التفكير الأسطوري
مرت الشعوب جميعا بمراحل تكاد تكون متشابهة أو لنقل إنها متقاربة عبر المسيرة الحضارية للإنسان. ومنذ أن عرف الإنسان الكتابة وبدأ يسجل تجاربه ويحفظها على الرقم الطينية كانت الأسطورة والتفكير السحري، وهو أمر يجمع عليه الأنثروبولوجيون والباحثون الذين رصدوا حياة الشعوب في طفولتهم الفكرية. ومن المعروف أن الأسطورة تشظت إلى ملاحم وحكايات خرافية وشعبية وأمثال وأغان شعبية وطقوس وتقاليد في جانبها المعتقدي أو التطبيقي الذي يجعل من الأساطير ممارسات أو حركات ذات دلالات سحرية.
حين جاء الدين بأفكاره التوحيدية، وينطبق هذا على الأديان الثلاثة الرئيسية، وأعني بها اليهودية والمسيحية والإسلام، كان من الطبيعي أن تتأثر بالأساطير والممارسات السحرية والمعتقدات السائدة قبل الأديان. والأديان عامة غالبا ما تقف ضد تلك المعتقدات وتحاول إلغاءها، بيد أنها قد تفيد من بعضها وتبقي عليه لأنه ينسجم مع النسق الأخلاقي للدين.
ولأنني بصدد كتاب الباحث اليمني محمد عطبوش “الفكر السحري في الإسلام” منشورات “دار الرافدين” 2019، فقد أوردت هذه المقدمة لأني أتفق معه في هذا التأثر والتأثير بين الدين والأفكار والممارسات التي سبقته، وهو ما ينطبق على الدين الإسلامي كما ينطبق على بقية الأديان.
ولا بد لي أن أشير وقبل أن أقدم كتاب “رحاب كتاب الفكر السحري في الإسلام” إلى مؤلف هذا الكتاب وهو الكاتب اليمني الشاب محمد علي عطبوش الذي تعرض للتهديد ولمحاولة اغتيال بسبب أفكاره التنويرية، إذ ناقش بعض المناهج المدرسية في اليمن، وهي التي تخلط بين الدين والعلم بحيث تختلط الأوراق وتلتبس على النشء الجديد فلا يرى الحد الفاصل بينهما، وعنوان كتابه السابق هو “نقد الإعجاز العلمي”.
ثمة مسلمات انطلق منها المؤلف في كتابه نذكر منها أن الأسطورة كانت علم الإنسان البدائي الأول وفنه وفلسفته في حياته وهي أيضا شعيرته الدينية، وما العلم الحديث إلا تطور لاحق لذلك الجذر السحري الذي بدأ به الإنسان الأول بوصفه معتقدا أو ممارسة سحرية. وتكمن أهمية هذا الكتاب في أنه يتصدى وبجرأة لبعض الظواهر السحرية التي كان لها صدى في أفكار الناس وممارساتهم بعد الإسلام. وقد أورد الباحث عشرات النماذج الموثقة على ذلك، وهو مما لا يضير الدين الإسلامي في شيء، بل يسلط الضوء على سطوة الأفكار السحرية التي كانت سائدة قبل الإسلام واستمرار بعضها بعده، وهو أمر طبيعي حصل للأديان التي سبقت الإسلام.
ونذكر على سبيل المثال تأثر كتاب التوراة بقصة الطوفان التي وردت في ملحمة جلجامش، فالنبي نوح والنبي الخضر عليهما السلام، هما وجهان لشخصية أوتو نبشتم في الأسطورة السومرية. وكتاب التوراة هو الكتاب الرائد الذي وردت فيه تفاصيل وقصص وأفكار هدفها الوعظ والحكمة، وقد تابعها كتاب الإنجيل واعترف بها، كما اعترف بها الإسلام وأعاد صياغة بعض القصص التي وردت في التوراة والإنجيل أيضا، لأن الإسلام يعترف بالديانتين اليهودية والمسيحية على الرغم من أنهما لا تعترفان به.
وبشأن الديانة المسيحية فإن فكرة موت الإله وردت في أساطير ما قبل الأديان، ففي الأساطير السومرية تصرّ عشتار على أن تجتاز بوابة الموت بمعنى أن تجرّب الموت وماذا يحصل للإنسان حين يموت، ولكنها وعلى الرغم من كونها إلهة فإن قوانين الموت لم تدعها تعود إلى الأرض لولا تدخل الآلهة الآخرين ومنهم الإله آنو رب الأرباب إله الآلهة، وأما أيا إله الحكمة وبعد أن رأى الحياة تذوي وتموت – لأن الإلهة عشتار رمز الحياة والجمال أيضا – يقترح أن يفتديها زوجها الإله تموز، ويحلّ بديلا لها في العالم الأسفل عالم الأموات كما تصوره السومريون ولأن تموز أو دموزي هو رمز الخصب، فإن شقيقته “كشتن أنا” تفتديه لستة أشهر من كل عام، ولذلك لا يدوم الخصب أو الجدب طوال العام وإنما يتناوبان، وقد عبّر عن هذه الظاهرة أسلافنا السومريون والبابليون والآشوريون أيضا بهذه الحكاية الأسطورية.
ولعل شعائر الحج الجاهلية هي أبرز دليل على أن الإسلام أبقى على بعضها، صحيح أنه غيّر كثيرا من تفاصيل الحج وبما يتناسب مع عقيدة التوحيد، وأفاد منه لأنه مؤتمر إسلامي يتداول فيه المسلمون أمور دينهم ودنياهم، والإبقاء عليه هو عين الحكمة، ولكن الحج زمن الجاهلية كان مرتبطا بطقوس جاهلية ذات طابع سحري. وهذا دكتور جواد علي يذكر بعض ما نحن بصدده في كتابه “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام” إذ يورد أن عرب الجاهلية كانوا يهلون عند أصنامهم، فكان الأنصار مثلا يهلون لمناة في معبده فإذا أهلوا لبّوا.
وأما الطواف فقد كان عرب الجاهلية يطوفون حول أصنامهم وربما طاف بعضهم حول الذبيحة التي يقدمونها لآلهتهم، وقد يلطخ بعضهم جدران الكعبة بدم الذبيحة، وكان للحليب دور عند بعض القبائل العربية، إذ كانوا يصبونه على أصنامهم، وهو طقس كان الإغريق يمارسونه، إذ يقوم عناصر فرقة منهم تدعى بالأورفية بصب الحليب على أجسامهم ربما بهدف التطهر من الذنوب البشرية. وقد يطوف بعض العرب عرايا للغرض نفسه وهو التطهر من الذنوب ظنا منهم أن ذنوبهم عالقة في ملابسهم.
وأما التلبية فقد كان الجاهليون يلبون لأصنامهم، ويختلفون في صيغ التلبية، وعلى سبيل الاستدلال تلبية الذين يتخذون من العزى صنما “لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، وما أحبنا إليك”. وقد جبّ الإسلام كل ما ليس له علاقة بالتوحيد من تلك الطقوس، بيد أنه لم يلغ الحج بل أفاد من بعض تفاصيله في الجاهلية، وحوّرها إلى شعائر لا تتعارض مع تعاليمه.
ويورد مؤلف كتاب “الفكر السحري في الإسلام” عشرات الأمثلة الموثقة التي تؤيد فكرة هذا الكتاب ونهجه في إثبات أصداء الفكر السحري في مرحلة ما بعد الإسلام ومن ذلك ما أورده بشأن وصف الشيطان، وقد ورد في الحديث الشريف يوصف الشيطان وكأنه حيوان لا يحسن استخدام يديه مثل البشر “فالشيطان لا يفتح بابا مغلقا، ولا يكشف غطاء، ولا يحل وكاء” (الفكر السحري في الإسلام ص 125)، ومصدر محمد عطبوش في كتابه هذا مسند أحمد، وتفسير ذلك من وجهة نظر هذا الكتاب هو أن هذا الوصف للشيطان يطابق نظرية سميث عن العلاقة بين الشياطين والحيوانات.
ويرد في الحديث الشريف “أن على ظهر كل بعير شيطانا، فإذا ركبتموها فسموا الله”، وقد استند المؤلف في هذا الحديث على مسند أحمد، ومن وجهة نظر هذا الكتاب أن هذا التوجيه كان بتأثير المعتقدات الجاهلية في أن “الجن تركب الحيوانات” (الفكر السحري في الإسلام ص 125). ومن يقرأ كتاب “الفكر السحري في الإسلام” يجد فيضا من الأمثلة الدالة على هذه الظاهرة.
ويمضي الباحث محمد عطبوش في نسقه هذا وهو نسق أكاديمي موثق بعشرات المصادر والمراجع الأوروبية المهمة فضلا عن المصادر العربية القديمة والحديثة، وليس أدلّ على ذلك من كتابي جيمس فريزر “الغصن الذهبي” و”الفولكلور في العهد القديم”، وكتاب “العقلية البدائية” لكاتبه ليفي بريل، وكتاب مالينوفيسكي “السحر والعلم والدين” وكتب أخرى مهمة لا مجال لذكرها جميعا، ناهيك عن الكتب العربية وكتب الصحاح والتفاسير ومصادر ومراجع عن الفلسفة الإسلامية، ومما يذكر أنه اطلع على معظم ما كتب في هذا المجال حتى أنه اطلع على بحث لي نشرته في مجلة “الفنون الشعبية” التي تصدر في البحرين وعنوانه “في القرن الحادي والعشرين”، وكان هذا بدء الصلة بيني وبين الباحث محمد عطبوش.
أحسب أن كتاب الباحث اليمني الجاد محمد علي عطبوش مهم جدا في مجاله إذ يلمح ذلك الحد الفاصل بين الدين والسحر وبين الدين والعلم، ويضع يده على بعض الممارسات والأفكار الدينية التي تأثرت بذلك العالم السحري الذي سبقها، ولا تغني هذه العجالة عن قراءة الكتاب كاملا. فضلا عن أن المؤلف أضاف إلى كتابه المهم هذا ترجمة لبحث أكاديمي كتبه المؤرخ الأميركي لين ثورندايك وعنوانه “العلوم السحرية العربية في القرن التاسع”، وقد قام محمد عطبوش نفسه بترجمة البحث والتعليق عليه وتقديمه، وفي بحث ثورندايك استعراض سريع ودقيق لرؤية الفلاسفة والمفكرين والعلماء والفقهاء العرب في القرن التاسع الميلادي وما بعده للسحر وعلومه في التنجيم والفلك والكيمياء وسواها من العلوم التي بدأت خطواتها الأولى ممتزجة بالسحر أو متأثرة به ولكنها انفصلت عن السحر لأن السحر في آخر المطاف هو علم كاذب – وإن كان جذرا بعيدا للعلم الحديث – في حين أن هذه العلوم حقيقية إذ تعتمد على الحواس والمنطق مما مهد للعلم الحديث الذي غلبت عليه التكنولوجيا المعاصرة.