الذات التائهة وغواية المركز
شهد الواقع العربي المعاصر تحولات كثيرة، كانت نتائجها في الغالب سلبية انتهت به إلى أن يكون واقعاً مضطرباً ومتشرذماً بمختلف المؤثرات السريعة في معطياتها والتأثيرات الخطيرة في توصلاتها والمتضاربة فيما بينها، تاركة آثارها شروخاً وعلاماتٍ في الجسد العربي المكدود. وفي مقدمة من طاله التأثير وبشكل خطير الأنتلجنسيا العربية التي صارت أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الاستقطاب انجذاباً للمنظومة البطريركية الرسمية بقوة علاقاتها ورسوخها، وإما الاستقلال حياداً عن المنظومة ونماذجها منحازةً إلى الغالبية المهمشة والمحرومة. وليس الخيار سوى دوافع ومهيئات واستعدادات موجودة مسبقاً في الأفراد والجماعات مثقفين وأنصاف مثقفين ومتعلمين وعلى وفقها يستجيب المرء إلى أن يكون في أحد الموقعين: المركز أو الهامش.
إذا كان من حسنات اختيار المثقف المركز أنه سيغدو تحت الأضواء معروفاً ومهتماً به وبعطاءاته؛ فإنّ هناك تنازلات لا مناص له من أن يقدمها وهي كثيرة غير أن أخطرها ضميره وحريته. أما حسنات اختيار الهامش فهي أنّ المثقف وإن بقي في الظل غير معروفٍ ولا مؤثر، فإنه سيكسب نفسه متمتعاً بالنزاهة والاستقلالية.
ومن جملة التساؤلات الجوهرية التي تفرض نفسها هنا بناء على طبيعة الاختيار أعلاه هي: أيّ المثقفين أكثر تأثيرا في المجتمع مثقف السلطة أم المثقف المستقل؟ وإذا كان هذا الأخير في الهامش مغلوباً على أمره، فهل يعني هذا أن مثقف السلطة الذي هو في لب المركز سيكون قادراً على تعديل كفة الحياة مثقِفاً السياسة ورادما ثغرات السلطة ومهيئاً الأرضية للتوزيع العادل للثروة وتطبيق القوانين موجهاً الأفراد نحو مصالحهم بما يحقق للمجموع الرفاهية المعيشية؟
ومن زاوية مخالفة كيف يستطيع المثقف المستقل المجرد من أيّ سلطة أن يكون مؤثراً في العموم أفراداً وجماعاتٍ مثقفين وغير مثقفين؟ أم أن هناك من يتحكم بالواقع الحياتي ومن ضمنه المثقفون سواء كانوا سلطويين أوغير سلطويين؟ هل تحتاج الثقافة إلى سلطة سياسة كي تستقطب الأفراد والجماعات على اختلاف توجهاتها ومشاربها؟ أو أن السلطة السياسية بحاجة إلى الثقافة كي تحتوي المثقفين المستقلين ليعملوا تحت مظلتها بحرية واستقلالية مؤدين دورهم كفواعل ثقافية بلا شروط أو قيود؟ وما دامت الثقافة هرمية وبهوية سياسية فهل يعني ذلك أننا لن نشهد تغييراً في نظرتها الكلاسيكية إلى المجموع بمعنى أنها في كل حين تتمادى أكثر في جعل المجموع أرضية عليها تمارس فعلها المؤثر سياسياً وسلطوياً كأن تفرض معاييرها قسراً عليه أو توجهه الوجهة التي فيها مصلحة القلة المتسلطة؟
ولماذا يظل التحجر والرضوخ هما سر خنوع المثقف العربي؟ وإذا كان التحجر يفرض فرضاً بقصد الاقتداء والاحتذاء، فكيف بعد ذلك يمكن للفرد أن ينفض عنه الجمود وينقلب على كل فرض وقسر؟ ولماذا المجموع العربي سائر دوماً في طريق مرسوم ومنمذج؟ أهو الخوف من ارتياد مسارات جديدة أم هي قوة النماذج ورسوخها التي معها لا يستطيع العربي فرداً أو جماعةً التنصل منها؟
لا خلاف أن الدراسات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تناولت الواقع العربي كثيرة ومتنوعة وهي تحاول معرفة أمراضه. ولعل بعض تلك الدراسات وضعت الإصبع على موضع الجرح العربي، محددة عوامل الفرقة المجتمعية ودواعي التناحر الثقافي، مبتغية الوقوف على الأسباب التي معها ما عادت وحدة الدم واللسان والدين والتاريخ والمصير تفعل فعلها القومي والإنساني في الذات العربية.
من المؤكد واقعياً ومبدئياً أن المعضلات التي يواجهها واقعنا المعاصر أساسها ومرتكزها هو الإنسان، وليس من السهل حل أيّ معضلة واقعية أو على الأقل مواجهتها من دون غوص حقيقي في دواخل الفرد العربي لغرض الكشف عن سر أزمة الذات العربية ومعرفة حقيقة كنهها.
وليس مثل المثقف شخصاً يمكنه التمثيل على هذه الذات، وأعني بالمثقف من كان له وعي اجتماعي ذاتي، وما عدا ذلك ليس مهماً أن يكون متعلماً أو نصف متعلم أو يكون متخصصاً أو غير متخصص مستقلاً أو غير مستقل، إذ المهم هو أن تتجلى صورة المجتمع في أقواله وأفعاله وتتوضح الإشكاليات من خلال تحليلاته وتبين الحقيقة أو بعضها في وجهات نظره التي فيها يشخص إيجابيات الواقع وسلبياته. وسنقف فيما سيأتي عند بعض تلك المعضلات.
المعضلة الأولى: الثقافة سلطة والمثقف خارجها
قد لا نندهش إذا علمنا أنّ الثقافة العربية بكل ما لديها من تاريخ نهضوي وامتداد تنويري تنطوي على مفارقة الانشطار بين مركز وهامش، وليست هذه المفارقة وليدة اليوم؛ بل هي نتاج فعل نهضوي بدأت بممارسته في مطلع القرن العشرين ثم سرعان ما تحوّل إلى منظومة ثقافية رسمية عامة كابحة وبطريركية، هذا إلى جانب أنها تجسدت قبل ذلك كله كسلطة متخيلة تفرض تأثيرها وتمارس صلاحياتها لا على الوعي الفكري حسب؛ بل على المخيال أيضا.
ونعني بالسلطة المتخيلة القوة الثقافية التي تتحكم في الأفراد والجماعات بصورة لا واعية لكنها فاعلة، وتغور جينالوجيا في العقل الباطن الجمعي كأنماط سيكولوجية بالمفهوم اليونغي ونماذج تعسفية بالمفهوم البورديوي. وهو ما يوطد هيمنتها على المجموع على اختلاف مكوناته وانتماءاته وكياناته وطوائفه وتحزباته.
والسمة الدالة والمرئية على وجود هذه السلطة هي النزعة البطريركية التي كلما كان المجتمع عميق التجذر في التاريخ وله امتداد جغرافي كبير كان الامتثال للبطريركية أكثر فاعلية وكان الانجذاب للمركزية أكثر قوة ورمزية.
بمعنى أن العلاقة بين السلطة المتخيلة والنزوع البطريركي هي علاقة استقرار وقوة، محصلتها الثبات والاستحواذ بفحولية التفوق وذكورية الاستعلاء اللتين بهما يتوسل إلى فرض التقليد والسير على المنوال خشية من التغيير واجتنابا لمفاجأته.
ومهما كان تاريخ المجتمع وأين كانت جغرافيته؛ فإن عدد المثقفين وغير المثقفين الخاضعين لهذه السلطة وذاك النزوع عادة ما يكون أقل بكثير من اللاخاضعين.. ومع ذلك تكون القلة هي صاحبة القوة بسبب ما يمنحها المركز من هيبة وفاعلية، هي صورة واقعية للسلطة المتخيلة.
وانطلاقا من فاعلية هذه السلطة التي تكتسب أهميتها من عاملية الجذب للعناصر المثقفة وغير المثقفة تتوكد لنا التراتبية المجتمعية التي فيها المركز هو قمة الهرم، والهامش قاعدته.
وخطورة هذه التراتبية لا تقتصر على الثقافة وحسب؛ بل تشمل المجتمع كله الذي غالبا ما يرتهن تطوره ويتوقف مصيره على مثقفي المركز الذين يتحدد دورهم في المحافظة على رسوخ المركز ثباتاً على ما هو قائم، ليكون التغيير مرهوناً بمثقفي الهامش الذين إذا اتحدوا وتحركوا كانوا قادرين على خلخلة القاعدة التي معها يتخلخل المركز، وتتضعضع نمطية بطريركيته فتتحرك سواكن العقل ويتغير الوعي ويسير المجتمع سيراً لا تتحكم فيه الأقلية بالأغلبية؛ بل العكس ستكون الأغلبية هي الموجهة لدفة المجتمع والمتحكمة بسياسة الأقلية، متحملة عبء التغيير بكل صعوباته ووزر ويلاته.
وهذا الاحتمال بالتغيير الثقافي انطلاقا من الهامش سيغدو قويا كلما بالغت البطريركية في إهمال الهامش قاصدة الإبقاء على حركة المجتمع التاريخية ثابتة في مكانها لتفعل النماذج الثقافية فعلها الراسخ في الحياة.
ومن أمثلة التغيير المنطلق من الهامش ما مرّ به الواقع العربي من ثورات قادتها الجماهير العربية من أجل التحرير والاستقلال خلال القرن الماضي، وعلى أثرها شهدت الحياة العربية تغييرات جذرية على مستوى السياسة والدفاع والتعليم والصحة والمرأة وغيرها بدءاً من مرحلة النهضة التي جاءت في مرحلة انتقالية من حكم إلى حكم مما جعل المثقفين قريبين من مركز الفكر والسياسة، فاستطاعوا “أن يلعبوا دورا أكثر فعالية في المجتمع من الدور الذي يلعبه المثقفون اليوم” (ينظر: مقدمات لدراسة المجتمع العربي، هشام شرابي، الدار المتحدة للنشر، لبنان، ط3، 1984، ص132)، إلى ما بعد نكسة حزيران التي فيها اندحر المركز والهامش معا ثم انزوى الهامش معزولا مع مرحلة التطبيع والعولمة في الربع الأخير من القرن العشرين ثم عاد الهامش إلى الواجهة بثورات سميت بالربيع العربي، لكنَّ بُعدَ مثقفي الهامش عن قيادة تلك الثورات جعل المركز يلعب دوراً كبيراً في إفشالها.
وعلى الرغم من أن النمطية واللاتغيير تبعتان من تبعات السياسة الكولونيالية التي بسببها ترسخت الصورة البطريركية في بلداننا العربية؛ فإن مرحلتنا الحالية تقتضي من المثقف الإفادة من أدبيات ما بعد الكولونيالية من أجل تغيير مجالات الحياة كلها من أنماط التفكير والممارسة إلى أساليب التداول الخطابي للغة وطرائق البناء، فتختفي تلك الصورة السلبية للمثقف الخانع والنرجسي النهَّاز للفرص والمتذبذب والفوضوي الذي يعلق على شماعة الواقع أخطاءه مبررا انكساراته وإخفاقاته.
بيد أن المؤكد تماما أن ثقافة المركز البطريركية ستظل لها السيادة وهي تمارس دورها الاتباعي للسياسة الاستعمارية. وهذه التبعية هي دليل تباعد عن الحركة العالمية التي أخذت تتمرد بقوة على أيّ تجذر أبويّ يريد مصادرة الآخر أو إلغاءه. وما من سبيل أمام الفرد العربي لتجاوز الاتباعية والتخلص من سلطوية الوصاية أو على الأقل زحزحة رسوخها إلا بالثقافة بوصفها المادة الأولية التي منها تتشكل البنية المجتمعية أصلا وعليها يتوقف نماء المجتمع وتطوره.
وبسبب هذه الأهمية التي تنطوي عليها الفاعلية الثقافية تغدو خطورتها على المركز ومنظومته البطريركية كبيرة، لذا تضع في طريق المثقفين المغريات التي بها تستقطبهم لصالحها مستحوذة على قدراتهم بينما تضع العراقيل أمام الرافضين منهم محاولة كبح لا نمطيتهم وردع دوافع التغيير داخلهم وبطرق شتى منها تجاهل عطاءاتهم النوعية في مقابل الاهتمام بغيرهم ممن لا يملكون ما عند أولئك المثقفين من الوعي والمعرفية أو بتغييب أدوارهم المجتمعية ومعاداة توجهاتهم اللاتقليدية أو بتسويف مشاريعهم والتنصل عن دعمها. وقد يصل الأمر إلى درجة تسفيه جهود هؤلاء إما بتخوينهم أو بفرض العقوبات عليهم أو بالمطاردة والمقاضاة وربما التصفية.
وشتان ما بين فعل ثقافي لا نمطي، الغاية منه التغيير وبين فعل منمذج معتاد، الغاية منه الإبقاء على واقع الحال كما هو جموداً وتحجراً. ومن هنا يتوكد لنا أن ركود الواقع العربي ليس سببه العموم الشعبي الذي لا حول له ولا قوة؛ وإنما السبب منظومته المركزية وأمراضها المزمنة المتمثلة في التفرد والتسلط والاستحواذ.
ولا يغيب عن بالنا أن البطريركية المهيمنة على المجتمع بالعموم هي التي تغيِّب باستمرار ماتريتكيته/أموميته التي هي عادة ما تتجسد في الفئات المحرومة كالنساء والأطفال والعجزة وأصحاب العاهات وغيرهم الذين يشكلون قاعدة جماهيرية غالبة وكبيرة وإن كان بشكل شعبي وغير رسمي.
وهذا يدل على أن الهامش يمتلك ما يمتلكه المركز من الأهلية لكن هذه الأهلية معطلة ومهملة، الأمر الذي يقتضي توفر عناصر مثقفة فاعلة تقدح في الهامش الشعلة التي بها تستثمر طاقاته ومواهبه. والأنتلجنسيا هي وحدها المؤهلة لأن تحول وعيها إلى شرارة تقدح في الجماهير جذوة الاتقاد فتقوم بفعلها الحقيقي في التغيير متقدمة إلى الأمام.
وبخلاف هذا التصور تكون نظرية “التغيير المدمر” هي المتحققة، وهو ما تتبعه هشام شرابي في دراسة المجتمع العربي عاداً السبب كامنا في الأبوية المستحدثة (الأبوية المستحدثة وإشكالية تخلف المجتمع العربي، هشام شرابي، ترجمة محمود شريح، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1988. وقد أبدل المترجم مفردة التدمير في العنوان الرئيس بمفردة التخلف).
ولا يعني وصف الأبوية بالمستحدثة أنها أبوية ترفض الرسوخ وتبحث عن اللانمطية؛ بل هي أبوية النظام المتجذر رسوخاً ونمطية، وهو ما قامت عليه أطروحة شرابي في شرح التناقض في البنية المجتمعية العربية وهيكلية التراتب في العلاقات الحياتية الداخلية بدءاً من أعلى هرم تمثله السلطة السياسة وهي الأبوية إلى أصغر وحدة تتشكل منها القاعدة التي هي الأسرة.
المعضلة الثانية: الثقافة تعسُّفاً والمثقف معنَّفاً
نعني بالنموذج كل تشكل اجتماعي هو بمثابة أعراف أو تقاليد أو مواضعات تتجذر في الوعي عبر الأجيال حتى ترسخ بعلاقات قوة بها يتمكن المركز من التحكم التاريخي بالمجتمع. ولا يمكن تغيير نموذج ما أو استبداله إلا بنماذج تستطيع إثبات قوة رسوخها في الوعي.
والنماذج ليست دائما هي القانون كما أن السلطة ليست هي الدولة، بيد أن توطد نمطية هذه النماذج في المجتمع هي التي تجعل التغيير عسيراً والاستحداث بعيداً. وليس غريباً أن يكون الثبات عقبة أمام أي تغيير في المجتمعات ذات الحضارات الضاربة في القدم كالمجتمعات الشرقية بينما يكون التغيير سهلا في المجتمعات التي ليس لها امتداد بعيد في التاريخ كالمجتمع الغربي الذي يتقبل التغيير مستجيباً للتبدل متى ما طرأ.
ولقد وصف بورديو النموذج بالتعسف الثقافي كونه يجعل “البنى المجتمعية في المجتمع والفرد تعمل بصورة مستقلة عن وعي الأفراد والجماعات” (العنف الرمزي، ببير بورديو، ترجمة نظير جاهل، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1، 1994، ص 62).
من هنا ينشأ ما سماه “العنف الرمزي” الذي يقود “إلى مقاربة الوقائع الثقافية من وجهة تزامنية بحتة تقود إلى تجاهل كل ما تدين به هذه الوقائع للشروط الاجتماعية التي تحدد وجودها أي التي تحكم إنتاجها ومعاودة إنتاجها” (العنف الرمزي، ص 12).
ولأن للنموذج سلطة تعسف رمزية يغدو لا عقلانيا وهو يقف حجر عثرة أمام أي تغيير مجتمعي، وكلما كانت مهيئات النمذجة متحققة كانت طريقة رسوخ النماذج متقاربة. وطبيعي أن وجود النمذجة في مجتمع ما يعني وجود ثقافة غالبة بخضوعها للنموذج وثقافة مغلوبة بسبب تخليها عن ذاك النموذج. وبالتطبع الثقافي “الهابيتوس” (habitus) تتعايش الثقافتان عبر استعداد الثقافة المغلوبة للخضوع لقوة الثقافة الغالبة والمتحصل هو مزيد من نماذج التعسف الثقافي.
ويرى بورديو أن في التشكيل الاجتماعي للنماذج نسبين الأول نسب صلبي/الأب والثاني نسب رحمي/الأم (ينظر: العنف الرمزي، ص 8)، فيكون الفعل الثقافي متوزعاً بين مثقفين يتمتعون بعلاقات قوة بإتباعهم النماذج موالين لأبوية المنظومة الثقافية الرسمية وبين مثقفين بلا علاقات ولا نماذج مستقلين ينتمون إلى الامومية المحرومة التي لا منظومة لها تمثلها.
وطبيعي أن يكون المثقف المستقل مغموراً والمثقف الموالي مشهوراً، ولكن ليس شرطاً أن يكون المستقل المغمور بلا فاعلية والمشهور بفاعلية، وذلك تبعا لطبيعة تعامل كل منهما مع سلطة النموذج وعلاقات القوة. ويظل الأمل في التغيير المجتمعي معقوداً على ذلك الذي يتمكن من تحدي عسف النموذج الثقافي. والمثقف المستقل هو الأقدر على تغيير حاله وحال واقعه نافضا عنه التبعية والامتثال بما يمتلكه من الحرية والاستقلال اللذين بهما يكون في غنى عن أيّ نماذج ثقافية.. ومن نتائج النماذج التعسفية في ثقافتنا العربية:
- صار الفرد تابعاً وهو يحافظ على القديم الموروث ويحتذي الجديد المستورد.
- التذبذب والازدواج في تبعية الآخر ومعاداته.
- التطبيق أكثر من التنظير.
- التخوف من التطور.
- نرجسية الذات في تقاطعها مع المختلف.
- التسليم للأمور بلا علمية.
فهل يمكن لمجتمعاتنا العربية أن تتحرر من سلطة النماذج دافعة بمثقفيها مركزيين وهامشيين نحو التغيير موطدة فاعلية هذا التغيير في بنيتها الداخلية بدوام وسيرورة من دون أن يستحكم عليها عسف هذه النماذج الثقافية؟
أن تنازل المركز عن نماذجه يعني إحداث تغيير في طرائق تفكيرنا وأساليب إنتاجنا المعرفي وبعلاقات قوة جديدة، بها يتساوى المركز والهامش بتعددية وبلا مركزية وبعقلانية تتجه صوب التصالح التاريخي الذي ليس فيه منتصر ولا مهزوم.
واليوم أصبحت اللامركزية سمة المجتمعات المنفتحة التي تؤمن بالازدواج والتداخل في كل مجالاتها وبمختلف مكوناتها من الدولة إلى أصغر وحدة هي الأسرة فتكون علاقة الأب والأم بالأبناء علاقات تفاهم وليست قوة وبما يحفظ مصالح جميع أفراد الأسرة فلا يسترهب طرف هو الأب طرفا آخر هو الأم أو الأبناء بناتا أو بنين.
بينما تعمل علاقات القوة للنموذج الأبوي في المجتمعات المركزية ومنها المجتمع العربي بطريقة مهيمنة فتجذب إليها المثقف الراغب في الاستقطاب والولاء محصِّلا مقابل ذلك على الدعم والنفع والربح والنفوذ والجاه. ولا فرق بعد ذلك ولا أهمية إن هو تمادى في الولاء للنماذج إلى درجة التحجر وصار أصوليا. هذه الأصولية التي هي نوع من التعويض عن النقص والانكسار والعجز بسبب الولاء الأعمى للنموذج.
وقد يكون التبرير بالقول إن للروادع الأخلاقية والخوف من نفوذ المركز سبباً في استقطاب الأفراد والجماعات للتعسف الثقافي.. بيد أن المنطقي والحتمي أن الاستقطاب هو نفسه سيجعل المثقف الموالي مهزوزا ومتذبذبا، فبمجرد أن تتغير السلطة تتبدل مبادئه وقناعاته. وهذا التذبذب في الولاء هو أخطر أمراض واقعنا الثقافي العربي الذي به جنت السلطة على المثقفين وولدت بينهم القطيعة المعرفية فئات وأجيالا.
وليس من سبيل لردم القطيعة في الثقافة العربية مثل التخلص من الخوف من النمذجة. هذا الخوف الذي هو تعسف يجعل المثقفين “يبدون كأنهم صليبيون ذاهبون الى محاربة طواحين الهواء أكثر مما يظهرون كمفكرين حكماء يتأملون بهدوء وراء طاولة عملهم” (النفس المبتورة هاجس الغرب في مجتمعاتنا، داريوش شايغان، دار الساقي، بيروت، ط1، 1991، ص 156).
ولا يعني هذا أن الثقافة والسلطة على طرفي نقيض وحسب؛ بل يعني أيضا أنّ المثقف لن يكون فاعلا إلا إذا عارض أي شكل من أشكال النمذجة وعلاقات القوة، فهو مولود ليكون حراً لا أن يكون مستقطباً وتابعاً. أما ذاك الذي يحمل اندفاعاً للاستقطاب والتبعية، فالمؤكد أن الاستقلال لن يكون صفة له والمهام التي يؤديها ستظل جزئية وهويته أحادية وفكره مشترى بالمال وضميره مبيع بالمغريات.
ولأن عدد المثقفين الأحرار والمستقلين أكثر بكثير من المثقفين الموالين والمستقطبين تغدو الأنتلجنسيا العربية اليوم متمتعة في العموم بالصحوة الفكرية التي تؤهلها لأن تستنهض القاعدة الجماهيرية التي هي ركيزة المجتمع المتطلع للتغيير.
ولا يخفى أن الجماهير إذا أتيح لها التغيير تمكنت منه بكل اقتدار، نظرا لما تدخره من طاقات بشرية ومادية ورمزية، وبإمكان المثقفين استنهاضها بمرونة متغلبين على صلابة النماذج الملتزمة بالمسايرة والامتثال والانضباط.
وعلى الرغم من كل ما تمتلكه الأنتلجنسيا العربية من الصحوة والاستنهاض؛ فإنها بالعموم مقيدة الفعل ومهدورة الطاقات بسبب لاعقلانية النمذجة الثقافية. ليظل الحال على ما هو عليه فلا تغيير يطرأ على المجتمع، والمثقف المتحرر معزول وغير فاعل أو متقاعس عن أداء دوره الثقافي الحقيقي وكذلك المثقف السلطوي مقيد أو مؤدلج.
والسر وراء التقاعس هو عسف النماذج المستحكمة بأبوية والتي تخذل الثقافة من جانبين: جانب مثقف الهامش الذي لا يملك الإمكانيات كي يقود العموم الشعبي وجانب مثقف المركز الذي يملك الإمكانيات لكنه غير قادر على التأثير في مراكز القرار.
هكذا تفشل على الدوام المشاريع الفكرية والحركات التقدمية وتتعثر في الغالب نزعات التجديد في بلداننا العربية ولا تصمد إلا بعد مخاض طويل وتضحيات كبيرة وقاهرة.
في الغالب تبقى الثقافة غير فاعلة ما دامت واقعة تحت عسف النماذج ونمطيتها حتى لا مراكز ولا فواعل إلا هي خاضعة للتقنين والتقعيد بطوباوية لا تخلو من براغماتية ومنطوية على كثير من اللاعقلانية ليكون “الهابيتوس” ملاذا من العنف الرمزي وفي الآن نفسه نزعة نوستالجية للتقوقع خوفاً من التغيير ولتستمر مركزية البنية المجتمعية العربية. وهو وضع ليس خاصا بالأنتلجنسيا العربية وحدها وإنما الإسلامية عموما، يقول داريوش شايغان “إن قسما كبيرا من مثقفي العالم الإسلامي يستحمون في حقل الاختلالات وفوق ذلك ليست وظائف المثقف والعالم والكادر محسومة فيه مثلما هي محسومة في الغرب” (النفس المبتورة، ص145) ومع ذلك يظل المثقفون قادرين على تغيير الواقع وتطويره متى ما سمحت لهم الظروف.
ولنقف عند واحد من نماذجنا الثقافية وهو احتذاء الجديد والانبهار به والتبعية له والذي تمثله مناهج النقد الغربي ومقولاته واصطلاحاته ومفاهيمه ونظرياته التي فرضت تعسفها الثقافي على الناقد العربي عبر العقود الماضية وإلى اليوم ليكون تابعا لها ومتقيدا بها، فلا يستطيع فكاكا منها حتى بعد أن تغيرت النزعة الاستعمارية وحلت محلها العولمة.
وغدا الناقد الذي يريد التخلص من عبء هذه التبعية النقدية للغرب وهو يقرأ التاريخ والأدب بصورة مغايره ناقداً غير مرحب بمغايرته وغير مساند وربما يكون مهاجما ومرفوضا كون المطلوب هو الاحتذاء وليس الابتكار حرصا على النمذجة في المواءمة والتآلف مع النظريات الغربية وتطبيقها على النصوص العربية.
ولا يخفى ما يحتاجه الناقد المثقف من نفاذ بصيرة وعقلانية منهجية من أجل أن يتجاوز النموذج السائد بلا نمطية منطلقاً من رؤيته المستقلة ووعيه الخاص.
والناقد المثقف ناقد مفكر لا يطبق فقط وإنما يبتكر ويطور. ولعل أوضح نموذج لهذا الناقد من ابتدع مشروعا في النقد يعاكس النماذج السائدة ويتجاوزها، وهو يحلل الوقائع والظواهر الخاصة بالأدب والفكر. ولنا في النقاد نصر حامد أبوزيد وعبدالله الغذامي وعبدالفتاح كيليطو وفاطمة المرنيسي وسعيد الغانمي وفراس السواح أمثلة واضحة على هذا الناقد المثقف الذي هو ليس الناقد الثقافي كون الأخير نمط من أنماط الممارسة القرائية في تحليل النصوص وتأويلها ومن ثم هو مندرج في الأول الذي هو تشكيل اجتماعي وهوية ثقافية.
إنّ الارتهان العقلاني بفاعلية تجاوز الناقد العربي لعسف النموذج الغربي في النقد يتوقف على جملة عوامل منها:
- أولا: اهتمامه بالمعالجات النظرية، ممارسا التفكير أكثر من التطبيق على النصوص الإبداعية العربية.
- ثانيا: مركزيته في توكيد حرية التوجه واستقلالية التفكر.
- ثالثا: ابتكاره نموذجاً به يجابه العنف الرمزي.
- رابعا: تأثيره في نظرائه من النقاد إشهارا لنموذجه ودعماً له.
والناقد ذو المشروع النقدي المبتكر والأصيل كان له في عالمنا العربي إبان العقود الماضية شأن مناسب لكنه في ظرفنا الراهن صار المركز يصنعه صناعة من خلال الدعم المادي والمعنوي وبكل الوسائل التي تشجعه على الكتابة والتأليف لا لشيء سوى معاداة المثقف غير السلطوي الذي هو نفسه متعفف عن المركز يفضل الانزواء هامشا وفردا محروما من أن يكون إمّعة يُهلَل له بالأضواء والنياشين والمكافآت والجوائز. من هنا نفهم المعاناة التي يكابدها المثقف الذي لا طائل له أمام قوة المنظومة الثقافية بنماذجها الراسخة.
المعضلة الثالثة: الثقافة احترافاً والمثقف متخصصاً
المجتمع العربي مجتمع أحادي، تتحكم فيه الأيديولوجيا أكثر مما يتحكم فيه الوعي الفكري، مما يجعل الزيف والتذبذب والخوف والتصنع سمة ثقافية غالبة، أهم مهيئاتها الخوف والخداع والتضليل والطوباوية التي تجعل المفكرين العرب حالمين بتهويمات وردية بينما الواقع العربي يتراجع على مختلف الصعد يوما بعد يوم.
وتقف وراء هذا الوضع ظاهرة صعود المثقف المحترف على حساب المثقف التلقائي، فيغدو النزوع الأكاديمي والتكنوقراطي متعارضاً مع النزوع غير الأكاديمي. وقد شخّص إدوارد سعيد هذه الظاهرة عالميا ووجدها تتمثل في “زيادة ازدحام العالم اليوم بالمهنيين والخبراء والمستشارين.. الذين ينحصر دورهم الأساس في تقديم المشورة الموثوق بصحتها لذوي السلطة.. والمفكر هنا يواجه مجموعة من الخيارات.. وأولها الفكرة التي تقول إن المفكرين يمثلون شيئا مّا لجمهورهم وهم من ثم يمثلون أنفسهم لأنفسهم” (المثقف والسلطة، إدوارد سعيد، ترجمة محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2006، ص 25).
والمثقف المحترف فرد متعلم بشهادة جامعية أو دونها، وأغلب المثقفين العرب اليوم هم أقرب إلى الاحتراف والتخصصية منهم إلى الهواية والعمومية اللتين هما أساس التفكر الحر الذي عليه ينبني التغيير. ولعل الإعاقة المتولدة من تضاد الاحتراف والتلقائية هي السبب في فشل كثير من المشاريع الفكرية.
والمفروض تحققه هو أن يناصر المثقف المحترف المثقف التلقائي لا أن يصادر وجوده، فتضيع فرص مهمة يمكن فيها لهذا الأخير أن يكون فاعلا ولو رمزيا وهو يكشف المنسي ويبحث عن الحقائق متجاسرا وعقلانيا.
وقد يكون المثقف المحترف تلقائيا لكن رغبته في توكيد ذاته وتوطيد مكانته بالتقرب إلى المركز تجعله يضحّي بالموهبة كي يكون تابعا لبيروقراطية السلطة بينما تصبح علاقته بالجمهور علاقة محترف يتقنع بالتخصصية ويوهم بالاستقلالية.
وهذا واحد من أسباب تراجع مجتمعاتنا العربية التي كلما تعاظم فيها عدد الأكاديميين والتكنوقراطيين والمهنيين قل وجود تلقائيّ الثقافة. ولا عجب أن تكون المنظومة الثقافية الرسمية حضناً مناسباً للمثقفين المحترفين النرجسيين والمتعالين الذين سمتهم التقاطع والاستعداء.. الخ، تاركة المثقف الأصيل التلقائي مثل المارد الذي يحجزه قمقمه من أن يتحرر، وهو إذا تحرر انطلق عملاقا يفعل ما هو قادر على فعله وهو بالتأكيد كثير.
وهذا القمقم نفسه الذي حرصت المنظومة الثقافية على احتجاز نصف المجتمع داخله أعني المرأة، مقيدة فاعليتها حائلة دون تحررها. الأمر الذي يتطلب نهوضاً خارقاً هو ليس نسوياً وحسب بل هو نهوض ثقافي عمومي عارم يفضح معايير التسلط وعقده العمياء.
وسواء كان تصادي السلطة مع المثقفين يجبر قسما منهم على التنازل عن الثقافة كهواية والقبول بها كتخصص بينما يجعل غيرهم رافضين؛ فإن المثقفين في كلا الحالين يظلون ذواتا ضائعة بين الاستقطاب والشللية وبين الانزواء والنفي والمعارضة.. فكيف بعد ذلك كله يتمكن المثقفون من التأثير في الأفراد والجماعات؟
ويظل الانفتاح والتعدد والتنوع سمات لا ينبغي للمثقف العربي أن يتخلى عنها وبالمقابل لا يتجمد عند حد ليظل متقيدا “إلى ما يربطه بالجامعات التي تدفع رواتب أو الأحزاب السياسية التي تطلب الولاء للخط السياسي للحزب أو هيئات المستشارين التي تمنح حرية إجراء البحوث ولكنها بأساليب ذات دهاء وحذق تصبغ أحكامهم بالصبغة التي تريدها وتفرض القيود على الصوت الذي يحاول الانتقاد”(المثقف والسلطة، إدوارد سعيد، ص 122).
والسؤال المطروح هنا ما إمكانية وجود المثقف المتعدد والمتنوع والانفتاحي في واقعنا العربي رجالا ونساء؟ وهل تتمكن الأنتلجنسيا العربية مع وجود هذا النوع من المثقفين من مضاعفة دورها في مواجهة ضغوط الأنظمة التي تحكمها؟
إن الرغبة في التخصص الأكاديمي والارتقاء في مدارج النظام الجامعي صارت اليوم أحد أهم الضغوط التي تدفع بالثقافة العربية نحو زاوية ضيقة، ليكون التناسب عكسيا بين تزايد عدد المتعلمين الباحثين عن الشهادات العليا وبين تناقص عدد المثقفين المفكرين تلقائيّ الثقافة. والأكاديمية بمنهجيتها الصارمة وخضوعها الموضوعي للنظام العام والتزامها بالمعايير السائدة تغدو عدوّاً للتفكر الذي سمته الأساس المعارضة واللااقتناع بلا خضوع ولا أوامر ولا مواضعات النظام العام. واليوم تبدو الأكاديمية بالنسبة إلى المثقف المفكر ضرباً من التفاهة، فهي لا تحتاج من المرء سوى مسايرة النظام وإتباع أنساقه والرضوخ لمعاييره، فبها يبلغ المراتب والترقيات التي آخرها الأستاذية.
ولكن كم من الحاصلين على الأستاذية فاعلون ثقافياً وموصوفون بأنهم أحرار في التفكير يعارضون النظام العام مشتبكين مع تابوهاته وأوصيائه؟
ليس أيسر من الجواب على مثل هذا السؤال التهكمي بل إن الأمر يظل في كثير من الأحيان مرهونا بالمثقف المستقل الذي لا يتوانى عن التضحية بالعمل والمكانة وربما الحياة وهو يبحث عن الحقيقة وسط حقل الألغام، لا يهادن ولا يخاتل متحملا هراوات المركز مستمرا في رسالته مبتغيا نفع المجموع لا نفسه.
وليست التخصصية وحدها وبالاً على واقعنا المعاصر؛ بل هو افتقاره أيضا إلى الفصل فصلا جوهريا بين الثقافة والسياسة التي هي السلطة. فلقد أدى تلازمهما إلى وجود المثقف الملتزم بخدمة طرف ما على حساب أطراف أخرى، ليكون مواليا وأحاديا لا لشيء سوى الخوف من أن يكون على الحافة وخارج الدائرة وأضوائها البراقة.
وإذا أرادت الكثرة الكاثرة من المثقفين الملتزمين أن تقوم برصد أو تشخيص أسباب تردي واقعنا الثقافي راحت تلوم بشيزوفرينيا مرضية الطرف المضاد بدل أن تنتقد نفسها والأرباب الذين تقدم لهم فروض الطاعة والولاء.
إن انفتاح المثقف وهو يتفكر في حاله متقبلا الآخر المختلف معه وإيمانه بتداخل الحدود والعلوم يمنحه التعايش، ويجعله مرنا، غير منعزل ولا مهموم بالتخصص والتسييس وأمراض اللهاث وراء المركز بالاستقطاب الفردي والنظر للأمور بمنظار نفعي.
ولا خلاف أن الصلابة والتحجر أمران يؤديان بالمجتمع إلى التأخر بينما التمتع بالمرونة والانفتاح والتعدد يضمن للمجتمع أن يكون كوسموبوليتيا تتوافق فيه السلطة والسلطة المضادة، وحدوده قابلة للنفاذ حتى بإمكان الفرد التدخل في الشؤون الداخلية للآخر الذي بإمكانه التدخل في شؤونه الداخلية.. ما يعني أنه حتى الخاسرين هم بحاجة لوجهة النظر الكوسموبوليتة هذه للعبور خطوة خطوة من موقفهم كضحية إلى سيد اللعبة (ينظر: السلطة والسلطة المضادة في عصر العولمة، أولريش بيك، ترجمة جورج كتورة وإلهام الشعراني، الدار الشرقية، بيروت، ط1، 2010، ص 543).
وما تحتاجه ثقافتنا العربية الراهنة هو وجود مثقفين يستعيضون تلازمية الثقافة/السياسة بنوازع الاندماج والتعدد في ظل منظومة مجتمعية يتعايش فيها الأفراد بروح لا تعرف مركزية ولا احترابا ولا اصطراعا.
وما ينقصنا اليوم هو هذا الوعي الذاتي الحقيقي بأهمية التعدد والتعايش على وفق منظار واقعي عالمي، به يكون تطورنا إيجابيا ومعالجاتنا لمشاكلنا ناجعة وحقيقية لا مجرد أحلام نظرية، وعندها لن تنسل النماذج إلى فكرنا مهيمنة علينا كمعوقات تقيد رؤيتنا وتعيدنا إلى مربع التبعية للتقاليد أو للآخر.
ومعركتنا مع ذواتنا والآخر وإشكالياتنا مع بواطننا وظواهرنا تكمن في كوننا أحاديين منقسمين، لتظل عقلية السائد تحكمنا حيث السياسة هي الثقافة مؤمنين أن لا ثقافة بلا سياسة وأن أيّ مشروع ثقافي يقع خارج هذا التصور هو مشروع مشرذم بلا قواعد ولا هدف واضح.
ولكي تكون المنظومة الرسمية موصوفة بالتعددية الثقافية ينبغي عليها أن تحتضن الثقافة على تنوع فواعلها لوجه الثقافة نفسها لتتشكل آفاق أفكارنا بحرية ورحابة وعدا ذلك ستظل الوصولية سمة كثير من المثقفين الذين لا يقدرون على النفاذ إلى المراكز إلا من خلال السياسة تارة كحزبيين مؤدلجين وتنويريين ملتزمين وتارة أخرى كمحللين وخبراء ومستشارين.
وليست الوصولية هي السمة الوحيدة للمثقفين العرب؛ بل هناك ما هو أخطر منها وهي الأصولية التي تمثل لبعض المثقفين ملاذا ثقافيا (هابيتوس) للتعبير عن أفكارهم متصورين أنهم بالأصولية سيخلصون الجماهير العربية من الخطر وسيحصلون لها على حقوقها ويمنحونها الإحساس بقوة الهوية.
وما تتطلبه مرحلتنا الثقافية القادمة هو البحث عن أنماط جديدة في التفكير والتخطيط الواقعي مبتكرين أساليبنا التي بها نبرهن على أهمية التحرر من غواية المركز في ممارسة الدور الاجتماعي بعيدا عن تعسفية النماذج وأبوية النظر وعقلية الإقصاء.