على قارعة الوطن
يتحكم الملمحان السابقان في إسهام المثقف سياسيا من وجهة نظر فوكو، وما يعنينا هنا هو ما يمكن أن ينيره الكلام السابق في تجربة وليد علاء الدين كمثقف قرر أن يلعب دورا ثقافيا/سياسيا، واختار لهذا الدور شكل مقال أسبوعي في واحدة من أكثر الجرائد انتشارا في مصر والعالم العربي هي جريدة المصري اليوم.
القالب السردي والانتماء الثقافي
من يقرأ مقالات وليد سيلحظ انسياب اللغة بلا عنت أو تكلف، ما يعني انسياب الأفكار بوضوح يسمح لك بمعارضتها. ولعل قدرة الوعي على إنتاج أفكار قابلة للنقد من المعايير الأساسية في صلاحية هذه الأفكار وقدرتها على التأثير في وعي القراء. وبعيدا عن الوصف المجرد أود هنا الوقوف عند ملمح رئيس تكاد مقالات هذا الكتاب تجتمع حوله ألا وهو القالب السردي الذي اختاره علاء الدين ليطرح من خلاله أفكاره الناقدة. يمكن تقريب كتابات وليد النقدية هنا من نوعين سرديين هما القصة القصيرة والمسرحية.
لوليد علاء الدين خبرة في الكتابة السردية، حيث فاز في العام 2006 بجائزة الشارقة للإبداع العربي بمسرحيته البديعة “البحث عن العصفور” ويبدو لي أن القالب السردي الذي يصبّ فيه وليد أفكاره الناقدة أقرب إلى السرد المسرحي من جانبين: الأول هو دور الحوار الرئيس فيه، والثاني حرص الكاتب على فكرة التجزيء المشوق التي لا تقدم الفكرة الرئيسة للمقال منذ البداية، بل تحرص على تدريجها وتوزيعها بمنطق يشبه إلى حد كبير توزيع الدلالة على فصول مسرحية. إنه يجاهر بحالة المسرحة في أكثر من مقالة لعل أهمها المعنونة بـ”مشهد يومي” حيث يقدم مشهدا مسرحيا مكتمل الأركان يبدأه ـ كأي كاتب مسرحي ـ بتحديد الزمان والمكان وشخوص المشهد.
يخرج عن هذا القالب السردي المسرحي أو القصصي بعض المقالات التي أتت من سياق آخر؛ كتلك المقالة الملخصة لبحث الماجستير الذي حصل عليه وليد في مجال الإعلام، والتي تحمل عنوان “آليات الصحافة المصرية في خدمة مصالحها”؛ إذ يختفي فيها السرد المتلاعب ليقترب منطق طرحها ولغتها من البحث العلمي المنضبط الذي يستعرض نتائج مبنية على مقدمات لها سمت أكاديمي صارم.
سردية وليد ـ سواء ما يقترب فيها من القصة القصيرة أو ما يقترب من المسرحية ـ تخفي لعبا خفيف الروح ناقدا وغاضبا أحيانا. هو يمارس تأملا جادا عبر حالة لعب أحسب أنها تعبير عن رغبته في الحفاظ على حريته في التأمل. إذ يبدو حرصه على قالب الهزل الساخر محاولة للحفاظ على مسافة نفسية بينه وبين ما ينتقد، إضافة إلى ما يعكسه ذلك من رغبة في أن تصل أفكاره للقارئ في إطار مشوّق لا يترك أثرا لمللٍ. لكن هذه المسافة التي يصطنعها وعي الكاتب تذوب أحيانا فتعلو نبرة السخرية مخترقة قالب اللعب الواعي لتصبح صراخا موجوعا معبّرا عن حالة من الغضب الممزوج بمرارة عميقة. يظهر ذلك دوما حين يصف عذابات المواطن المصري في مواجهة دولة يخيّل للناظر على كيفية تعاملها مع جماهير الشعب المصري أنّ وجودها قد صار هدفا في حد ذاته، أو أن الشعب هو من يخدم الدولة والنظام وليس العكس. يتجلى ذلك حين يتعرض علاء الدين لحالة الفوضى التي تسم بعض المصالح الحكومية في مقاله “اصنع كهربتك في بيتك” بقوله “كنت أريد أن أنقل تجربتي الشخصية في التعامل معهم في مكتب السيوف بالإسكندرية، وأن أشرح كيف يديرون أمورهم من خلال شبكة علاقات مع الموظفين الرسميين، تسمح لزبائنهم بإنجاز معاملاتهم مبكراً وتفادي الاشتراك في لعبة عجين الفلاحة التي يلعبها بقية المصريين داخل الغرزة (التي يُطلق عليها اصطلاحاً وتجاوزاً مكتب الشهر العقاري والتوثيق)”.
على أن المرارة التي تنضح من بين سطور مقالات وليد حين يتعلق الأمر بمعاناة المواطن المصري تعلن عن انتمائه الثقافي وموقعه ـ الذي أشار له فوكو ـ ضمن معادلات السلطة الاجتماعية والسياسية المتناحرة التي تعصف بالثقافة المصرية وبالمجتمع المصري. هو منحاز للأضعف والأكثر هامشية والأوهن صوتا.
اكشف يا سمسم
من حقنا أن نسأل هنا ـ بالنظر لفكرة فوكو التي بدأنا بها المقدمة ـ ما نوع الحقائق التي يكشف علاء الدين اللثام عنها؟ أو ـ بعبارة أخرى ـ ما المساحات التي تسعى مقالاته لتعريتها في الثقافة المصرية؟
هنا سيجد القارئ نفسه أمام وعي مركّب يتحرك في اتجاهات عدة بدرجة عالية من النشاط والثقة في إمكانية التغيير: الاتجاه الأول هو نقد الذات بلا تهوين أو تهويل. إنه يؤمن إيمانا عميقا بأن الحركة للأمام هي وليدة الوعي بمشكلات الذات وأماكن عطبها أولا. ولعل هذا ما تؤكده الجملة الافتتاحية التي صدر علاء الدين بها كتابه “من يحب المصريين فلينتقدهم، ولا ينفخ في بالونات وهمهم إلى أن يختنقوا بها”. إنه وعي يرى أساس الأزمات في التمويه على الذات والإعلاء الفارغ من مساحات قوتها التي ـ حتى وإن كانت حقيقية صادقة ـ تُستخدم في سياق سياسي دعائي وبصورة متعمدة لإخفاء إخفاقات الذات وتشوهاتها. الإخفاق والتشوه عادة ما تسعى أنظمة مصر المتعاقبة لإخفائه كمن يخفي عورة شخصية، أي كمن يظن إعلان التشوّه والإخفاق في ثقافتنا هو إعلان لتشوّه وإخفاق في شخوص القائمين على النظام أنفسهم. لقد وصلت حالة التمجيد التمويهي الفارغ للذات في الخطاب الرسمي المصري إلى حدود الكارثة، ولعل تلك الحالة أن تكون من أهم أسباب ثورة 25 يناير بموجاتها المختلفة. تقف مقالات وليد علاء الدين ضد هذه الحالة من تزييف الوعي التضخيمي إذا جاز التعبير منذ فترة غير قليلة. وأذكر شخصيا أن وليد قد أرسل لي مقالا في العام 2005 عن نقد الشخصية المصرية، وهو موجود في هذا الكتاب، وأذكر معاناته في محاولة نشر المقال الذي وجد معارضة حادة من مختلف جهات النشر ومنها مجلات وجرائد كانت تبدو على السطح معارضة، حتى وجد طريقه للنشر في مجلة “أدب ونقد” بدعم وإعجاب من الشاعر الراحل حلمي سالم. وأحسب أن الرفض لم يكن بسبب زيف ما حواه مقال وليد أو خطأه، بل ربما بسبب صدق مضمونه وشدة صوابه. النقد الحاد الكاشف يتجلى في معظم مقالات هذا الكتاب. وتكفي الإشارة إلى بعض المقالات مثل “جينات العبقرية المصرية” و”لا عمدة نافع ولا شيخ بلد” المقال الذي يحوي الجملة التي اختارها وليد مفتتحا للكتاب، و”نحن المصريون القدماء”.
الخط الثاني في وعي وليد مما يظهر في ثنايا هذا الكتاب هو المسافة التي تفصله عن موضوعات نقده ما يتيح له القدرة على إدراك مسار الأحداث وانتقاء ما يستحق الوقوف عنده بالتحليل والفضح والمناقشة. الملمح السابق يتّسق مع ما يطرحه إدوارد سعيد عن اغتراب المثقف وقدرته على رؤية وطنه من مسافة تسمح له ليس بفهم الأحداث منفردة، وإنما بإدراك صيرورتها واستكناه الروابط بينها (2). يتضح ذلك حين يقف وليد بالنقد عند ما يبدو للجميع أمرا عاديا وربما لطيفا في مقاله الممتع “سلامتها أمّ حسن”. المقال يتعرض لكفاح سيدة مصرية عظيمة في قدرتها على تجاوز ظرفها المادي القاسي ونجاحها في تربية خمسة من الأبناء ليخرجوا نساء ورجالا متعلمين نابهين. حتى هذه النقطة لا خلاف ولا نقد هناك. النقد والخلاف يأتي حين تستضيف إحدى الفضائيات الست أمّ حسن المناضلة في سبيل تربية أبنائها لتعرب السيدة الفاضلة عن رغبتها في أن تصبح عضوا بمجلس الشعب القادم كنوع من المكافأة لها على ما لاقته من شقاء. هنا ينتبه الحس المحتفظ بمسافته النقدية والقادر على إدراك مسار الأمور وارتباطاتها. تقفز أسئلة مرهقة وموجعة في ذهن وليد: ما الذي تفهمه هذه السيدة عن دور النائب في البرلمان؟ وما نوع الوعي العام الذي تجلى على لسان المذيعة التي لم تر في ما تقوله الست أمّ حسن أي غريب يستوقفها، حتى إنها ـ المذيعة ـ ناشدت الرئيس السيسي ـ متبعة في ذلك نداء أمّ حسن ـ أن يستمع لرغبة هذه السيدة المكافحة؟ ما مفهوم البرلمان في التجربة السياسية المصرية في سنوات حكم مبارك السوداء التي نما وترعرع فيها وعي المذيعة وأمّ حسن وملايين المصريين غيرهم؟
لقد انتبهت قرون التحليل عند وليد هنا، لا لأن الحدث نفسه ساخر ويحمل من الخلط العقلي والضحالة الفكرية والسياسية ما يدعو للرثاء، ولكن لأنّ هذا الوعي هو ما يجب العمل عليه لتجنّبه وتغييره في آن إن كانت مصر في سبيلها لتجاوز حقيقي لعثرتها التاريخية. الوعي الذي طرحته أمّ حسن هو تعبير عن أزمة قادمة في برلمان الثورة الذي يبدو أن الناس ـ بسبب ما تربّوا عليه ـ يريدونه امتدادا لحالة البرلمانات الخدمية التي تؤسس لطبقة سياسيين تقدم خدماتها لمن يعجزون عن أخذ حقوقهم، في مقابل احتفاظهم بمواقعهم السلطوية وتحقيقهم لمكاسب عبر صفقات خاصة، ليدور حول هذه الطبقة طوائف من المنتفعين الذين لا يظنون أن لعضو مجلس الشعب دورا آخر سوى توظيف أبنائهم وتعجيل قرارات علاجهم على نفقة الدولة.
بمثل هذه الروح الناقدة الساخرة التي لا تتغيى سوى كشف الأغطية عمّا تحتها من فساد وتشوّه تلبس كل منهما ثوب البداهة، سيبحر القارئ بين دفتي هذا الكتاب، الذي يمكن وصفه بأنه خطاب نقدي ينتمي لمجال الدراسات الثقافية. والهدف هو دعم التغيير الإيجابي القادر على صنع غد أفضل لمصر.
[1] Foucault, Michel, and Gilles Deleuze. 1977. “Intellectuals and Power.” In Language, Counter-Memory, Practice: Selected Essays and Interviews, edited by D. F. Bouchard. Ithaca: Cornell University Press, 207.
[2] انظر:
ـ إدوارد سعيد، المثقف والسلطة، ت: محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006، ص 111.