عداء مستحكم ضد المدن
زرت بيروت قبل أشهر قليلة من الانفجار في مينائها والذي دمر جزءا كبيرا من مشاهد الحياة المتبقية فيها. بيروت مدينة منكوبة حتى من قبل الانفجار، لكن الانفجار جاء ليستكمل المشهد. في الزيارات السابقة كانت كل المؤشرات تدل على الاضمحلال لأسباب سياسية. في الزيارة الأخيرة كان يكفي أن تتجول في أحياء وسط المدينة المستعادة من حرب سابقة، لتدرك أن صناع الحرب كان يروّعهم أن يروا عودة الحياة. مناطق مغلقة بالكامل، والصامدون يقفون خلف فترينات المحلات ينتظرون زبونا لن يأتي.
هو العداء المستحكم ضد المدن في عالمنا العربي. لا أعرف إن كان من الإنصاف إطلاق أوصاف مثل “ترييف” المدن العربية. الريف العربي المسالم منكوب هو الآخر. لكن من الواضح في عدد لا يستهان فيه من المدن العربية أن وعيا مضادا للمدينة نشأ واستحكم وقرر انتهاك فكرة تأسيسها وديمومتها.
بيروت ليست المدينة الوحيدة التي تم تدمير جزء منها بشكل كبير. عشت في مدينتين عراقيتين أصيلتين تم تدمير أجزاء كبيرة منها: الرمادي والموصل. الدمار هنا مرتبط بعمليات عسكرية لا أعرف مدى القدرة على تبرير الكثير منها. وجود قناص أو قناصين من مجرمي داعش على سطح مبنى عامر وسط الموصل لا يبرر استدعاء الطائرات الأميركية لمسح المبنى بضربه بقنابل ثقيلة.
لكن تدمير المدن العربية بدأ مبكرا ولا يزال مستمرا. التغييرات المجتمعية في كل الدول العربية جعلت المدن ملاذا لعشرات الملايين من أناس ما عادوا يحتملون حرمان الجهويات وإهمالها. كندا وأستراليا والولايات المتحدة وتايلاند تنتج الحنطة والشعير والأرز، ونحن نأكل ونتكاثر. نموّ سكاني في جزء منه غذاء رخيص وجزء آخر انعدام المسؤولية الرسمية والشخصية وجزء ثالث تحريض ديني. القرى والبلدات تضخ بأجيال من الباحثين عن فرصة، والمدن تتضخم بمن فيها ومن القادمين. أهل المدن لم يقصّروا بدورهم، وامتلأت الشوارع والأزقة والأحياء. والمدن تعاني. مدينة مصممة لمليون أو مليونين، يسكنها ثمانية ملايين أو أكثر. أيّ مجارٍ، قبل أن نقول أيّ شوارع، ستستحمل كل هؤلاء؟
انظروا إلى العداء للأرصفة. للرصيف مهمة محددة. أن يسمح للمارة بالحركة. ما هو حال الرصيف في مدينة عربية متوسطة السكان؟ إما مكسّر تكسيرا ولا يتم تصليحه، ومشهد الحفر وفتحات المجاري التي تمت سرقة أغطيتها وصهرها، والترقيعات تمديدات الكهرباء والماء البائسة تشكله، أو يفترشه أصحاب البسطات من تجار فقراء لا يستطيعون دفع خلوّ المحالّ التجارية أو إيجاراتها. في أيّ فسحة رصيف متبقية، ستجد سيارة متهالكة تستغل الموقف المجاني. في وسط الشارع يختلط المارة والسيارات معا.
خذ مثلا أجمل مكان في الإسكندرية: الكورنيش. هناك صفوف من المنازل والأبنية الجميلة مبنية من زمن أزاحه زمن عشوائي. أمام هذه الأبنية الجميلة والتي تئن، هناك صفوف من العمارات الشاهقة الانتهازية والتي نسيت لون الصبغ منذ زمن طويل. ولكي يمعن “المخطط الحضري” في إيذاء المدينة، اختار أن يجعل الطريق السريعة بحوارٍ عريضة لتأكل الكورنيش ويحوّله إلى مجرد مسارات خرسانية وإسفلتية تفتقد حتى إلى الحد الأدنى من التواصل بين المباني والساحل الرملي. الأنفاق المتباعدة تحت هذه الطريق السريعة لا تستقطب أحدا، ومشهد عبور المارة على الطريق السريعة بين السيارات التي لا تلتزم بالحد الأدنى من قواعد المرور هو مشهد من فيلم رعب.
يحذّرونك من مدن الصفيح التي تخنق المدن الكبرى. تتخيلها على أطراف المدن، حتى تقود سيارتك على طريق سريعة معلقة وسط مدينة عربية مكتظة، لترى أن أسطح كل البنايات هي مدن صفيح كاملة الأوصاف. تدخل شقة الصديق فتجدها واحة، وتسأل لماذا كل هذه القذارة في المدخل وعدم الاهتمام. ما عداوتكم مع مصباح المصعد؟ لماذا لا تحلو الذكريات إلا عندما يتم حفرها على معدن تلك المصاعد أو خشبها؟ لماذا لا يتم صبغ البناية وهي مبنى خاص ولا ينتظر من البلدية أن تصبغه؟
حتى السيارات مهجة المدن في العصر الحديث تعامل بنفس الطريقة. الجميع يحلم بشراء سيارة. ثم يشتري السيارة وتبدأ رحلة عذابها. صحيح أن الشوارع متربة، لكن هذا لا يعني أن تترك السيارات بكل هذه القذارة الداخلية والخارجية. وصحيح أن فوضى المدن تتسبب بالكثير من الحوادث الصغيرة والاحتكاكات، ولكن ما معنى ألاّ يتم تصليح ضوء الإشارة وغطائه الملون أو أن يصبح بدن السيارة كالجلد المصاب بالجدري من كثرة الرصعات في أنحائها.
لا يمكن إحصاء الدمار في مدننا، الظاهر منه وغير الظاهر. مدينة بملايين البشر لا تصلها الكهرباء إلا ساعتين يوميا أيضا دمار، لأنها ستعيش بطريقة مختلفة، إما ببؤس الظلام والحر، أو بضوضاء مولدات الديزل وأبخرتها. والحبل على الجرار.
التدمير السريع لقلب بيروت مؤلم وصادم. ولكن الدمار منتشر أكثر مما نتخيّل.