في عمق البحر
"لا تسبح بعيدا يا باسم" كان ذلك هو صوت أمي القلقة دائما والباردة مؤخرا قبل أن أعدو تجاه البحر تاركا عويناتي بجانبها لتصبح الرؤية هلامية. أرى السماء ملونة بدرجات من الأزرق الفاتح وفي المنتصف قرص أبيض به قليل من الأصفر يحرق عينيّ عند محاولة النظر إليه بتركيز لثوان. أضحت الرمال طينية تحت قدميّ والمياه الباردة تداعب فخذيّ. أشعر برذاذ البحر البارد يداعب وجهي. رويدا رويدا يختفي كرشي الصغير الذي برز مؤخرا من “الرمرمة” كما تدعوها أمي، أغوص تحت المياه التي تتحول سريعا من البرودة إلى درجة حرارة جسمي. أشعر بحرارة الشمس على رأسي الذي خلا من الشعر دون أن أشعر وقد تقبلت غيابه كما تأقلمت مع الفراغ الذي تركه رحيل المقربين إليّ. أسير قليلا متحسسا الحجر والرمال بباطن قدميّ حتى أصير بلا طول فأبدأ في السباحة ناظرا إلى الشمس المنتصفة السماء.
إنها المرة الأولى التي أعوم فيها منذ وفاة أبي العام الماضي في حادث سيارة مفاجئ ولم يمر على أسرتنا المشؤومة سوى شهرين وتلته وفاة جدتي من ناحية أمي بالمرض “البطال” كما تدعوه أمي دائما. وبذلك صرنا أنا وأمي وحدنا. فلقد كنت بلا أخوة وقبل وفاة أبي لم يكن متبقيا لنا سوى جدتي. الغريب أنني أتذكر يوم وفاة جدتي أكثر من أبي. أعتقد لأنني رأيت الموت في هذا اليوم متجسدا في شخص أحبه مستلقيا على الفراش وقد طبعت على جبينه البارد قبلة مبللة بالدموع. بينما جثمان أبي لم يره أحد سوى أمي وكان مشوّها حسب كلامها. أعتقد أن الحياة أضحت بعد وفاة جدتي بالنسبة إليّ سرطانا ضخما لا يمكن القضاء عليه ويعتمد بقاؤه على سحب روحي!
أفضّل مطروح دائما عن الإسكندرية، ربما لأنها صورة مصغرة من الأخيرة لكن بلا زحام أو ضغط عصبي. ومع وجود بيت عائلة أبي بشاطئه الخاص صارت مطروح وجهتنا الدائمة للتصييف. ألححت على أمي كثيرا حتى تأتي معي في هذه الإجازة التي حصلت عليها بصعوبة من شركة الأدوية التي أعمل بها. الغريب أنها أرادت الذهاب بعد وفاة أبي والإقامة في هذا البيت بقية عمرها. لكن استحالت تلك الرغبة بعد وفاة جدتي إلى نفور شديد بلا سبب مفهوم!
صار الشاطئ بعيدا جدا وأضحت أمي نقطة متناهية الصغر. لقد تركتها وهي تقرأ بالفرنسية كعادتها “الغريب” لألبير كامو تلك الرواية التي تحولت إلى كتابها المفضل منذ وفاة جدتي، وصارت متشابهة مع بطلها في عبثية الحياة فهي تخرج أحياناً كثيرة من منزلنا في الإسكندرية لتسير حافية القدمين على الشواطئ أو تقول جملاً تدل على فقدان الرغبة في الاستمرار مثل “كله محصل بعضه، مش فارقة، متى أموت؟” وغيرها من الجمل التشاؤمية.
أشعر دائما بالعجز أمام الرد على جملها. وأتساءل أحيانا “هل هي عصارة خبرات سنين حياتها؟ أم مجرد رد فعل لما حدث في العام الماضي؟” فقد انهارت من البكاء في الجنازة الأولى بالكنيسة، وتمت تهدئتها بصعوبة شديدة، بل وتركت التدريس لفترة بعد وفاة أبي. بينما في جنازة أمها فكانت تشبه “ميرسو” بشدة لم يظهر عليها التأثر نهائياً لدرجة أن بعض زملائها في المدرسة عندما أتوا ليلا في قاعة العزاء ظنوها شربت أو تعاطت شيئا كي تكون في مثل هذه اللامبالاة حتى إنه في اليوم التالي عادت للعمل!
عندما أبحث عن سبب لهذا التصرف أرجّح بأنه عندما يرى المرء الموت مرة فإن بريقه يختفي في المرة التي تليها.
بمناسبة البريق… الذي لا أرى سواه في البحر… أرى شخصا آخر من بعيد يسبح، يبدو أنها فتاة من شعرها الأصفر المتطاير. لكن كيف دخلت إلى هنا وهذا شاطئ خاص؟ يذكرني شعرها بنادين… نادين هي خطيبتي التي ستصير زوجتي في نهاية الصيف بعد أن أجلنا زفافنا بسبب حالات الوفاة المتتالية… في الحقيقة أنا غير مستعد لتلك الخطوة على الإطلاق؛ رغم احتمالها وصبرها في العام الماضي وعدم اعتراضها على تأجيل الزفاف مثل أمها.
أعتقد أني أحبها أو “أظن” أنني أحبها وهذا هو اللفظ الأدق في التعبير عن مشاعري تجاهها فلم أعد أستطيع الجزم بأيّ حقيقة ثابتة في حياتي.
إنها لا تفهم طبيعتي وربما لم تعرفني من قبل فنحن لم نتشاجر يوما مثلما يفعل الأحبّاء وقصة حبنا روتينية مملة مثل حياتي… ربما لأني لست الرجل الأول في حياتها ففي الحقيقة أنا الخطيب رقم ثلاثة! أشعر دائما أنها حريصة للغاية في كلامها وأفعالها معي.
الحقيقة التي أخاف الإقرار بها دائما هي أنها لا تشعر بالأمان معي… ربما تظن أنني سوف أهجرها إن أقرت بحبها لي في يوم من الأيام مثلما فعل خطيبها السابق الذي تركها قبل زفافهما بأسبوع. إنها لا تزال تحبه حتى وإن أنكرت ذلك ملايين المرات فمعظم أحاديثنا لا تدور سوى حول “يوسف” والجرح الغائر الذي تركه لها.
غاصت الفتاة التي كانت أمامي ولم أعد أراها تعود لسطح المياه منذ أكثر من دقيقة… أين ذهبت؟
موجة ضخمة في طريقها إليّ… لم أستطع أن أملأ صدري بالهواء الكافي كي أغوص تحتها من المفاجأة… يهرب الهواء من صدري سريعا كالبحارة من المركب الغارقة… أغرق ولا أرى حولي سوى درجات اللون الأزرق يتخللها السواد… لقد فرغ صدري من الهواء، ويبدو أنني أموت.
أتذكر الليلة الماضية في الظلام الدامس حينما كنت واقفا في الشرفة مع أمي نعد النجوم كعادتنا في المصيف… شاهدنا أحد النجوم تسقط وسريعا ما قلت لأمي أن تتمنى شيئا. وكانت إجابتها غريبة فقد قالت لي ونحن نتناول العشاء بعدها إنها تمنت لي أن أرى من يحبوني مجتمعين حولي.
أفتح عيني بصعوبة تحت المياه لأرى وجه الفتاة التي كانت أمامي محدقة في وجهي إنها نادين بالفعل. ولكن كيف؟ هل تبعتنا إلى المصيف؟ وهل أتت وحدها أم اصطحبت أمها لتزعج أمي؟
قبلتني على فمي. فشعرت أن بإمكاني الكلام والتنفس مرة أخرى… يبدو أن لديها قدرات خارقة لم أكتشفها من قبل؛ وقبل أن أتحدث وضعت يدها على فمي لألتزم الصمت، وأشارت بإصبعها إلى أن أغوص وراءها.
أرى نورا ساطعا من بعيد وسط ظلام البحر… تتراجع نادين لكي تسبح بجانبي، واندفعت أنا تجاهها… دخلت في دوامات متعددة… مررت بأربعة ثم مللت من العد بعدها مثلما مللت من كثرة المشاكل في حياتي فأستحيل إلى آلة بلا مشاعر مصممة لراحة الآخرين عندما تكثر عليّ.
تريدني أمي أن أمكث معها قليلا حتى لا تشعر بالوحدة التي أقحمت نفسها بها… فلأقضي معها بعض الوقت… تغير نادين رأيها في لون الستائر – بسبب أمها – بعد أن قضيا شهرا يبحثان عن هذا اللون فلأغيره… يريدني العمل أن أذهب لمنطقة جديدة وبعيدة للقيام بالدعاية عن أدوية الشركة رغم وجود من هم أقرب إليها… فلأذهب حتى وإن لم يختلف الراتب!
أضحت حياتي دوامات من المشاعر والطلبات، منذ وفاة أبي يجب على القيام بها حتى أقنع نفسي بالحياة. إنني محبوس داخلها، ففقدت رغبة الخروج منها… إذن فلأدر حتى أموت ففي الموت راحة.
تتوقف الدوامات فجأة، فأرى أبي يبتسم لي ابتسامة تشبه تلك التي ودعني بها قبل الحادث… أفتقد حضنه بشدة، وأسبح تجاهه محاولا احتضانه لكنه يسبح بعيدا كلما اقتربت منه.
تظهر جدتي في الجهة المعاكسة، ويتكرر ما حدث مع أبي عندما حاولت الاقتراب منها وكأننا متصلان بعصا معدنية خفية مصدرها جانبي فكلما اقتربت من أحدهما يبتعد بمدى قربي له.
ظللنا على هذا الوضع لفترة. حتى يئست وبكيت واضعا وجهي بين كفي فأنا بلا رفيق أو معين في تلك الحياة… ما فائدة وجود أحبائي حولي وأنا لا أستطيع الشعور بهم؟ فحتى نادين اختفت الآن من حولي مثلما اختفت وقت وفاة أبي وجدتي بحجة أنها لن تستطيع التخفيف من أحزاني.
أبي عن يميني وجدتي عن يساري وأشعر بمن يسبح خلفي. أنظر لأجد أمي تسبح بسرعة شديدة تجاهي، ويقترب أبي وجدتي مني مع اقترابها بينما مازلت في المنتصف.
تأتي لحظة نتلامس نحن الأربعة معا، فيضعون أياديهم حول عنقي ثم يعطونني دفعة قوية، فأسبح بسرعة شديدة شاعرا بقوة العصا المغروزة بجانبي وقد شعرت بجرح جديد في نهاية ظهري ثم مررت وقروش تحاول التهامي، وصخور ترغب في تكسيري، وألم الجروح يزداد طرديا مع سرعتي.
أفتح عيني لأجد نفسي طافيا على السطح، أشهق بشدة صارخا وكأنها المرة الأولى التي أتنفس بها… تنظر لي الفتاة الشقراء من بعيد… إنها ليست نادين. ولم تكن نادين منذ البداية إنها مجرد سائحة سبحت بعيدا عن أحد الشواطئ المجاورة لنا. الألم مستمر في جانبي وظهري ولكن بدرجة أخف أتحسس مكانه لأجد بعض الخدوش البسيطة. أضع يدي حول عنقي لأجد قلادة مكونة من ثلاث أصداف سماوية اللون ملتحمة في المنتصف، يربطها حبل أسود سميك.
أقترب من الشاطئ وأبدأ في الزحف بصعوبة على الرمال الخشنة يلفح ظهري الهواء البارد… أقف بعد سقوط متكرر وكأنها المرة الأولى التي أسير فيها. أجد أمي مستلقية على كرسيها وعلى صدرها رواية “الغريب”. أنادي عليها لكي أوقظها وأروي لها ما شهدته للتو، وأريها قلادتي الجديدة لكنها لا تجيب. يرنّ الهاتف وأنظر للمتصل إنها نادين. إنها المرة الخامسة التي تحاول الوصول إليّ بها… أجفف جسمي بالمنشفة سريعا لأرد ونادين تزعق في الهاتف بسبب عدم ردي سابقا. وخلال استماعي لوصلتها من النهر والانتقاد ومعاملتي لها مثل يوسف أتجه لأعرف سبب عدم إجابة أمي لأكتشف أنها ماتت.
” إلى اللقاء يا نادين.” أغلق الخط وأعدو إلى البحر مرة أخرى. أصرخ حتى أشعر بألم في حلقي. هذا هو الألم الأول الذي أشعر به منذ سنين… أنا حيّ!