تقويض الحداثة
في كتابه “العلم المرح” يشير نيتشه إلى جملته التي تركت وقعا كبيرا في تفكير الفلاسفة تلك المتعلقة بـ”موت الإله”، فإله نيتشه ليس هو إله الأديان السماوية، بل عبارة موت الإله تعني موت الحداثة؛ أي بتفسير آخر سقوط كل الحقائق والمقدسات والماهيات، وهذا الاتجاه هو ما ركز عليه كثير من الفلاسفة في أعمالهم ونخص بالذكر مارتن هايدغر، مشيل فوكو، جيل دولوز، فرانسوا ليوتار مركزين على اهتماماتهم السيميائية الساسورية بالإضافة إلى جان بودريار، سيجمونت باومان عبر سيرورة مراجع أطلق عليها لقب سلسلة السوائل مركزا جلها إن لم نقل كلها على نقد الحداثة في مرحلة سماها بالحداثة السائلة.
مادا نعني بالحداثة؟ سياقاتها التاريخية؟ كيف استطاع الفلاسفة وعلماء الاجتماع إسقاطها بل وتعريتها؟ هل توجد بدائل جديدة أو في طور الإنجاز تعوض الحياة الجديدة في المجتمعات التي أصبحت فيها الروابط الإنسانية سهلة التفكيك وواجبات سهلة الرجوع، وقواعد اللعبة يتم تغييرها ولا تدوم أطول من اللعبة ذاتها؟
إن موضوع الحداثة كما يتفق على ذلك العديد من الباحثين موضوع جديد إن قارناه بمصطلح حديث، لكنها خاصية أوروبية بامتياز، تضرب بجذورها في عصر النهضة بالإضافة إلى القرنين الـ17 والـ18 وما خلفته حركة الإصلاح الديني بزعامة مارتن لوثر حيث تحالف العقلانية والبروتستانتية وإرساء الفكر الفرداني والعقلاني المعاصر مع ديكارت، والثورة الصناعية 1789 وصولا إلى القرن الـ20 حيث النمو الديموغرافي وتطور وسائل النقل والتكنولوجيا، بمعنى آخر فليس للحداثة مكان آخر غير أوروبا، وليست نمط عيش بقدر ما هي فكرة تدخل ضمن لعبة الرموز والعادات، وتغيير ذهني تتلاحم فيه الاسطورة بالواقع، تقاس زمكانيا شرط استعادتها على شكل ميتوس.
مارتن هايدغر ومفهوم الماهية
إن الحديث عن هيدغر هو حديث عن فيلسوف ناقش بمخاطرة كبيرة تاريخ اللامفكر فيه، بدءا من الثراث الفلسفي الإغريقي ثم الرومان والقرون الوسطى وصولا إلى الحداثة، إذ أن سؤال الوجود كان دائما حاضرا ومشتركا في جميع الثقافات باستثناء الجواب الرئيسي عن السؤال الأنطولوجي: ما هو هذا الشيء الذي نسميه الوجود؟ مسائلا بذلك ما كان مسكوتا عنه ومبتعدا عن ما يسمى “الماطسيس” نحو مشروع أنطولوجي بركيزة “الدازين” تحت شعار “الإنسان هو راعي الوجود”.
إن هيدغر في معالجته لأنطولوجيته ينطلق بمنهج التحليل في دراسته لأرسطو مستطردا الوجود الديكارتي لكي يقيم “لوغوس” الوجود من خلال الفينومينولوجيا التي وجدها في طريقه مع أستاذه هوسرل، تحليل يطلق عليه لقب “أونتيك” (ontique) لمناقشة ماهية الدازين التي يرفض اعتبارها مغلقة، بل في حالة تماس عاطفي، انفتاح نحو العالم، عالم “البين اثنين” متعدد الصوت يمس برنته الوجود، والتكلم ما هو إلا إمكانية إظهار الوجود في “اللوغوس”.
إن التكلم الذي يتطرق له هيدغر هو تكلم اللغة وهذه الأخيرة ليست حسبه أداة للتواصل فقط، بل هي لغة الوجود وهذا الأخير خرق للصمت؛ بمعنى آخر فالوجود هو المناداة الصامتة للمتكلم، والإنسان يستعمل اللغة لأن له حوارا صامتا مع الأشياء وكينونتها، غايته الإنصات للصوت ما تحت كلامي للوجود، فحسب هيدغر دائما نحن لا نسكن في العالم بل نسكن في اللغة، واللغة هي من تتكلم وليس الإنسان، وهذا الأخير لا يتكلم إلا لكي يجيب، والجواب يولد مع النداء ويُمحى أمامه معلنا بذلك ميلاد الدازين وبتعبير آخر “أرض الميلاد”.
إن الدازين الذي يعالجه هيدغر خاصية إنسانية بامتياز، لكن ليس هو الإنسان فقط، بل هو الموجود الذي يخرج عن وجوده لكي يؤثر في الوجود عبر التفكير والتطبيع مع الهوَ، إنه دائما في حالة فرار حسب هيدغر، لكن مِن مَن؟
يجيبنا هيدغر في كتابه “الكينونة والزمان” أن الدازين يهرب من القلق (angoisse) وليس الخوف، لأن هذا الأخير يكون أمام موجود، أما القلق فيكون أمام اللاشيء، العدم (néant)، الموت، فحسب هيدغر الإنسان منذ ولادته قابل للموت ومرمى به في هذا العالم، سيكون موجودا كجثة بالنسبة إلى الآخرين، لكنه موجود دون دازين لأن هذا الأخير مرتبط بالزمان، فالموت حسب موريس بلانشو تجربة ولا ينتمي إلينا كما يرى بذلك جان كليفيتش، ينفلت من ملكيتنا كقدر تراجيدي للإنسان فنقول: الآخر “يموت” فنحن لا نفكر في الموت بل نتهرب منه، كذلك الدازين يتهرب من القلق، العدم؛ أي عدم الحركة، فيصبح بذلك الدازين ذاتا معزولة جراء فخ “ال-هو” كأساس أنطولوجي لنفي الديالكتيك واستيلاب الدازين الملقى به في الما-سيأتي زمانيا ومكانيا بطريقة فينومينولوجية.
مسألة أخرى عالجها هايدغر متمثلة في التقنية، فكلمة التقنية إلى غاية أفلاطون مرتبطة بكلمة إبستيمي (في اليونانية تعني شعر)، وهو ما جعل هايدغر يناقشها عن طريق اللغة متأثرا بإيكارت ومستحضرا أعمال أحد أكبر الشعراء الألمانيين هولدرلن تجاه الإنسان ومسألة الوجود، فالتقنية حسب هايدغر ليست خيرا ولا شرا، بل إن ماهية التقنية هي الجديرة بالتفكير منزاحا بذلك عن أفكار مدرسة فرانكفورت النقدية معتبرا إياها سقطت في التقديس الميتافيزيقي جراء الفراغ الأنطولوجي، حيث التقنية هي التعبير الأكمل لهذا الفراغ، وفيه يتعرف الإنسان أن العدم هو أساس وجوده وعن طريق القلق يحتاج إلى النسيان لكن النسيان ينتج الميتافيزيقا.
إن التقنية حسب هايدغر ليست هي الخطر ولا وجود لأيّ شيء شيطاني، لكن ماهيتها تتضمن عناصر غامضة تهدد الكينونة لأنها جزء من “البويسيس” الذي يخترق الشعر، وبالتالي وجب فحص ماهية التقنية وهذا لن يتأتّى حسب هايدغر إلا عن طريق التمييز بين السؤال/المساءلة/التساؤل، كما يجب التمييز بين الفلسفة والفكر مشبها إياهما بالطريق والممر.
فالممر (الفلسفة) حسب هايدغر منظم لا وجود لعنصر المفاجأة فيه، نتيجته حتمية تقودنا إلى وجهة معروفة سلفا تعطي الانطباع للكل بالتواجد في نفس المكان ونفس الوقت، كنوع من اللا-عالم الذي لا مسافة فيه (A.sabatier) أما الطريق (الفكر) فهي مساحة عذراء غير موثوقة لكن في نفس الوقت غير مغلقة بل مفتوحة على كل الاحتمالات والمفاجآت، تستدعي الحذر كونها شديدة الاعوجاج لا سبيل فيها للإنسان سوى التسلح بكينونة التأويل.
إن نهاية الفلسفة التي تطرّق لها هايدغر هي نهاية فكر توارى قبل أن يؤسس لفكر جديد، نهاية فكر خلط بين الطريق والممر، فأن تكون في الطريق معناه أن تكون هنا والآن أو بتعبير ديكارت اللامسافة الممتدة في اللامقاس، نهاية فكر نسي دوره في الإنصات لصوت الوجود وخلط بين الوجود والموجود والدازين، وبذلك يكون هايدغر قد جمع بين الحركة والزمن والذات في حين أن ماهية التقنية هي سبب قذف الإنسان في هذا العالم، ومن ثم يؤكد هايدغر على ضرورة الإسراع في تفكيك ماهية التقنية لأن الإنسان حائر بين وضعيتين؛ وضعية التوريط والتورط، وضعية الوجود والموجود، الموضوع الأساسي للأنطولوجيا وتحديد الدازين كامتياز “أونتيكي”.
ما يمكن أن نختم به مقاربة هايدغر التي عالجها في كتبه سواء “الكينونة والزمان”، “التقنية”، “نهاية الفلسفة”، هو سعيه نحو تقويض الميتافيزيقا وفق ما أطلق عليه “الحداد” انطلاقا من فكرة الحركة أو المحايثة بلغة جيل دولوز، انطلاقا من تحرير الأنطولوجيا من منزلقات الفينومينولوجيا، وبعبقرية راديكالية نحت مفهوم “المنبع الوحيد” واستطاع تجاوز فخ المفاهيم “الترندستالية” التي انطلقت مع ديكارت وتبنتها الفلسفات الحديثة، ونخص بالذكر الثورة “الكوبرنيكية” وتجارب فرانسيس بيكون دون أن نغفل اكتشافات غاليلي.
جان بودريار الاستهلاك أسلوب حياة
يعتبر موضوع الاستهلاك من المواضيع التي استأثرت باهتمام العديد من الباحثين، لما له من تأثير على سلوكيات أفراد المجتمع من جهة، ومن جهة لارتباطه بعدة مؤثرات تؤثر فيه بطريقة رمزية مثل الصورة مثلا التي امتدت دراساتها مع عدد وافر من الباحثين أمثال فالتر بنيامين، رولان بارت، بيير بورديو، جيل دولوز، ريجيس دوبري، ماريو بارجاس، جان بودريار، لكن الأخير يختلف عنهم في كون الصورة كانت محور مشروعه وليست فقط مرحلة من مراحله، وصولا إلى المرحلة التي اختفى فيها العالم الواقعي حيث تصعب مقاومة الزائف أو هزيمته وعدم القدرة على التميز بين الحقيقي والمزيف أو كما يطلق عليه بـ”السيمولاكرا” في إحالة ضمنية على أعمال فيرديناند دي سوسير المتعلقة بالدال والمدلول.
من بين الأمور التي ناقشها بودريار صورة المنتج وطريقة عرضه، ويحلل دور الصورة في مجتمع الاستهلاك بتطرقه لفترينة المحل، ففي ظاهرها تعبر عن الشفافية التي ينشدها المجتمع الرأسمالي، لذلك أصبح المشاهد موجودا بالإضافة إلى مكان وتموقع الفترينة فهي تحتل مكانة سوسيولوجية وسيطة، لاهي داخل المحل ولا خارجه، لامنتمية للمجال الخاص ولا العام، ويستحضر مقولة ماكلوهان أن الوسيط أصبح هو الرسالة، الفيترينة ليست وسيطا فحسب بل هي قطب مغناطيسي. وبهذا يكون بوديار قد ظل مخلصا لمنظوره الماركسي باستخدامه لمصطلح “الفيتشية” (الصنمية) السلعية، للإشارة إلى الطبيعة الصنمية للصورة، بمعنى آخر أن الوسيط قد طغى على الدال والمدلول، وهذا هو عين الصنمية، فمجتمع الاستهلاك حسب بودريار كما جاء في كتابه “الإغواء” يؤدي إلى زيادة أوقات الفراغ والتلاعب الأيديولوجي بوعي الناس بالإضافة إلى تكريس التفاوتات الطبقية والانغماس في الموضة واللباس كشكل من أشكال الإغواء ودلالة على راهنية اللحظة، ومن ثم تصبح الرغبة مغطاة بعقلانية لكن غير حقيقية، جراء صياغة المبررات من طرف العقل وهو ما أسماه بودريار بميتافيزيقا المظهر الخارجي، لكن على الرغم من ذلك فهو لا يقدم نظريته كثورة على الصورة أو الخطاب البصري كما أنه لا يعتبر نفسه ناقدا، بل يقول عن نفسه “لا أعتبر نفسي فيلسوفا كما أنني لا أقدم خطابا ناقدا”.
أما إذا عدنا لدي سوسير الدال والمدلول لمناقشة مفهوم العلامة (la marque) فإن بودريار في كتابه التبادل المستحيل يعتبر أن العلامة تحررت من مدلولها وتحولت إلى علامة دالة على المكانة الاجتماعية للفرد داخل المجتمع، فالمهم هو العلامة بغض النظر عن المنتوج، وامتلاك هذا الشعار أو الرمز أصبح هدفا بالنسبة إلى مجتمع الاستهلاك.
سيجمونت باومان: تذويب الصلب إلى السائل
ما المقصود بالحداثة السائلة؟ وكيف استطاع هذا المفهوم أن يطغى على كتابات باومان من حسب سائل، فلق سائل، خوف سائل، روابط اجتماعية من هشة إلى سائلة…؟ كيف أصبحت المجتمعات في نظر باومان سائلة؟ ما هي بدايتها ونهايتها؟ وهل فعلا لها نهاية أصلا؟
يبدأ باومان سلسلة السوائل من الفلسفة معرجا في نفس الوقت على علم الاجتماع وصولا إلى السياسة. ففي كتابه “الحب السائل” يتطرق للحب في صلته بالموت، فكلاهما غير قابلين للتعلم، فالموت حسبه تجربة شخصية لا يحياها الفرد مشيرا في نفس الوقت إلى أن العصر “الرومانتيكي” انتهى، إذ أن الحب ليس مهارة يمكن تعلمها جراء الخبرة والمراكمة عكس العلاقات فهي وسط مُبنين متغير، كما أن الحب مختلف عن الرغبة لأن الحداثة حولت العاطفة إلى سلعة في إشارته لسيطرة الافتراضي على الواقعي وهو ما أطلق عليه باومان لقب “علاقات الجيب العلوي”.
“الشر السائل” وفكرة اللابديل هو الآخر كان حاضرا في سلسلة أعمال باومان في عمل مشترك مع الفيلسوف الليتواني ليونيداس دونسكيس مناقشا فيه نموذج المجتمع النفعي حيث تم تصوير الرأسمالية في الكتب المدرسية السوفياتية على أنها التهديد الأساسي للبشرية. في حين أنها لم تكن كذلك على الأقل في السويد، فنلندا وبقية البلدان النوردية، مستحضرا فيلم “ذيل الكلب” الذي يدور حول الحملات العسكرية في يوغوسلافيا إبان الفضيحة الجنسية لبيل كلينتون، فأصبحت الحرب غاية تمت فبركتها عبر تضليل الرأي العام عن طريق الدعاية السياسية والصناعة المزيفة للأبطال والتحكم في خيال الجماهير، من خلال فكرة الشمولية مشبها بذلك روسيا بألمانيا النازية في كراهيتها المصطنعة لأوكرانيا على طريقة النازي غوبلز، وهو ما جعل باومان يتغنى بجورج أورويل وبالضبط روايته “1984” معتبرا إياه النبي الحقيقي الذي أنذر بقدوم الشمولية، بسبب انزلاق النظام “البوتيني” نحو التوحش، نظام فاشي بلا أيديولوجية حقيقية بل فقط ديباجات مضى عليها الزمن مقتبسة من الفاشية الإيطالية والفاشية المجَرية مع بعض المكونات الصربية من مخلفات سلوبودان ميليسوفيتش، محذرا في نفس الوقت من سقوط الروس فريسة لخبراء الكرملين.
ثم يتساءل باومان متهكما: هل نحن في شتاء السخط؟ في إشارته الضمنية إلى البيت الأول والثاني من مسرحية شكسبير “ريتشارد الثالث”، وهو عنوان فصله الثاني من كتابه “الشر السائل: التحول من عالم كافكا إلى عالم أورويل” الذي يمثل الخط الفاصل بين الشر الصلب والشر السائل، ففي عالم كافكا لا نفهم ما وقع لكن نؤمن بالبديل، أما عالم أورويل فليس هناك أيّ بديل، هذا هو منطق الشر السائل أو بلغة إريك فروم “الحقيقة المتنقلة”.
من بين الأعمال التي لقيت إقبالا واسعا لدى قراء باومان نجد كتابه “الخوف السائل” الذي انطلق فيه من محاولة الإجابة عن إشكالية مفادها: كيف أقامت الدولة علية وجودها؟
إن الخوف الذي يتحدث عنه باومان هو خوف سائل بمعنى دائري وليس خطيا، لا وجود لنهاية له جراء الأخطار التي تهدد الأفراد وهو سبب وجود الدول الحديثة التي تنصّب نفسها في مهمة الدفاع، لكن هذه الدول خالفت وعدها جراء العولمة التي قسمها إلى نوعين إيجابية وسلبية، فتحولت الحماية إلى مجرد وعد بالحماية ليس إلا، معتبرا كذلك أن هذه الدول تنحو بنفسها وتترك للأسواق الرأسمالية مهمة إمداد الأفراد بالأسلحة لمواجهة الخوف والإكثار من الأخطار العاجلة والأخبار العاجلة التي تتطلب حلولا عاجلة عوض الحلول العلائقية وطويلة الأمد.
في كتابه دائما “الخوف السائل” وهذه المرة في نقده للتلفزيون وبالضبط اليوم الثالث من حزيران/يونيو 2005، اليوم الذي خط فيه كلماته عن التلفزيون يعتبره يوما غير عادي، فهو اليوم الثامن للنسخة السادسة من حلقات “الأخ الكبير”، هو يوم يعتبره العديد بيوم التحرير لكن باومان متمرد “الهولوكوست” يعتبره يوم الاستعباد والطرد، مستحضرا شخصية “كريج” المهدد بالطرد هو و”ماري” ليس بسبب شرط معين بل لأن قواعد اللعبة تستوجب الطرد، مستشهدا بدافينا ماكول مقدمة البرنامج وهي تصرخ قائلة “إن قدر كريج وماري في أيديكم، فالاختيار متاح بين طرد شخص أو غيره ولكن لا اختيار لكم بعدم طرد أيّ منهما أو السماح لهما بالبقاء معا”.
الموت هو الآخر حاضر في كتابه “الخوف السائل”، ويعتبر مؤلفه أن الإنسان يشارك الحيوانات الخوف الأول ألا وهو الخوف من الموت، الاختلاف هو أن الإنسان يعلم أنه لا مفر من الموت منتقدا بذلك السوفسطائيين الذين تجاهلوا مسؤولية العقل في تقبل الموت، فالخوف حسب باومان ليس من الموت بل لأننا نعلم أننا سنموت يوما ما، مستشهدا بفرويد (موت الآخر؛ أنت وليس هو) وهو ما سماه باومان بالأثر التعجيزي لاقتراب الموت.
يعتبر باومان أن الإنسان فيما مضى كان يخاف من العالم الماورائي، أما اليوم فأصبح الخوف من المجهول جراء فقدان السلعة أو المكانة الاجتماعية أو الوظيفة، وهو ما جعله يتطرق للبيروقراطية ويعتبرها خطرا أخلاقيا لأنها تحتاج إلى إطاعة الأوامر لا للمشاعر، ويستحضر أحد أعلام فرانكفورت تيودور أدورنو للبرهنة على أن العالم يهوى الخداع ويرفض التمسك بالحرية الفكرية في ظل مؤسسات الرفاه الاجتماعي، مختتما كتابه بضرورة الكشف عن جذور الخوف واستئصاله وهذا لن يتأتى إلا عن طريق المعرفة والفكر النقدي وتقويض العولمة السلبية المسيطرة على وسائل الإعلام والمستثمرة في خوف الناس مع ضرورة تجديد العلاقة بين المثقفين والشعب.
علم اجتماع الآلة هو الآخر كان حاضرا عند باومان ضمن كتابه “المراقبة السائلة” التي تسلب الإنسان حريته (Herbert marcuse) عبر الوسائل التكنولوجية ويضرب أمثلة بالسلعة المعروضة التي تصنف الفرد حسب مكانته الاجتماعية، بالإضافة إلى دورها “البوليسي” الخفي، حيث أصبح الأفراد سجناء الشاشة بمعطياتهم وبياناتهم الشخصية معتبرا إياهم سهلوا مهمة الأجندات الاستخباراتية في الحصول على بيانات لم تكن قادرة على الوصول إليها فيما مضى، داخل سجن تكنولوجي في مرحلة سماها مابعد “البانوبتيكون” كامتداد لعمل فوكو حول السجن الزجاجي الذي يتيح المراقبة للمراقِب ولا يتيح الرؤية للسجين، كنموذج صلب للمراقبة سبق وأن تطرق لها فوكو تحت ما يسمى “ميكرو- فيزياء السلطة”.
إن هذا التلاعب بوعي الأفراد من طرف الدولة الحديثة يجعل المجتمع يعيش حسب باومان على “رمال متحركة” من اللايقين، والمستفيد الأكبر من هذه الوضعية هي الشركات العالمية المتناقض منطقها مع منطق الدولة الاجتماعية فأصبحت العلاقات الاجتماعية تركض وتجري، إلى أين؟ لا نعلم لأن السيولة استحوذت على كافة مناحي الحياة.
إن مفهوم السيولة كما وضحنا ذلك أخذ أبعادا كثيرة بل وركيزة في أعمال باومان التي لا تقدم حلولا بقدر ما تقدم تشخيصا جراء الحداثة المفرطة كمفهوم سياسي، كما أنها مفهوم سيكولوجي يحيل على استقلالية الفرد وظهور مكانته الشخصية بوعيه واستيلابه المعاصر وهويته المفقودة (الوسواس القهري الادماني) وهي أيضا واقع كرونومتري يعكس ماضيا وفق جدلية خاصة به يعترض على التقليد ويحترس من التغيير، يفكر في ذاته تاريخيا وليس أسطوريا ويخلف زمنا لا يعرف الاستمرار بل التقطيع، كوجه آخر للديمومة التاريخية.