خيوط الانطفاء
أبي من ريش.
خفيف هو كما الهواء طري، تتلقفه أيّ نسمة لتداهمه الحمى وقشعريرة العمر العتي، بعدما وهنت عظامه ورقت، وذهبت عنه العضلات إلى غير عودة.
الجلد مغضن قديم، تنطوي طبقاته بعضها على بعض في حنو وألفة. العينان منطفئتان، لا ضوء فيهما. فقط القلق والتردد، ونظراته التي ترتمي في حضن الذكريات، كأنها هي أيضاً غائبة عنه.
الأنف كبر، ارتخت أرنبتاه، وزحفت أطرافه إلى الخدين ليحتل موقعهما.
الفم تجعد، يشعر بالخواء عند فراق أسنانه عنه، وأصبح اللسان هو العضو الوحيد الباقي لتحسس شفتيه خوفاً من مفارقتها أيضاً.
الأصابع دائمة التلمس وتحسس بعضها بعضا في حركة رتيبة لتبث الشعور المفقود: أنا موجود…أنا حي… أنا ما زلت على قيد الحياة.
أم ترى لا يزال يحاول التشبث بحبال العمر الباقي؟
أبي يجلس على كرسيه المتحرك، ينظر إليّ في وداعة وألفة لا تخلوان من كبرياء لم تغادره: أنا هو أنا، وإن كنت واهناً ضعيفاً، ما هذا إلا ثقل الحكمة من تجارب الحياة تملكت مني.
– أبي … هل تناولت دواءك؟
صمت عني، أدار وجهه، وأشار بإصبعه إلى نافذة الغرفة أن أفتحها له.
– هو الطقس بارد اليوم يا أبتي، كأنها ستمطر ثانية.
تغافلت عن فتح النافذة حتى لا يعاوده المرض وتداهمه الحمى. نظر إليّ بغضب وحنق، رفع إصبعه في وجهي ثانية وأدارها إلى النافذة.
انزاح الشال الصوفي عن كتفيه عندما رفع يده في وجهي وكاد يسقط أرضاً، سارعت إليه أعدل من موضعه، وأعدته الى كتفيه. امتدت يداي إلى الحِرام الصوفي الملقى على ساقيه، وسويت له أطرافه جيداً.
على الأرض بين قدميه وجدت بركة صغيرة من الماء، بدأت تتزايد قليلاً قليلاً، إلى أن وصلتني رائحة البول بوضوح، مختلطة مع آثار رائحة السجائر العالقة بملابسه، التي كان يسرقها خفية عني، مع تلك الرائحة التي لا تفارق المسنين عادة.
امتدت أصابع كفيه إلى الحِرام الصوفي الملقى على ركبتيه، وتشبث بطرفه. أغمض عينيه جيدا عني، وعن نظراتي له.
– لا مشكلة يا أبي، أنا هو من تأخر عنك في الذهاب إلى الحمام الصباحي. كيف نسيت ذلك؟ أنا آسف يا أبي.
بيديه هاتين أراه وهو يرفع عني ساقيّ الصغيرتين، يمسح ما علق بإليتي من وسخ وبول وهو يبتسم لي، ويقول: ألم يحن الوقت بعد لتذهب وحدك إلى الحمام؟ أنت كبير الآن.
أردّ عليه بكلمات تخرج من فمي غير مكتملة، مترددة، وبطيئة:
– ما هذه الرائحة البشعة، أنا أقرف منها، أكاد…
تتجمد الكلمات على شفتيّ، أبدأ في التململ وإزاحة وجهي إلى اليمين، كأني أبتعد عن مرمى الرائحة.
يبتسم أبي ثانية، يدني طرف قارورة العطر من طرف أنفي، التي أعدها قبل أن يبدل لي حفاضتي الوسخة ضمن باقي الأغراض من مناديل ورقية وبعض الماء في صحن صغير مخصص لي.
كانت أمي غائبة في هذا اليوم، مثلما الكثير من الأوقات.
لست أذكرها جيداً، ليس لديّ منها ذكرى عالقة في ذهني سوى أشيائها التي احتفظ بها أبي حتى عند وفاتها وأنا ما زلت صغيراً.
كم كان عمري؟ لست أذكر جيداً، لكنها غائبة دائماً عن أحداثي الصغيرة التي ما زلت أذكرها منذ طفولتي. إلى حد أنني كنت أعتقد لفترات طويلة أنني قد أتيت إلى الحياة من أبي، وأنه هو من حمل بي وهناً على وهن، وولدني وأرضعني وكبرت على يديه وأورق صباي في كنفه، وأصبحت ما أنا عليه الآن: قبطان في شركة طيران عالمية.
هو أيضا كبر. ذهب إلى الشيخوخة بخطى ثابتة، عفيه، واثقة بعدما كان رجلاً مهيباً، يتمتع بالقوة والبأس الشديدين.
لكني ما زلت بين يديه طفله المدلل، الأوحد، والعاصي له في آن، المتمرد على جبروته وقسوته وحنانه أحياناً…. كثيرة.
– هو موعد الحمام الصباحي، ما رأيك في أن نبدأ الآن قبل أن تبرد المياه؟ لقد سخنتها جيداً لك هذه المرة، وليس مثل المرة الماضية.
أنظر إلي عينيه، وأنتبه إلى لونهما الرمادي الغائم.
أبي من لون، هو رمادي أحياناً، أزرق مائل للغامق أحياناً أخرى. كما سماء القاهرة في يوم شتائي.
لست أذكر جيداً، لكني أتذكر فقط أنني تركت لون عينيه تحت شجرة النارنج في الحديقة التي بجانب بيتنا في منشية البكري، عندما داهمنا مرة أنا ونانو ونحن نمارس اكتشاف بعضنا بعضا.
كانت نظراتك يومها مليئة بالرمادي الغامق وعيناي مليئتان بالندم وتأنيب الضمير. لم تتكلم معي قَطّ. فقط اكتفيت بتجاهلي وأنا أغرق أكثر في الرمادي.
أم ترى يوم تقابلنا هناك في الصباح الباكر أنا ونانو في الحديقة، كانت العطلة الصيفية. حملت لها بالوناً لونه زهري، وكان كبيراً. فرحت به كثيراً، ولعبنا به كثيراً، وشاركنا سامي أيضاً.
إلى أن طار من يدها وارتفع وتثبّتَ بين أغصان الشجرة.
كان في الأعلى، فوق رؤوسنا الصغيرة يتأرجح لايزال في الهواء، وخيطه مثبت بين غصنين.
بادر سامي بالطيران إلى الأعلى ليلتقطه. رفضت بشدة وقلت:
– هو أنا من أتى به، وعليّ أن أعيده إلى نانو.
بدأت تسلق الشجرة العالية. كانت رائحة النارنج تملأ حلقي، ويديّ، وملابسي.
اقتربت من البالون، مددت يدي إلى أقصاها لألتقطه، حركت أصابعي كثيراً لأقصر المسافة الفاصلة بيني وبين طرفه علني أمسك بالخيط، ولا تزال تفصلني عنه سنتيمترات قليلة. حاولت أن أحرك قدميّ لأقترب منه، إلا أن الغصن كان طرياً تحتي، ومال بي نحو الأسفل من ثقل جسمي، اهتزّ كثيراً. مددت يدي أكثر، وعندما كدت أقبض على الخيط انكسر الغصن تحتي، وسقطت أنا والغصن. وفي تأرجح ذراعيّ في الهواء أمسكت بطرف الخيط، تناولت البالون وسقطنا أنا والغصن والبالون إلى الأرض.
تمزق قميصي، واتّسخ بنطالي القصير من تراب الأرض، والتوى كاحلي تحتي.
لم أتظاهر بالألم كثيراً أمام نانو وسامي. كتمت آهتي عنهما، إلا أنها ظهرت في زمّ فمي، وصوتي الذي كان خفيضاً عند إجابتي لهما:
– أنا بخير.
قالت نانو: هيا نذهب إلى بيتنا أيمن، قميصك تمزق وأبوك سيعاقبك، سوف أجعل أمي تخيطه لك.
حاولت الوقوف، كان ألم كاحلي قد ازداد، وكدت أسقط أرضاً. صعدت مني آهة عالية، سارع سامي إلى إمساكي من مرفقي.
– لا أستطيع السير.
– والقميص؟ قالت نانو. أبوك سوف….
رفعت رأسي إليها وتلاقت أعيننا، تصافح ألمي مع شفقتها وطارت النظرة بعيداً.
– اللعنة على القميص نانو. قال سامي.
سأعطيه قميصي، وآخذ أنا عنه قميصه.
بدأ سامي لفكّ أزرار قميصه، وساعدني في خلع قميصي عني، وبدأ إدخال ساعديّ فيه.
هو سامي من أبدل قميصه بقميصي الذي قُدّ من دُبر.
ونانو ممسكة بالبالون الوردي، وعيناها تلاحقانني وكان لونهما خوفاً ولهفة وتأنيب ضمير.
وأنت أبي أيضاً عندما رأيتني أدخل البيت، وأنا أتأرجح في سيري سألتني: هل أنت بخير؟ قلت لك: نعم أبي، فقط وقعت على الأرض والتوى كاحلي. سارعت إليّ وبدأت في وضع كمادات باردة بعد أن حملتني إلى سريري. لم تقل شيئاً عن قميصي الذي بادلته مع سامي. إلا أني أذكر أنك سجنتني في نظرتك تلك سبع سنين أو أكثر.
تعاود النظر في عينيّ وتتجه برأسك إلى الشباك. أذهب إليه وأفتحه. يندفع نور النهار إلى الداخل مقتحماً جو الغرفة، مغرقاً إياها بضوء ساطع، مبهر للعين، مختلط بهواء نظيف، ورائحة الشتاء.
تنظر إلى السماء وتثبت نظرك. تنظر جيداً وتحملق في الزرقة والسحب البيضاء ورفّ طيور يحلّق. ترى هل داهمتك الآن ذكرى ما بعيدة؟ أم هي رغبتك في التجدد والهواء النظيف ونور الشمس؟ أم أنك تتأمل مكانك الذي ينتظرك ذات يوم وكنت قد أتيت منه إلى الحياة؟
ترتعش عضلة وجهك عند سماعك صوت كروان يرفّ الآن في سماء القاهرة. كان يكبّر، يؤذن، يصلي، يعلن أمام الملكوت ولاءه وأنا لك لك لك. تلتمع عيناك فجأة، وتكادان تدمعان.
– الرجال لا يبكون يا بني، فلا تبكِ.
قلت لي مرة، وعلمت بعد ذلك أنك كنت لا تريد أن ترى الدموع في عينَي ابنك.
أنا أيضاً الآن لا أريد يا أبتي …لا أريد أن أرى الدموع في عينيك.
أدفع كرسيك إلى الحمام، أبدأ في إزاحة الحِرام الصوفي عنك وشالك، أرفعك بهدوء حذر من تحت إبطيك، لننتقل إلى كرسي الحمام الذي أعددته لك. كانت عضلات يدي متحفزة لثقل جسمك إلا أنها فاجأتني كم أنت خفيف كما الهواء.
أبي من أثير، يملأ كل المكان، لا ملمس له. تحسّ به في داخلك، وتشمّ روائحه، تكاد تتذوق أثره على لسانك. لكنه غائب خفي.
هل تذكر سحرك الذي كنت تمارسه أمامنا؟ كم أحببنا لعبك ولهوك، وكنت لا تمنح سرّ سحرك لأحد.
هي كرة من حبال كنت ترمي بها في الهواء، إلى الأعلى كانت تصعد، إلى السماء ترتفع، وتكاد تختفي عن أنظارنا. من طرفها السفلي كنت تبدأ الصعود، تتسلق حبلها بكلتا يديك لتعلو.
تلتفّ كفاك على خصرها، وبساقيك تحتضن جسدها النحيل. كان رأسك إلى الأعلى ينظر، وأحياناً تلتفت إلى الأسفل لترى كم صعدت. هي سحابة بيضاء تخفي آخر طرف الحبل، وبكل العزم والقوة والبأس تشد عليه أكثر، تصعد تصعد، إلى أن تصل جسد السحابة، وتختفي هناك. ويسقط الحبل على الأرض دودة كبيرة، عملاقة، خالية منك، من أثرك.
لنراك تعود إلينا من باب البيت مرة، أو من السيارة التي كانت تقف على أول الطريق أخرى، أو تطل علينا من شباك غرفة الجلوس، ونحن جالسون في حديقة البيت ننظر إلى السماء والغيمة البيضاء هناك في الأعلى، في بلاهة وعدم تصديق.
أبي كان ساحراً، طيباً، يحب أن يلهينا عن تعب الأيام الصغير، ويغرق طفولتنا في اللعب.
أزيح عن جسده لباس نومه ببطء، أبدأ في تعريته وأنا أتحاشى النظر إلى عورته.
فهو يخجل أيضاً، وأنا أشتت عنه حياءه بكلمات من قبلي:
– حرارة الماء جيدة، هل هي مناسبة لك.
أعلم أنه لن يبادرني بقول، أتابع:
– إنها أفضل من المرة الماضية… أتذكر؟
أتصنّع ضحكة خفيفة.
هي المرة الماضية عندما تعجلت حمامه قبل أن أذهب إلى العمل، وعندما لامس الماء جسده من قمة رأسه إلى قدميه، كانت حرارته لا تزال باردة بدأ في الانتصاب. خجلت كثيراّ وتفاجأت، وهو ارتسمت على شفتيه نظرة ذكورية حاول إخفاءها جيداً، إلا أنه لم يحاول أن يخفي نساءه عني وعلاقاته وشبقه لهن.
كان وسيماً، بل أكثر وسامة منّي، يتقن اللعب بطبقات صوته عند الكلام، وبالأخص مع النساء. كان حديثه ممتعاً، شيقاً، يطعّمه بأبيات من الشعر القديم وآيات من القرآن والإنجيل والتوراة.
كانت أسماء الأنبياء دائماً وقصصهم مآثر يحتذي بها. وقصص ألف ليلة وليلة وأسماء أبطالها هي سرّ الحكمة لديه ويتخذ منها لسامعيه نظرة مستقبلية للحياة.
قولٌ: فن الكلام والآخرون يعرفون من أنت من تشكيلك كلماتك، من نحوها وصرفها. كيف ومتى تختار الجملة الاسمية أو الفعلية؟ متى تتوقف ومقدار الوقفة بين الجملة والجملة، كأنك تضع نقطة أو فاصلة أو فاصلة منقوطة وذلك حتى لا تفقد السلاسة وانسيابية الكلام ووقعه على محدثك، هو جذب الآخرين لما تقول بجزالة الكلمات وعذوبتها. هي اللغة التي يمكن أن تكون من زجاج أو جليد، ويمكن أن تخلق منها حدائق نور ولهفة وألفة لا تنتهي.
كان يعشق العطر، كان يسمي أسماء قناني عطره بأسماء نسائه الكثر.
هذا اسمه الشيخة، كانت قد أهدته إياه إحداهن بعد مقابلته في إحدى دول الخليج أثناء زيارة له بقصد التجارة.
وهذا اسمه بيت لحم، أجل هو فلسطيني، اشتراه من محل شهير في شارع الجلجلة، وقد أثنت عليه امرأة فلسطينية كانت تقف بجانبه في المحل، بعد كلمات قليلة بينهما لم يدعها إلا في صباح اليوم التالي بعد قبلة طويلة وهي تغادر غرفته في الفندق.
هذا وذاك وتلك القنينة أيضاً. حكايات كثيرة، ونساء كثيرات مررن به في حياته، على جسده القوي المتين الصلب، الذي قالت عنه شاعرة من أسوان مرة:
– كأنك تمثال فرعوني نحت من رخام، منتصب على أعتاب معبد يحرس شهوات الكاهنات وسلالة الآلهة.
إلا تلك الصبية التي زارتنا مرة بعد يوم دراسي طويل، كانت ابنة جارتنا مريم، كانت تحمل بين يديها كتب الصف الرابع الابتدائي، ترتدي مريولاً رمادياً طويلاً إلى ما بعد الركبة، يظهر من تحته قميص ناصع البياض، وفي قدميها حذاء أسود وجورب أبيض تزينه من أعلاه كرتان لونهما أحمر وأزرق يتأرجحان عند سيرها.
كان شعرها أحمر قصيراً مشدوداً إلى جديلتين قصيرتين، مربوطاً بشرائط حمراء وزرقاء.
كانت تطلب مساعدة أبي في درس الديانة، وتسأله في أحكام الصلاة. إلى أن أتى يوم، وعندما قابل أباها أمام البيت، قال له بنبرة وقورة:
– كيف حالها عيوش، إنها فتاة ذكية، مجتهدة، لا بد من أن يأتي يوم ويطيب فيه المشمش.
فيردّ عليه جارنا، وهو ينظر إلى عيني، معتقداً أن أبي يطلب يدها لي، ليس له:
– المشمش مازال أخضر بعد.
كان يحب، بل يعشق أن يروي لنا على الغداء، كل يوم تقريباً قصص انتصاراته اليومية مع التجار في السوق، والمحاورات التي كانت تدور، والصفقات التي يربح فيها دائماً.
كان قد ورث عن أبيه محلاً كبيراً في حي الحسين الشعبي، لبيع العطارة والأعشاب ولوازم حفلات الطهور وأعياد الميلاد والأعراس.
كان طريق الذهاب في الصباح الباكر معه، ممسكاً بكفّ يدي، وفي كفي الأخرى نانو الصغيرة، بضفائرها الشقراء، وفستانها الملون بزهور ربيع لا يزال يزهر على فستانها، مختلطاً بروائح الشارع المنبعثة من محال العطارة على الجانبين، روائح ممتزجة، متفاعلة مع بعضها لتشكل سحابة خفية عن العين، إلا أنها تمطر عليك هدوءاً وسكينة وحالة تأمل تغرق فيها، تجعلك تعيش في التاريخ المملوكي الإسلامي الذي تشكل منه المكان، وتتلمس من بين ثناياه رائحة الزمن القديم.
هي أبواب خشبية عتيقة، مليئة بذكريات روائح العطارة، شموع أعراس بيضاء موشاة بالدانتيلا، والزهور الصغيرة، مغلفة بسوليفان ملون تتدلى من أسفل القبب الحجرية فوق أبواب المحال، تحوطها هدايا أعياد الميلاد، ولوازم حفلات السبوع والطهور، من ألعاب أطفال بلاستيكية وخشبية. مرصوص من تحتها أكياس من الخيش مطوية أطرافها العلوية، مليئة بأنواع مختلفة من الفلفل الأسود، القرفة، القرنفل، الهال، الزنجبيل، الكركم، والتوابل والأعشاب وباقي أنواع العطارة، مليء بعضها ببذور وثمار وجذور النباتات الفواحة، الطري الناعم، أو الهش، أو الخشبية الرقيقة، أو المطحونة، مثبت فوق كل كومة لوحات كرتونية باسم العشبة أو النبات.
كان بعض صبيان المحلات يرشون الماء أمام البوابات، بعد كنس الأتربة والأوساخ، وبعض أصحاب المحلات جالسون على أبوابها.
منهم من يتناول شاي الصباح، وبعضهم يدخن نرجيلته مع كأس القهوة الصغيرة، وعربات السندويش والفول والكبدة ولحمة الرأس متناثرة على أركان الحارات، ويتدافع الزبائن أمامها للحصول على وجبات الفطور الصباحية.
كان طريقاً عمره يزيد على المئة إلا قليلاً، وربما ألفاً أو يزيد عليهما قليلا.
أم ترى كان هذا عمر أبي ولست أدري؟!
أم هي أسماؤه، التي لم يصلني منها إلا القليل.
– عند الإنتهاء من حمامنا الصباحي سنتناول الفطور سوياً هذه المرة، لن أدعك تأكل وحدك… سوف نأكل سوياً…ما رأيك؟
وبعد أن وضعتك في سريرك، ومن حولك الحِرامات الصوفية، كان شباك الغرفة لا يزال موارباً كما طلبت مني. ذهبت لأعدّ لك الفطور الصباحي: قليل من الحليب خالي الدسم وبعضاً من الكعك المحلى وكأس ماء، والكثير من الأدوية التي عليك تناولها كل صباح.
دقائق قليلة وولجت الغرفة. وجدتك مغمضاً عينيك، يداك فوق كتاب ألف ليلة وليلة الملقى على صدرك، وشعاع من الضوء يقسم وجهك إلى نصفين. أحدهما مضيء أبيض لامع، والآخر مظلم كامد، غارق في العتمة.
أقترب من سريرك بحذر بالغ لإيقاظك مع خوف عميق بأنني قد أجدك فارقت الحياة. خطواتي تباطأت، ارتجفت يداي بما أحمل لك من فطورك. تسارعت دقات قلبي، وبدأ العرق يزحف بين ظهري نزولاً الى أسفل.
هو الخوف والوجل والفقدان، مثلما كنت تخاف أن تراني بعد ولادتي ليرقان أصابني، كنت قد خفت أن تتعلق بي لأنهم أخبروك أن حالتي خطرة، والحالة متقدمة ولم يكن الطب وقتها على ما هو الآن.
كنت في الحاضنة راقداً، نائماً، ولربما حالماً أيضاً.
إلا أني كنت أرى حدائق من حولي بأشجار عالية من السرو، على رؤوسها البلابل والعصافير. ورأيت الأغصان محملة، مثقلة بأنواع الفاكهة من الكرز والتفاح والليمون. وهنالك على مدى البصر تعريشة عنب ضخمة، من تحتها جدول صغير تجري فيه المياه إلى أن تصل إلى نافورة ضخمة تتوسط الحديقة، مزينة بتماثيل صغيرة لملائكة صغار يفردون أجنحتهم نحو السماء.
من حولها شجيرات الورد البلدي والياسمين والفل والنعنع البري لم تغادرني رائحتها، عالقة بي إلى الآن.
– أبي… أنا أيضا أخاف أن أتعلق بك بعد عودتك إلى داري. لن أتركك وحيداً بعد الآن، حالتك الصحية تقلقني، عليّ أيضاً أن أتابع دواءك ومواعيده وتحضير الطعام لك، وهكذا.
– ……….
– أبي… صمتك طال، هل أنت غاضب مني، هل تلهيت عنك في الحياة ومشاغلها؟
– أبي…
امتد الصمت وطال، أصبح الكلام بيننا معدوماً، إلى أن أتى يوم وكنت قد أخذتك معي في نزهة إلى جبل المقطم. أنت تحب دائماً أن تنظر إلى القاهرة من فوق. كم أخذتني وأنا صغير إلى هناك وقلت لي كلاماً كثيرا، تغزلت في القاهرة، وتذكرت شعراً فيها. رويت لي قصصاً عنها وعن تاريخها وأمجادها وأسماء من تعاقبوا على حكمها، سواء من الخارج أو الداخل.
لكن صمتك هذه المرة أيضاً كان بيننا جبلاً.
أبي من صمت وسكوت والكلمات كأنها ماتت على شفتيه.
إلا أنك فجأة ونحن نازلون من الجبل نظرت إليّ وأنا أقود سيارتي إلى البيت عائدين، وقلت:
– لا تتردد في حفظ الوصايا.
كانت يدي وفي اللحظة ذاتها امتدت إلى زر المذياع وأدرته، لتنطلق موسيقى أول مزمور من مزامير التوبة السبعة مترافقة مع آلة الناي فقط.
قولٌ: إلى متى يا رب تنساني كل النسيان؟
إلى متى تحجب وجهك عني؟
إلى متى تجعل هموماً في نفسي وحزناً في قلبي كل يوم؟
إلى متى يرتفع عدوي علي؟
انظر واستجب لي يا رب إلهي. أنِرْ عيني لئلا أنام نوم الموت. لئلا يقول عدوي: قد قويت عليه.
وأنت يا أبي ترى ما قصدك مما تفوهت به مرة، لتكون أوبتك سريعة إلى صمتك، وعجزي أمامه، إلى موت الكلام، وتفاصيل حياتي بك التي تذهب بعيداً عني؟
– أبي.. أبتي… هل أنت نائم؟
هي لعبة الشطرنج التي دأبنا على لعبها أنا وهو، كانت تستمر ليالي طوالاً بيننا دون أن يفوز أحد منا. بعد أن لقنني وأنا صغير قوانين اللعب، طرق سير كل حجر من فريقي على رقعة الشطرنج. كما أنه بدأ معي بخدع بسيطة مثل: خطة نابليون، أو تبديل موقع الملك والقلعة في لحظة تهديدي إياه.
إلا أنه دائماً كان يلجأ إلى كسر القواعد عندما تطول فترة اللعب التي كانت تمتد لأشهر طويلة بيننا. بأن يقول مثلاً:
– لقد مات الملك الأبيض الخاص بي إثر سكتة دماغية، أو ذبحة صدرية.
أو يبادرني بالقول:
– لقد شنّ العدو غارة مفاجئة على الحدود الشمالية للمملكة، وعلى الوزير والملك أن يذهبا بما بقي من الجيش إلى رد تلك الغزوات، وإيقاف العدو عند حده وتأديبه على تجاوزه.
لم يكن مني إلا الرضوخ إلى قضاء الله وقدره، ورأيه وقراره هذا صاغراً، متمتماً:
– حسبي الله ونعم الوكيل، أو لاحول ولا قوة إلا بالله، أو أيّ جملة تأتي على لساني وقتها. وأعود إلى مكالمة هاتفية بدأتها.
– أبي هل ما زلت نائماً؟
أتحسس نبض رسغه، أقترب من شفتيه، أضع كف يدي على صدره الرقيق.
أخرج مسرعاً من الغرفة الى مهاتفة الطبيب ليأتي الينا.
– أبي في خطر… أبي على وشك أن … أسرع أرجوك، أنا خائف أن…
وحين أدخل إلى غرفتك بعد انتهاء المكالمة، أجدك… بل، لا أجدك.
أجل أبتي لا أجدك في الغرفة، على سريرك مستلقياً كما كنت، وكما تركتك قبل دقائق قليلة.
فقط هكذا اختفيت عن الغرفة، وحياتي، والمرض، وعجز الشيخوخة. لم تترك وراءك إلا دودة من الحبال مرتمية على الأرض، وفي الأعلى كانت تحلّق في سماء الغرفة غيمة بيضاء.
– أبي… كم كنت أتمنى أن أتأبط ذراعك، لنعود سوياً إلى البيت، بدلاً من مقبرة النائمين.