الإنساني قبل الديني
من يتنقل بين البلدان ويتعرف على حضارات مختلفة وأجناس متعددة يعرف حينها أمرًا بالغ الأهمية، ألا وهو ضرورة تطبيق مبدأ الإنسانية في هذا العالم المختلف والواسع.
في إحدى اجتماعات الجامعة ألقيت كلمة أمام مجموعة من أساتذة الجامعة وطلابها، قلت فيها “إن العالم يفتقد إلى مبدأ الإنسانية، العالم ليس إنسانيًا البتة، لهذا السبب نرى مجازر كل يوم، والصحف تضجّ بأخبار العنصرية والعرقية، فلا يمر يوم واحد دون أن نسمع برجل أبيض اعتدى على أسود، وشخص من تلك الديانة يهين آخر من ديانة أخرى، وهلم جرا”.
ما إن انتهيت من الكلمة حتى أتاني صديقي المسلم يخبرني أني أخطأت عندما قلت إن العالم يحتاج إلى تطبيق مبدأ الإنسانية، فكان عليّ أن أقول “إن هذا العالم يحتاج إلى تطبيق الإسلام” وبدأ يحدثني عن الإسلام الذي يقدس الإنسانية أكثر من أيّ نظام آخر في هذا العالم، وبدأ يسرد قصص الأجداد، وكيف كانوا يطبقون الإسلام على الجميع. ما أردت أن أفسد عليه نشوته في الحديث، فتركته حتى انتهى ثم قلت «هذا هو التمييز العنصري الذي يعاني منه العالم والذي قصدته في كلمتي، الجميع يريد جماعته أن تحكم ويرى أنه على حق، فالأبيض لا يطيق رؤية السود لأن له الأفضلية، والمسلمون لا يطيقون الأنظمة العلمانية والمتحررة لأنها ترى أنها تمثل الدين الصحيح، وتلك الديانة تريد أن تحكم لأن لها الحق وهكذا، أما يليق بالإنسان أن يطبق مبدأ اُقتِرن باسمه؟ أما آن الأوان أن يعترف الإنسان باسمه كاملًا لا مُجزأً؟”. حاول صديقي الدفاع عن الإسلام لكني ما أردت أن نستمر في النقاش؛ لأني أحسست أنه يكرر الحديث نفسه ويعيد الأدلة نفسها، فاضطررت لتغييّر مجرى النقاش، وذهبنا.
في الخامس والعشرين من مايو استيقظنا على حادثة مقتل جورج فلويد، ظللنا نناقش هذه القضية في العمل طيلة اليوم، الجميع كان يتساءل بحزن: ما هذا الإجرام غير الإنساني الذي أقدم عليه “ديريك تشوفين” بقتله جورج فلويد بتلك الطريقة المؤلمة؟
في الحقيقة تلك الطريقة ليست جديدة على هذا العالم، بل عادية جدًا؛ وسبب الانفجار الثوري الذي رأيناه في الولايات المتحدة الأميركية بعد مقتل فلويد ليس ما هو إلا نتيجةً لتسليط أحدهم للأضواء على جريمة فلويد ونقلها للشارع، سواءً كان ذلك بقصد أو مصادفة، ولو فكّرنا في هذه الحادثة ألا يحق لنا أن نتساءل: من لأولئك الذين لا تصل إليهم الكاميرات حتى يثور الناس لأجلهم عندما يضطهدون؟ من لأولئك الذين يُقتلون كل يوم بأبشع الطرق، وتطبق عليهم أسوأ أنواع المضايقات العنصرية في هذا العالم! ألا يحق لكل إنسان في هذا العالم أن يعيش كما يحلو له دون أن يتضايق الآخرون من لون جلده أو ديانته أو عرقه. هل أصبح لون الجلد عيبًا، والديانة التي نعتنقها بطاقة شخصية لتحدد للطرف الآخر، هل يتصرف معنا بهذه الطريقة أو بتلك؟ إنه لعيبٌ في حق الإنسان أن يصل إلى هذه الدرجة من الدناءة في التصرف مع ابن جلده.
قبل سنتين تقريبًا حضرت الفيلم الأميركي «Get out» ، والذي فيه من الرعب العنصري ما يكفي لفهمنا كيف يتعامل العنصريون في هذا العالم مع البقية، حيث أن الفيلم يحكي قصة الفتى الأسمر «كريس» وهو يزور منزل عائلة حبيبته البيضاء «روز». يوجد هذا البيت منعزلاً وسط الغابات، فبعد أن طمأنته حبيبته أن عائلته ليست عنصرية يقرر زيارة العائلة، ليكتشف في نهاية المطاف أن العائلة تدّعي أنها ليست عنصرية لغرض جلب السود فقط واستخدام التنويم المغناطيسي معهم ليرضخوا لأوامرهم وسلبهم أعضاءهم البشرية عند الحاجة إلى ذلك. هنا العائلة تحب السود في الظاهر لكنها تبطن لهم الكره والموت، والدليل أنها تستعبدهم وتنتشل منهم أعضاءهم البشرية التي هي أغلى ما لديهم. وهنا يكمن خطورة تجاهل مبدأ الإنسانية.
أنيس منصور في كتابة «حول العالم في 200 يوم»، والذي أظهر فيه تعدد الملل والديانات والأجناس البشرية، كان هذا تصريحًا منه من خلال المواقف التي عاشها في الهند بضرورة تطبيق مبدأ الإنسانية قبل أيّ دين أو ملة أو عرق.
لقد كان محقًا، فنحن نعيش في عالم احتضن أكثر من عشرة آلاف ديانة على مرّ التاريخ، 150 ديانة بلغ عدد المؤمنين بكل منها أكثر من مليون فرد، وقد رصدت الإحصائيات حوالي 4200 ديانة وعقيدة، ما بين ملل وفرق وطوائف وكنائس ومذاهب وعشائر، فكيف لعرق واحد أو ديانة واحدة أن ترغم كل هذا الكم الهائل من الاختلاف على اتباع دين واحد أو ملة واحدة؟ مستحيل. إذن لن نجد مبدأ أفضل من مبدأ الإنسانية البتة، فالجميع وإن أظهروا تسامحهم إلا أن التمييز العنصري سيظل موجودًا وحاضرًا.
لو تعمقنا أكثر لوجدنا أن التمييز العنصري موجود حتى داخل الديانة الواحدة والعرق الواحد، ففي الإسلام يرون من لهم صلة بعائلة النبوة أن لهم الحق في البلاد والعباد أكثر من غيرهم، فهم السادة والبقية أناس عاديون، أو ربما يعتبرونهم عبيدًا لهم، فهذا لا يفرق بالنسبة إليهم. في المسيحية كذلك البروتستانت يرون أنهم على الطريق الصحيح الذي لا بد للجميع سلكه، بينما الكاثوليك يرون أنفسهم أنهم على الطريق المستقيم أيضًا، ولا تنتهي الكثير من الأمور بالاعتقاد فقط، فحرب الثلاثين عامًا التي صار ضحيتها أكثر من 8 مليون بني آدم خير دليل على أن العنصرية لن تزول من هذا العالم ما لم يطبِّق مبدأ الإنسانية.
إذن فنحن بحاجة ماسّة إلى تطبيق الإنسانية في هذا العالم وتقديمها على ديننا وعرقنا، ولا بد أن نعرف أنه لكل إنسان في هذا العالم الحرية في اتباع ما يريد، لكن ليس له الحق أن يكفر بالإنسانية؛ لأن العالم مليء بكل ما هو مختلف ومتضاد، وفيه من الأعراق والأجناس والملل والعشائر ما يجبرنا على قول «لا يمكن لدين واحد أن يحكم كل هذا، وليس لنا خيار سوى تطبيق مبدأ الإنسانية». لماذا نخاف من تطبيق هذا المبدأ الرائع؟ أنخاف على الدين الذي نتبعه أم على الملة التي ننتسب إليها؟ لم الخوف ما دامت الإنسانية ستحفظ لنا ديننا وكرامتنا ليعيش الواحد منا إنسانًا فحسب يتبادل الحب مع الآخرين كونهم أناسا أيضا.