بيروتا، بيريت، باروت، بيروت
مَن يزُر بيروتَ
يستغني عن العطرِ
يوم زرتُ بيروت أول مرة قبل سنوات غير بعيدة، أحسستُ بأنني خرجتُ من كوابيسي العراقية ودخلت إلى حلم أزرق أكثر سعةً من البحر الممتد أمامي. وكان شعور الرائي بي هو كأنني رأيت المدينة من قبل. رأيتها في الكتابة والقراءة قبل ذلك الحلم الأزرق الفارع. وربما وصفتها في كتاباتي قبل الدخول إلى ذلك الحلم. أو ربما مرت سحابة الكتابة على هذه المدينة الصغيرة من دون أن أدري، لذلك تضامنتِ المدينة معي في أول لقاء وصافحتني بيدها الناعمة المبللة برذاذ البحر. وأحاطتني برعاية كاملة من دون أن تشعرني بأنني غريبٌ طارئ على المكان، لكنني كنتُ أشمُّ أنفاسَها وعطر البحر فيها ونبضها الذي امتد بي وما يزال. لهذا تكررت الزيارات السنوية لسبع مرات أو أكثر. وبقيت كل اللقاءات سعيدة وجميلة وباهرة إلى الحد الذي كنت فيه أحمل حقيبتي الصغيرة في بغداد وأتوجه إلى المطار من دون أن أحضّر لسفرة بيروت. فكل شيء جاهز في عقلي وقلبي. ولم أكن أحتاج إلى خريطة سفر أو دليل، فالمدينة مفتوحة مثل كتاب رومانسي ومنفتحة كالبحر على مد البصر والبصيرة. تضجُّ بالجمال والألفة والرشاقة والنقاوة والبياض والحب. حتى تعرفتُ على أثوابها البحرية والجبلية وأنواع عطورها وماكياجها البلدي وصورتها التي تزداد جمالاً وخفّةً. وغاباتها الخضراء وجنائنها الأرضية وشوارعها الممطرة وسمائها التي تسير الى آفاق لا تنتهي. وأزقتها وحواريها ومطاعمها التي تتقدمها امبراطورية بربر الشهيرة في شارع الحمرا.
تعرفتُ على مكتباتها وكتبها الوفيرة وأدبائها وفنونها وفنانيها وحضاراتها المتعاقبة وأسمائها وألقابها في التاريخ القديم والحديث، من بيروتا البعيدة في التاريخ إلى باريس الشرق الحديثة احتفاءً بها في كل العصور التي تداخلت وانفرطت ومضت وعادت بأثواب جديدة ولغات أخرى. لكن المدينة بقيت ونضجت وتحضّرت وازدهرت.. لولا السياسة الطائفية التي خرّبت بهاءها وجعلت الناس فيها يحتسبون إلى السماء، بعدما ضاعت الحلول وتشاكلت منعطفاتها الكثيرة في عقودها الأخيرة. حتى أصبحت بيروت خائفة من بيروتها ومن ناسها المدججين بالأسلحة والعبوات على دائرة خصرها.
في بيروتَ
لا أحتاجُ الى مرآة
حتى أراكِ
بيروتا. بيريت. باروت. بيريتيس. بيروتوس. بيرُووَه. لاذقية كنعان. المدينة الآلهة. زهرة الشرق. أمّ الشرائع. الدرة الغالية. وغيرها من الأسماء والألقاب التي كانت تضاف لها كلما مر بها عصر جديد. وكانت بيروت تحمل تلك الأسماء والألقاب وتوثقها في أرشيفها التاريخي القديم وإلى اليوم. فقليلة هي المدن المنيرة التي تحظى بمثل هذه التوصيفات الاسمية واللقبية الاعتبارية، كما حظيت بيروت بها على مر تاريخها الحضاري المتنوع الذي يمتد إلى خمسة آلاف سنة، وتعاقبت عليه حضارات كثيرة من الكنعانيين الساميين والفينيقيين والآشوريين والبابليين والفرس والموارنة إلى الإغريق والبيزنطيين والمماليك والعثمانيين والصليبيين وحتى العصر الإسلامي بعصوره المتعاقبة. وكل هذه الحضارات الغريبة والوافدة أضافت للمدينة ثقلاً جمالياً آخر، وأكسبتها الكثير من الفنون والعلوم والمعارف. مثلما اكتسبت من كل ذلك التجربة والصلابة والقوة والمقاومة، لتكون بيروت وحدها في نهاية المطاف هي بيروت: مدينة البحر والسحر والجمال. مدينة المعرفة والسياحة التي يفدُ إليها عشاق الجمال من أنحاء العالم كله.
الموانئ ترحل مع الغرباء
وميناؤكَ لا يرحل عن بيروت
هذه البيروت السعيدة ببحرها وجبلها وأرزها وهوائها النقي وآثارها التي تشير إلى عمقها التاريخي والحضاري، تآمر عليها مَن تخيفه أن تصبح بيروت أيقونة من أيقونات الجمال المعرفي المتحضر في أروع صوره الثقافية. فالمعرفة تخيف الأميين الذين يحملون شعارات القرون السود. فإشعال شمعة في هذا الركن أو ذاك تفتح نفقاً مظلماً. وتؤسس لمصابيح كثيرة تملأ الأرض والسماء، فينكشف الفاسدون والظلاميون والجهلة الشعارتيون. وكان لا بد من إحراق البحر والناس والبنايات والمكتبات والمقاهي. إحراق الحياة التي تتسيّدها المعرفة والنظام ويسودها الجمال والحب.
وهكذا جاء انفجار مرفأ بيروت بعد كل هذه الحضارات المتعاقبة، وبعد شوط طويل من الحياة البيضاء التي كان البحر يمشي معها طولاً وعرضاً، كما تمشي معها غابات الأرز والزيتون على طول البلاد وعرضها.
انفجار بيروت أحدث في داخلي شرخاً عميقاً بصراحة.
بكيت كثيراً وأنا أرى مشاهد الدمار الشامل الذي أحرق وجه العروسة بيروت. فكل شبرٍ ومترٍ مشيتُ فيه ذات يوم وتسكعتُ وتأملت وكتبتُ وارتويت من مرأى المدينة الحالمة التي لا تعرف النوم ولا اليقظة، فهي تقع ما بينهما في أسطورة البقاء الأخضر الجميل.
هذا الانفجار ترك بي رعباً لا أقدر على وصفه وأنا أرى أشلاء المدينة مرميةً على قارعة الطريق المثخن بالدماء والأوصال، وبقايا البشر والبيوت والحجر والمحال والكافتريات والشجر. ولأني أعرف المكان بدقة متناهية هالني منظر الموت الأحمر الذي انبثق من العنبر 12 وكأنه خرج من مارد يتخفى في البحر ليصطاد العشاق والكورنيش والعصافير والأشجار اللامعة بخضرتها، ليصطاد بيروت العاشقة المُحِبّة الصبية السعيدة الجميلة التي لا يؤرقها غير أولئك الأوباش الذين يحيطون بخصرها كاللعنة السوداء.
لو جاءكِ الغريب في موسم المطر
رشّي عليه البحرَ
لعل موجةً تعْلق به
فيعرف الطريق.