أيُّ مستقبل للشعر؟
لستُ شخصياً ممن ينكرون أهمية جائزة نوبل، حتى وإن استفزّتني بعض قراراتها. غير أنها ليست معياراً وحيداً، كي يُقالَ إن منحها في دوراتها الأخيرة لثلاثة شعراء يشير إلى استعادة الشعر لمكانته التاريخية، بعد عقودٍ هيمنت فيها الرواية على الأجناس الأدبية الأخرى وكادت تودي بها إلى حتفها.
ففي آخر كلماتٍ ينطقها الكورس في مسرحية “أوديب ملكاً” يجري نُصحُنا بأن لا نحكم بشقاء إنسانٍ ما أو بسعادته إلا بعد أن يموت. والأمر نفسه هنا، إذ لا يمكننا أن نحكم لا أدبياً، ولا حتى سياسياً، على عصرٍ من العصور، إلا بعد أن يصبح ذلك العصر ماضياً. فالصعود والهبوط والتذبذب بين الحالين سمات ملازمة دوماً لكُلّ حاضر.
وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر ساد النقدَ الأدبي مزاجٌ متفائلٌ عبّر عنه الناقد الانجليزي ماثيو أرونولدز من أنّ “للشعر مستقبلاً هائلاً، لأن الانسانية ستجد في الشعر الجدير بهذا المستقبل مستقرّاً لها، يتجدّد الاطمئنان إليه على مرّ الأيام”.
غير أن مواطنه الناقد الأكاديمي أ. إ. ريتشاردز سعى في كتابه “العلم والشعر” إلى تحطيم ذلك الرأي، وتأكيد عكسه، من أنه بحكم أن العالم من حولنا يتغيّر يومياً على نحوٍ سريع، فإنه لا مستقبل بتاتاً للشعر “والشاعر في عصرنا نصفُ متبربر في مجتمعٍ متحضّر. إنه يعيش في الأيام الخوالي”.
وإلى رأيٍ شبيه بهذا الرأي ذهب الناقد البريطاني تيري إيجلتون في كتابه “مدخل إلى نظرية الأدب” عندما قال إن البشرية قد تُنتِجُ في المستقبل “مجتمعاً لا يكون قادراً على استخراج أيّ شيء على الإطلاق من شكسبير. وقد تبدو أعمال هذا الأخير آنئذٍ على نحوٍ مؤسٍ، مليئة بأساليب من الفكر والشعور التي يجدها مثلُ ذلك المجتمع محدودةً، لا أهمية لها”.
الشعر "محاولة للإجابة عن أسئلة لا إجابات عليها، لأنها في الأصل ليست أسئلة حقيقيّة"
ورغم الدور الهام للنُقّاد في توجيه الأدب وتقويم مسيرته إلا أنهم ليسوا في النهاية مسؤولين مسؤولية مباشرة عن سيادة جنسٍ أدبي أو احتجاب جنسٍ آخر، في هذه الفترة الزمنية أو تلك. فهذه عملية تاريخية معقّدة تتحكّم فيها عوامل عديدة.
والحقيقة، وإن لم تعجبنا، هي أن فنّ الرواية استحوذ منذ بداية انطلاقه، علي يدي سرفانتس أو ديفو، بل يعيد الناقد الروسي باختين بداياته إلى قصص الرومانس اليونانية واللاتينية، على أوراق قوّة، يضيق المقام عن عدِّها، تفتقر الأجناس الأدبية الأخرى لمعظمها، أوراقٌ قد تبقي فنّ الرواية حيّاً ومهيمناً لأجيال كثيرة قادمة.
على أن كلّ التنظير الماضي لا ينزع عن الشعر أهميّته الخالدة، فهو الجنس الذي ربما كان أوّل الأجناس الفنيّة التي اخترعها البشر، جنسٌ أحبّوا وقعه على آذانهم، وأحبوا وفرة المعاني التي ينطوي عليها الترتيب المخصوص لكلماتٍ قليلة، أحبوه وجعلوه هو والفلسفة سُلّماً للمطلق، يطرحون عليه أسئلة لا إجابات عنها. ومهما تقدّم العلم، ومهما استجاب فنّ الرواية لذلك التقدم، إلى أن وجودنا في هذا الكون، بل وجود الكون ذاته، سيبقى على الدوام يطرح علينا ألغازاً لا حلّ لها، وليس بمقدور جنس غير الشعر أن يعيد طرح تلك الأسئلة ثانيةً، وأن يجمع المتنافرات في وحدةٍ لا تخطر على بال.
أو كما جاء في كتاب أ. إ. ريتشاردز في الكتاب الذي اقتطفنا منه قبلاً “لا يستطيع العلم أن يقول لنا: ما كُنهُ هذا الشيء ولا يستطيع أن يخبرنا مَنْ نحن، ولماذا نحن في هذا العالم، ولا ما هو هذا العالم”.
وبالتالي فالشعر “محاولة للإجابة عن أسئلة لا إجابات عليها، لأنها في الأصل ليست أسئلة حقيقيّة”.