ومع غياب مشروع ثقافي أساسي لأجل هذه الغاية وانهيار مشاريع الفكر السياسي الاجتماعي من قومية وماركسية وليبرالية بما تؤسس بداخلها من نقلٍ للفرد إلى مراحل أخرى من التفكير تحمل جوانب أكثر فردانية، كذلك مع تمدّد العولمة وسيطرتها شبه المطلقة على عالم اليوم، كان لاستمرار النظام الأبوي البطريركي بيئة خصبة تمثّلت بما أسماه ألبرت حوراني بـ”المشرقية” (Levantine)، أي العيش داخل عالمين دون انتماءٍ لأيّ واحدٍ منهما، كأن تستورد مفاهيم وأشكالا خارجية دون تملّكها حقاً، وبفعل سلّم القيم الخاصة بهذه المجتمعات تجنح نحو التقليد دون الإبداع، حتى بتقليدها لا تحمل شيئاً من الحرفية في ذلك.
واليوم، ومع سريان الكارثة الوبائية في عالمنا، وكذلك ما يطرأ على العالم من تغييرات سياسية اجتماعية واقتصادية وحتى أخلاقية أدت لفوضى عارمة أخذتنا نحو المزيد من العتمة دون أن نصل إلى طرفِ خيطٍ يقودنا للخلاص، لا بد لنا كأفرادٍ أن نراجع مجدداً آراء مفكرينا ومؤلفاتهم، أمثال علي الوردي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وغيرهم، وقراءتها بعمق والعودة إلى نقد هذه المؤلفات وتمحيصها بل وإعادة صياغتها بشكلٍ يتلاءم مع عالم اليوم بل ومع عالم الغد أيضاً، وهنا تقع المسؤولية على الفرد العربي العادي قبل المثقف الذي ينبغي عليه التصالح مع القراءة ووضعها ضمن برنامجه اليومي والأسبوعي والشهري، وأيضاً على المثقفين بهذه الحالة أن يفعلوا هذا النشاط بالاستفادة من مجالات العولمة، مثلاً بتوزيع آراء هؤلاء ومؤلفاتهم بشكلٍ إلكتروني على العامة وإقامة محاضرات دورية متنقلة حول كل النقاط والمشاريع التي من شأنها أن تجعل للفرد العربي استقلاليّته الذاتية ضمن مجتمعه ودفعه نحو الابتكار والتفكير بدلاً من تبنّي الأفكار المعلبة والإيمان بها؛ مما يجعل “رجل حنا مينة الشجاع” مستريحا ومطمئنّا رغم ألم الرصاصة في رأسه بأنّه مات فأتى من بعده “رجالات شجعان”.