شقاء أبديّ وسعادة معلّقة
لا غرابة في أن نلحظ توالي الإجهاضات لمحاولات النهوض العربي في قفزة بيّنة، بدلالة استعادة الأسئلة التي أثارتها التيارات الفكريّة الإصلاحيّة، السياسيّة والدينيّة، منذ ما ينيف على القرن. وسؤال الوعي بالذات – الجماعيّة والفرديّة – يؤكّد التباس الذات الثقافيّة عند كلّ منعطف تاريخي أو أيّ أزمة متراكبة الأسباب. وعلى الرغم من التنوع الجيوثقافي العربي، فثمة مشترك تاريخي من أسباب يعرّفها علم الحضارات بالانقطاع عن الأصول، أو القطع المعرفي نتيجة الحملات الاستعماريّة المتكرّرة. وقد أورثت هذه القوى الاستعماريّة إمّا نظام “الولاية والرعايا”، ومفهوم “المِلل والنِحل”، وإمّا صيغ حكم قائمة على الطائفيّة وامتيازات ممنوحة لفئات بما لا يخدم الدولة – الوطن، بل جماعات وعائلات حاكمة، وعبرها الدولة المستعمرة – الأم. وعلى هذا النحو تولّدت الاصطفافات؛ حيث أنّ كل جماعة تتربّص بأخرى، دينيّة تكفيريّة، انقلابيّة عسكريّة أو سلميّة، وبرجوازيّة حاكمة.. لترى النخب المثقفة، بمجملها، أنها ليست بعيدة عن هذا التخندق، اختيارًا أو إكراهًا.
يجدر ألّا يكون مفهوم المواطنة الحقّة طارئًا، وألّا تأتي قيم الدولة الحديثة للإعلاء من شأن الفرد في اختياراته الحرّة، نتاج سلطة خارجيّة أو أيديولوجيا مستوردة؛ إذ سرعان ما تتفكّك بنية المجتمع أمام أيّ عاصفة. ولعلّ العقل العربي انشغل بشؤون الدين وأحكامه، واللغة وشجونها تاليًا، وبالمواجهات الخارجيّة والداخليّة؛ من قضايا استعماريّة، حروب طوائف، أو ضدّ أنظمة قمع استبداديّة. وحين يفقد الشعب سيادته على نفسه يدخل في الخطّ التراجعي؛ فكيف يكون حاله إذا لم تترك له فرصة استعادة وعيه بهويّته، وتأمّل ماضيه واستشراف مستقبله؟
أفرز هذا الواقع العربي المتخلخل أزمة ليس على مستوى الوعي الجمعيّ وحسب، بل على مستوى علاقة الفرد بالمجتمع، وبالسلطتين الدينيّة والسياسيّة، وبحاكميّات الإجماع لترسيخ وحدة الموقف للجماعة، أو بضرورات الأمن القومي التي تضيّق دائرة التعبير. وخلق تنازعًا داخليًّا لدى الفرد، المثقّف على وجه الخصوص، بين الاندراج في ثقافة السائد والمقبول، أو الخروج عليها بعين فاحصة؛ بمعنى آخر، صراعه بين أن يكون لامنتميًا أو منتميًا، مختلفًا أو تابعًا، ذا إرادة حرّة أو رقمًا في قطيع.
الفرد اللامنتمي، المنشقّ، أو مختلف الرؤية، عابر للتاريخ والجغرافيا منذ أن كان الإنسان إنسانًا؛ ومع التمثّل المعرفي البدئيّ في الأسطورة. نجده، على سبيل التمثيل، في رمزية بروميثيوس سارق النار وأسرار الصناعة من الآلهة، وفي صورة سيزيف متحدّي عظمتها وذكائها؛ فارتسم مصيرهما عقابًا أبديًّا. وفي أمثولة كهف أفلاطون؛ حيث أنّ الفيلسوف هو البصير الذي خرج من الكهف، ليرى الحقيقة لا ظلالها المرتسمة على جداره، فيتوهّمها سكان الكهف على أنها حقائق قارّة غير مصدّقين أنّها محض خيالات. ومع الرسالات الرّوحيّة يغدو المختار الناطق بالرسالة، مطرودًا من قريته أو هيكله.
المختلف، “ابن الإنسان” لدى جبران خليل جبران، هو الذي اختار الخروج على روح القطيع. رأى وجاهر بما رآه من حقائق أو تصوّرات، وسلك دربًا مغايرًا للدرب المطروق منذ مئات السنين. نقرؤه في صورة الشخصيّتين التراجيديّتين “خليل الكافر” و”يوحنا المجنون”. يرفض كلّ منهما أن يكون “آلة عمياء خرساء فاقدة الحسّ والقوّة”. يتهكّم من فئة “مستسلمة للغباوة”، في بيئة ثقافيّة دينيّة لا تقبل إلّا صوت السّلطة الرّاعية. سلطة تجمع في قبضتها شؤون الأفراد جميعها، وتقبض بها على أعناقهم. وهو أيضًا المبصر في “بلد العميان” لدى هربرت جورج ويلز، وقد وُسم بالكائن الغريب، البدائي، غير المتّزن، ودماغه متضرّر بحكم عدم اكتمال حواسه.
هذا التباين في الرؤية يطرح مسألة النسبيّة، وإشكاليّة مجتمع لا يعلم أنّه مريض. فمن هو الكافر والمجنون والأعمى والمعتلّ؟ وفي اعتبارات أيّ ذات، الذات الفرديّة أم الجماعيّة؟ لتأتي إجابة الواقع لصالح الفئة الأقوى، المهيمنة والقاهرة لإرادة الفرد، إنّما إجابة التاريخ تكذّب في كلّ مرّة ما كان راهنًا في زمانه.
يرى كولن ولسون أنّ سلوك اللامنتمي يكمن في عدم قبوله الحياة الإنسانيّة التي تعيشها الكائنات السياسيّة وسط المجتمع؛ إذ يجد أنّ هذه الحياة ليست حقيقيّة. ويطرح سيغموند فرويد، من زاوية الشعور، إشكاليّة التماهي بوصفه تمثّل عواطف الآخرين، والشكل الأكثر بدائيّة للتعلّق الوجداني بموضوع ما. ويقول إنّ التعلّق المتبادل الذي يقوم بين الأفراد المنخرطين في جمهور(جماعة) ما، ينبع من تماهٍ مبنيّ على أساس وحدة المشاعر، وهي بدورها تنبثق من طبيعة الرّابطة التي تشدّ كل فرد برئيس الجماعة.
وفي تصوّرات الفلسفة الوجوديّة للشخصيّة الفرديّة أنّها التضادّ المجسّد للفردي والاجتماعي، للحريّة والمصير. وإنّ المأساة الأبديّة للحياة الإنسانيّة تبين في الصراع القائم على التعارض بين الشخصيّة وبيئتها الاجتماعيّة. فأيّ جماعة/أو رابطة، طابعها الأساسي اجتماعيّ، لا تتيح الاتصال الروحي، حيث تجد الشخصيّة نفسها في استعباد أشدّ مما كانت تعانيه فيما لو بقيت خارجها. في حين أنّ النزعة الوجوديّة تميّز بين الضميرين “نحن” و”هم”، لتفصل بين حرية الاختيار وإرادته من جهة، والتشيّؤ أو الضياع وسط الجموع من طريق المحاكاة والتماهي، من ناحية أخرى.
شأن الأنا مع “هم” أو “نحن” يقودنا إلى فهم ظاهرة الجمهور (أو الجماعة) من وجهة نظر الروسي نيقولاي برديائيف، حيث يرى أنّ “نحن” تفترض وجود أنا أخرى أو “أنت”، وأنّ غريزة المحاكاة هي العامل المحدّد في حياة الجماهير. ويضرب مثالًا عن سلوكها في حالات الحروب والغضب الأعمى، وفي الحالات الدينيّة. ففي مثل هذه الحالات لا عزلة ولا اتصالًا روحيًّا ملحوظان، بمعنى أنّ الشخصية الفرديّة تجد نفسها في حالة بينيّة من انتماء ولاانتماء/اغتراب. وما يصيبها هو الفقر من حيث الكيف، عندما تخضع للإيحاء الجماعي ولغريزة التماهي بالانفعالات الدنيا واللاشعوريّة التي تسود الجماعة. ويخلص إلى قول دالّ مفاده أنّ شعور الشخصيّة الخاص ووعيها قد ابتلعهما الضمير الغائب “هو” أو “الشيء”.
ربّ زاعم أنّ البيئة الثقافية التي انبثق عنها وعي الفرد، دينيّة كانت أم سياسيّة، تتجلّى في جمهور يعي مطالبه وخياراته. إنّما يجدر الانتباه إلى أنّ أيّ أيديولوجيا – بحكم جمودها وعدم خضوعها لمبدأ الصيرورة وحتميّة التغيير – تحمل في أعماقها عوامل فنائها، فتولّد أفرادًا مشكّكين يؤمنون بفكر دائم التسآل والمساءلة، النقد والنقض. ولا يشذّ عن قاعدة الجمهور والفرد، المثقف العربي الذي غالبًا ما يتموضع بين تصنيفين؛ لامنتمٍ ومغترب عن بيئته بعامّة، وممثّل لطبقة نخبويّة مؤدلجة تمارس الحكم، أو معارضة تطمح وتصارع لتصبح سلطة حاكمة.
تطرح علاقة المثقف بالسلطة، أو الفرد بالجماعة من حيث الخضوع والتفرّد، إشكاليّة التغيير وإمكاناته، وفي ذلك غاية البحث الحضاريّ، والأبعد منها سعادة الإنسان. فهل بترف الهروب إلى عالم المجاز والكنايات، في الكلمة والفنّ عامّة، بعيدًا عن مواجهة صريحة تضع المثقف وجهًا لوجه أمام السلطة، وفي قبضتها؟ وهل يحدث التغيير في بقاء المثقف وحيدًا أعزل، ووعيًا مفردًا؟
نعود إلى ظاهرة الانفصام وازدواجيّة المعايير والقيم في مجتمعاتنا، ومردّ ذلك إلى أيديولوجيّات هجينة أو مقولبة. وهي تؤزّم ثقة الفرد بحرية الاختيار والرأي. وخير تعليل لهذه الحالة نسمعه من خليل الكافر – الشخصيّة الجبرانيّة – حين يقول إنّ الغشاء الكثيف الذي حاكته الأجيال الطويلة على بصائر المنغلقين داخل أسوار الدير وأسيجة القرى لا تمزّقه الأيام القليلة.. أمّا الاضطهاد الذي مورس بحقّه فيجده رمزًا للشدّة التي تعانيها الأمّة قبل بلوغها المعرفة. وليلة القهر قبيل طرده شبيهة بالثورات التي تتقدّم الحريّة والمساواة. بعبارة جامعة، إنّ كل مجتمع في طور الانتقال سيعاني هذا الازدواج والتخبّط.
قد يجد المجتمع نفسه، في ظلّ توقه للتغيير، مستعيدًا سلسلة أسئلة قديمة طرحها منظّرون اجتماعيّون عن البداية والكيفيّة. فهل سينطلق من التربية؟ غير أنّ الأسئلة ستتداعى في حلقة مفرغة: من سيربّي المربّين، ومن سيشكّل الحزب، ويستحوذ على السلطة؟ هل بالانقلاب على الطبقة الحاكمة، أو بالتحوّل في الذهنيّة؟ وكيف يغيّرها؟ ليعود مجدّدًا إلى التربية، والحاجة إلى التنظير الفلسفي لها ورسم سياساتها، الأمر الذي يؤكّد العلاقات الجدليّة بين الفرد والمجتمع، المثقف والبيئة الاجتماعيّة التي انبثق عنها، التبعيّة والتفرّد، وبين الانفعاليّة والفاعليّة.
في هذا السياق السوسيوثقافي تسعفنا محاكاة خطاب أحد الجنرالات لجنوده: ليتصرّف كل واحد منكم كما لو أنّ الحرب بكاملها تتوقف عليه.. كما لو أنّ تغيير المجتمع يتوقف على خيار الفرد الحرّ وإرادته الواعية؛ على أن يكون كالحصاة ترمى في بركة ماء راكد فتحدث دوائر تتّسع لتشمل صفحة الماء؛ وإن تلاشت، فهي بإمكانها أن تعكّر صفو هذا اليقين على أقل تقدير.
كثرٌ من يمتلكون الوعي بالحق والعدالة، ومن لديهم رؤية للتغيير؛ إنّما من يمتلك شجاعة القول وإرادة الفعل قد يكونون قلّة. لتبقى الإجابة، في ختام القول، معلّقة عن سؤال سعادة الفرد خارج قطيعه؛ في حين أنّ ألبير كامو يتصوّر سيزيف سعيدًا في شقائه، وفي وعيه بهذا الشقاء الأبدي.