المخاتلة الروائية ومناقضة الصور الجلية للأشياء
مرة أخرى يبدو الروائي المغربي الميلودي شغموم مهووسا بسؤال الحقيقة الأصلية التي يسعى الجميع لإخفائها، بدءا من المحيط الاجتماعي العام وانتهاء بصنّاع الالتباس المهرة، من سياسيين وإعلاميين وجمهور متعلّق بالتزييف والإثارة وقتل الحقائق.
فبعد تنويعات شتى لماهية الحقيقة الضائعة والمخفية في نصوص سابقة تلبست بالنادر والنفيس كالمخطوط في رواية “سرقسطة” واللوحة الفنية في نص “المرأة والصبي”، وبظواهر أخرى في نصوص مختلفة، تأتي حقيقة الشخص المسمّى “ناصر الفكاك” في رواية “أرانب السباقات الطويلة”، وواقعة اختفائه التي لن تكون إلا ذريعة للإيهام بحقائق شتى، لا تضمر شيئا في النهاية إلا متاهات الالتباس الأبدي.
ولأن الميلودي شغموم باحث أصيل في حقلي الفلسفة والتصوف، حيث الظاهر خادع واليقين عزيز، فما فتئت الوقائع الروائية تنتسج لتكثيف الوعي بمآزق التعلق بالصورة الجلية للأشياء، التي لن يورث التوقف عندها، والاكتفاء بحدودها، سوى الوقوع ضحية “القناع” المؤقّت والمغرض، ذلك الذي يمثله في حلبة السباق “الأرنب” المأجور للتغطية على حقيقة البطل، الذي ما هو في النهاية إلا “ظل” للحقيقة بلغة الفلسفة، بإمكانه دوما أن يتحول وينتقل، كما قد يختفي في لحظة ما حين تكون شمس الحقيقة في أوج تجلّيها.
تحكي الرواية قصة العميد ممتاز “ناصر الفكاك”، المنحدر من وسط عائلي متواضع، ممتهن للتجارة، بمدينة ابن أحمد، لم يكن بمقدوره الإنفاق على تعليمه، لولا إلحاح الجارة اليهودية “مسعودة” التي أعجبت بالطفل، وتكفلت بجزء من مصاريف دراسته، ولولا طموح ذلك الطفل المتوقد، والمنتمي إلى جيل تواق ومقاوم في مغرب النصف الأول من القرن الماضي، الخارج لتوّه من تجربة الاستعمار.
حكاية تشبه غيرها من حكايات الأبطال القادمين من الهوامش لتجاوز شقاوة الأصل وبناء مسار وظيفي ينتشلهم من مرتع الطفولة الخاملة، ويطلق أحلامهم في آفاق المدن الحقيقية الواسعة والمعقدة، مثلما هو حال “ناصر الفكاك” الذي “ولد في سهل منبسط وتشبعت عيناه بآفاقه، ثم زادت من اتساعه الحكايات والزيارات لأماكن مختلفة، قبل أن يكتشف أن العالم لا يقف عند سيدي محمد الفكاك، أو ابن أحمد، ولا حتى الدار البيضاء، فأحب كل هذه الأماكن، والحيوات، الواقعية، بقدر ما تعلّقت روحه بالمواقع، والحيوات الخيالية: أمور تتقرر في الصغر ولا تعوضها إرادة بعد ذلك” (ص ص45 – 46). ومن ثم فإن مساره لم يكن هينا ولا متوجا بالنجاحات السهلة، بل كان قدره الانكسار، شأن مسارات كثيرة في مغرب الاستقلال.
لا جرم إذن أن ينتهي ناصر الفكاك إلى الاختفاء (والتلاشي الحسي الملتبس) بعد تجربة احتجاز عابرة في مستشفى الأمراض العقلية، الذي أدخل له بقرار من القاضي، إثر محاكمته بتهمة زنى المحارم (اغتصاب بناته الثلاث).
وللكشف عن دواعي هذا الاختفاء وما يضمره من حقائق وألغاز، يوظّف المبنى السردي آليتين متساندتين في الظاهر، ومتعارضتين في العمق، هما البحث البوليسي والتحقيق الصحفي؛ متساندتين بالنظر إلى توسلهما بالقرائن ذاتها المتصلة بملف الجريمة الأصلي، تلك التي تجتبي ضحيا أبرياء مجرد “أرانب” وضعوا للتمويه وتحمّل الوزر، ومتعارضتين بالنظر إلى اتصال التحري البوليسي بإرادة السلطة لإجلاء الحقيقة التي تريد فقط، والتي لن تكون يوما نهائية. واتصال التحقيق الصحافي بذهنية الجمهور التوّاق إلى السخرية والتلفيق والانتقام الرمزي من كل ما قد يتصل بالسلطة.. وفي النهاية تتحول الحقيقة المضمرة إلى شيء ثانوي بإزاء الصور التضليلية المتقنة وبالغة الإثارة. تلك التي يقول السارد بصددها في مقطع بالغ الدلالة “أغلب الصحف اليوم تدين المتهم، والمشتبه فيه، قبل أن تدينه المحكمة، ويتنافس صحافيوها في ذلك: وقائع قليلة، أو كثيرة، مع بعض الخيال، وتأتي الإدانة فورا.. وهناك من بينهم من يجعل من مثل هذه القضايا مناسبة لتعرية حياة المتهمين والكشف عن كل صغيرة وكبيرة في معيشهم حتى لو كانت فيها إساءة كبيرة وقذف وتشهير: من الصعب أن يفهم المرء كل هذه الكراهية، من طرف بعض الصحافيين، وأقصد غير المرتشين، تجاه رجال الأعمال والساسة ورجال السلطة، ناهيك عن البسطاء والضعفاء من الناس في هذا البلد” (ص33).
هكذا يعود التحقيق إلى الأصول: المنبتّ والمحتد، إلى الجد العابر، والجدة العمياء، وإلى مدينة ابن أحمد، وموسم اليهود، والراوي الأعمى، وضريح سيدي محمد الفكاك، وطقوس الفروسية والغناء والرقص الشعبي، وغلال التين والبصل.. ليرسم لنا سيرة الطفل الذي تحول إلى “أرنب سباق”، يموّه الحقائق ويداري الأسرار، ذلك الذي عبّر بين النقائض وبدّل العتبات بقدر ما نوع الأقنعة، من ابن أحمد إلى الدار البيضاء ومنها إلى الرباط، مدوخا محيط الأهل والخلان، والأقارب والأباعد، عن جبلته وسداه: هل هو فعلا ذلك الضابط النقي في محيط مهنة فاسد؟ أم هو الجلاد المسؤول عن الانتهاكات الجسيمة في حق ضحايا سنوات الرصاص؟ هل هو الشرطي الملتزم المحكّم لضميره؟ أم حليف الجنرال المتآمر على نظام الحكم؟ هل هو العفيف أم الفاسد؟ المبدئي أم المخادع؟
أسئلة تتداعى في ذهن القارئ بقدر تداعيها في سجلات “بوعزى الضاوي” مفتش الشرطة، وتحريات “سعيد الفك” الصحافي المشتق اسمه العائلي من اسم البطل (ناصر الفكاك)، وكأنما هو جزء منه أو امتداد له أو استعارة منه تكثف الالتباس، والذي تتحدد وظيفته في المبنى السردي في تتبع قضية عميد الشرطة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، وامتد هزيمها من الصحافة إلى المقاهي، ومن البرلمان إلى القنوات التلفزية، وهي الأسئلة التي ما انفكّت أيضا تحاصر المحيط النسائي للبطل من الزوجة “الصافية” وبناته الثلاث إلى خليلتيه الملتبستين “فضيلة” و”راضية”.
بيد أنه لا أحد في النهاية يتمكن من أن يسبر أغوار هذا الجلاد الشريف (هل يوجد جلاد شريف؟)، المتصدّر للسباق، لهذا سيكون المبنى السردي منسجما في تضمينه للتناقضات الفعلية والسلوكية لناصر الفكاك تجاه منطق الأحداث، فهو المتحمّل لشطحات زوجته غير السوية، التي لا تتردد في التآمر عليه لصرامته في الإنفاق واكتفائه بالكفاف الذي يكفله مرتبه الشهري، لكنه في الآن ذاته ذلك العصابي العنيف تجاه عشيقته “فضيلة” التي عشقته بصدق، و لم يتردّد في تعريضها لاغتصاب جماعي من قبل أصدقائه “بينما هو يتفرج على ما يفعلون” (ص 90)، ولم يغمره أيّ إحساس بالذنب وهو يحملها “بين ذراعيه وهي تعاني من شدة الألم، ويرميها في مزبلة الحي” (ص 90)… إنه المسؤول غير المتسامح تجاه الشطط في استعمال السلطة وتجاه الرشوة والمحسوبية وهو أيضا المتمادي في انتزاع الاعترافات من المعتقلين السياسيين بعد تعذيب لا هوادة فيه، وكأن القصد الروائي هو تخييل ذلك الالتباس الجهنمي المكتنف لمسارات الحقيقة الحياتية دوما التي تبدو في كل مرة كاذبة ومزيفة وغير نهائية، حيث “لا وجود لبريء براءة تامة، كما لا وجود لضمير نظيف كل النظافة” (ص 98) بتعبير السارد.
يفضي التحقيق الروائي إلى كشف المؤامرة التي أفضت إلى محاكمة العميد ناصر فكاك بتهمة زنى المحارم وإدخاله مصحة الأمراض العقلية، إذ كان ضحية كيد تاجر شهير للمخدرات هو “كريمو القرش”، استطاع أن يقبض عليه حين كان في عنفوان عمله، وأن يزجّ به في السجن بعد استعصاء أمره على عدد كبير من رجال الأمن، نتيجة من شأنها رد الاعتبار للبطل أمام الحقيقتين المعمّمتين من قبل الصحافة والسلطة على حد سواء، لكن هل تنهي الحقيقة المكتشفة تفاقم الالتباس؟ كل ما في فصول الرواية وفقراتها يدل على العكس، إذ باتت المحصلة منطلقا لسلسلة أسئلة أعمق عن حقيقة المؤامرة: من وراءها؟ وما الغرض من تحويل شرطي نموذجي إلى “أرنب سباق” أو “كبش فداء” (ص35) ؟ ومن هو ناصر الفكاك في النهاية، بطل أم مجرم أم ضحية؟
أسئلة كثيرة تجرّ القارئ من حالة الشخص المفرد الذي يمثله عميد الشرطة ناصر الفكاك المسجون ثم المختفي، إلى وضع شريحة اجتماعية كاملة، تخص منتسبي الشرطة ممن تورطوا في الانتهاكات الجسيمة لحقوق المعتقلين السياسيين في سنوات الرصاص، واقترفوا جرائم لا لبس فيها، لكنهم تحولوا في المبنى التخييلي إلى ضحايا للسلطة الغاشمة ولمؤامرات الكبار وللأقدار أيضا في قاعدة المراجعة والتشكيك في المحصلات السهلة؛ فبتعبير السارد “نحن لم نعد نذكر من تلك السنوات سوى الرعب الذي عاشه ضحايا تلك الفترة ونسينا الرعب الذي عاشه الجلادون، كأن الضحية لا تعذب جلادها أو كأن الجلاد لا يجني من التعذيب إلا المتعة.. الجلاد قد يتعذب أكثر من ضحيته، أحيانا كثيرة، دون أن يعني هذا المساواة بينهما، ودون تبرير اللجوء إلى التعذيب، كيفما كانت أسبابه وأشكاله.. الضحية قوية أقوى من كل جلاد، لأنها تتسلح بمبدأ، بحلم، والجلاد أضعف لأنه خائف، مرعوب من كابوس. هذا حال كبار الجلادين والمشرفين على الجلد، فما بالك بصغار الجلادين والمنفذين من أمثال ناصر الفكاك” (ص104).
والحق أن اللعبة الروائية لا تكتفي بفتح مدارات الالتباس في كل فصل على احتمالات أوسع وأكثر انزياحا عن النموذج المفرد، وإنما تحول البناء الدرامي إلى حلبة لتعارض الرؤى والوقائع والمدونات الشخصية بصدد المجاز الأصلي الذي مثله عميد الشرطة ناصر الفكاك، وما يتّصل به من مرويات وأحداث، حيث يتحوّل الجوهر الشخصي إلى عمق مظلم خاضع لوجهة نظر المحيط؛ ولهذا بات مفهوما أن تنتهي سجلات التحري السردي إلى نصوص تخييلية متعارضة تضم مذكرات العميد المختفي نفسه، وتحقيق المفتش بوعزى الضاوي، وكتاب الصحافي سعيد الفك الذي حمل عنوانا شفافا وكاشفا هو “صورة الصندوق الغامض للدولة وأعوانها والخارجين عليها من الضعفاء والأقوياء”، وفي النهاية رواية ابنة البطل المغتربة في كندا رشيدة الفكاك التي خصصتها لقضية أبيها وعنونتها بـ”صراع الديكة”، مما يفضي بالقارئ إلى متاهة من الاحتمالات والصيغ التسجيلية والمدونات، لا ترسو إلى اليقين، بقدر ما تشكك في كل شيء.
على هذا النحو يتجلى نص “أرانب السباقات الطويلة” للكاتب الميلودي شغموم بما هو تجاوز للبنيات النوعية المغلقة، فهو لا يسعى لتشويق القارئ لمتابعة الكشف عن لغز جريمة فحسب، كما هو شأن الروايات البوليسية عموما، ولا يتغيّى كتابة سيرة فضاءات بذاتها (ابن أحمد – البيضاء) وإن أوحت بذلك، وليست في المقابل رواية عن الاعتقال السياسي، من الصنف الذي وسم الكتابة الروائية المغربية في العشرية الأولى من القرن الحالي، ولا سردية من واقعية القاع.. قد تكون بعضا من ذلك، إن شئنا، أو كله بصيغة ما، بيد أن الشيء الأكيد أن رواية “أرانب السباقات الطويلة” براهنيّتها الشديدة، وحسها النقدي الصادم، وما تحفل به من وقائع وأحداث شغلت الجمهور المغربي مُددا طويلة، وبطاقتها المجازية البديعة المتغلغلة إلى عمق الذهنية والثقافة المغربيتين، يمكن اعتبارها بحق سردية عميقة وآسرة عن أحوال زماننا الموحش، تنضاف إلى رصيد الروائي الثرّ والخصيب.