المفترق الوجودي
يستعيد المفكر المغربي محمد سبيلا في كتابه “الشرط الحداثي”، الصادر حديثاً عن دار خطوط وظلال في عمّان، مجمل الثيمات التي خاض فيها من منظور الحداثة، ويستأنف القول فيها على ضوء بعض المستجدات.
يمكن تبويب مقالات الكتاب، كما يقول تلميذه الباحث محمد الشيخ في مقدمته، وفق عدة طرق في التبويب، إحداها هي التمييز بين النظر في “الحداثة بذاتها”، حين تنعكس هي على نفسها، فتفكر في أمرها؛ أي في “معانيها”، وبين آليات الحداثة وأدواتها وسماتها؛ أو “أوانيها”. ويمكن أن تُضَمّ ضمن الخانة الأولى بحوث مثل “في الشرط الحداثي”، “مسألة الحداثة في فكر هايدجر”، “من الحداثات إلى الحداثة”، “التباسات ما بعد الحداثة”. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ثمة آليات الحداثة وسماتها؛ على نحو ما تشهد به بقية المقالات الدائرة على “التقنية” وعلى “السياسة” وعلى “الأخلاق” وعلى “الزمن”، وكل ذلك في زمن الحداثة أو في المراوحة بين ما قبل الحداثة وما بعدها. فمن سمات الحداثة: التقنية (المقالة عن الثورة البيوتقنية)، وتدبير الزمن (مقالة ألغاز الزمن ومفارقاته)، وتدبير الشأن العام وصلته بالأخلاق (مقالة بين السياسة والأخلاق)، وتدبير المسألة الدينية (مقالة المسألة الدينية).
مركزية التقنية
بناءً على هذا السبر الأول تشكّل مسألة التقنية، مثلاً، مسألةً مركزيةً في فكر محمد سبيلا، و”الحداثة” التقنية هي إحدى أظهر أوجه “الحداثة الغازية” وأبرزها وأشرسها. وهكذا يستعيد محمد سبيلا هنا الموضوعات عينها التي أخذت بمجامع عقله حول “التقنية”، ذلك أنها تُعدّ “لازمة” من “لازمات” فكره، ففي داخله يحيا الإنسان العربي في مواجهة صدمة الحداثة في شكلها الأكثر شراسةً ومدعاةً للتعحب: “أواني الحداثة”؛ أي تلك الأدوات والآلات التقنية التي تدججت بها الحداثة، في جوانبها الإيجابية (تسهيل الحياة العصرية) والسلبية معا (مخاطر تدمير الحياة بعامة/أسلحة دمار شامل…). ولطالما كان محمد سبيلا قد اهتم بتلقي المغاربة بخاصة، والعرب عموماً، للحداثة في وجهها “الأواني”. وبدل الموقف الأهوائي المتمثل في “الإعجاب” و”الخوف”، أو “الرغبة” و”الرهبة”، حاول، مشرئبّاً من ضرع التفكير الفلسفي بما فيه من تساؤل وإلحاح في السؤال، تعقل التقنية. وقد حقق نقلة من النظر إليها بوصفها “معاني”، لا في أثرها على العرب وحدهم، بل حتى على الغرب نفسه. ولذلك واكب تطور التقنيات الحيوية من منطلق الفيلسوف المتفكر المتأمل. وكما يقول، فإنه بات يركز اليوم من التقنية على هذا التحول الجذري والنوعي المتمثل في الانتقال من صناعة الأشياء إلى صناعة الكائن الحيّ. ويرى محمد الشيخ أن أستاذه يستحضر في هذه المسألة إرهاصات طرحها عند مفكره الغربي المأثور المحبب مارتن هايدجر، الذي نظر في أمر الإنسان الحديث من حيث أنه الإنسان الذي استجاب إلى “حاذي التصنيع”، ولسان حاله يقول مخاطبا الإنسان “أي هذا الإنسان، صَنِّعْ يا هذا بدءاً، وصَنِّعْ أبداً، ولا تكف، أي عزيزي، عن التصنيع، وذلك إلى أن تُصَنِّع أنت نفسك بنفسك”.
الحداثة السياسية
وفي ما يتعلق بالحداثة السياسية وصلتها بالأخلاق، التي تقوم منذ مكيافيلي، على منطق الفصل بين السياسة والدين (الدنونة)، وبين السياسة والأخلاق (النفعنة)، يخصص محمد سبيلا لكل سمة بحثا، ويلخص موقفه من السمة الثانية (النفعنة) في مستهل دعواه “هناك تصوران مختلفان بل متخلفان للعلاقة بين السياسة والأخلاق. التصور التقليدي الذي يضفي طابعاً مثالياً على السياسة، إما من منظور ديني أو من منظور أخلاقي، والتصور الحديث الذي يميز بل يفصل بين الميدانين بدرجات متفاوتة”.
ومن ناحية إمكانية تقسيم مقالات الكتاب حسب ثنائية “القضايا والأعلام”، تدخل ضمن الخانة الأولى المقالات التي مدارها على “الحداثة”، وتدخل ضمن الخانة الثانية المقالات التي مدارها على الأعلام؛ وهم في عداد الثلاثة: مارتن هايدجر وعبدالله العروي وداريوش شايغان. يخصص لهايدجر مقال “مسألة الحداثة في فكر هيدجر: بين تمجيد ورثاء العالم الحديث”، ويخصص لعبدالله العروي مقال “نظرية الحداثة والتحديث في فكر عبدالله العروي”. الأول ناقد للحداثة، والثاني داعية إليها. لكن كلاهما يتعايش تعايشا جدليا في ذهنه، في توليفة. وكما أن توليفة الزمن تجمع بين الحداثة والتقليد، بحيث يمكن أن يتعايشا في نفس الآن، على ما بينهما من تناقض في منطق أسسهما، فإن نقد الحداثة يعد جزءا من الحداثة نفسها، إذ لا حداثة من دون نقد لها، بل الحداثة هي النقد، هي هو وهو هي. أما مقال محمد سبيلا عن المفكر الإيراني داريوش شايغان، فإن مرده إلى اهتمام الثاني بتشريح أثر الحداثة على ما يمكن تسميته بـ”الوجدانيات الروحية”، ومناقضته لراديكالية الأنوار التي هاجمت الدين مهاجمةً شرسةً، ورفعت في أيام الثورة الفرنسية شعار “لن يهدأ بال العالَم حتى يشنق آخر نبيل بأمعاء آخر قس”.
الحداثة والتراث
وبالرغم من عدم إخفاء محمد سبيلا رهانه على “الحداثة”، واختياره لها اختياراً فكرياً غير عرضي، فإنه لا يرى أن ثمة من سبيل إلى التخلص من التقليد، أو التراث بإحداث قطيعة حاسمة معه. لكن ذلك لا يعني إحياء التراث بمجرد اللجوء إلى طباعة كتب التراث، وإنما يتعلق الأمر بالإقرار بصعوبة التعامل معه تعامل التغافل عنه والتجاهل له، فهو “يسكننا ويسكن مخيلتنا ولغتنا وهمومنا اليوم ووجداننا. التراث هو اللِّفافة التي تلفنا وتلون لون العالم بالنسبة إلينا”. وبالنتيجة، فإن “كل نهضة وحركة لا بد أن تمر عبر التراث”. ومن شأن أولئك الذين يعتبرون أن مشكلة التراث “مشكلة مفتعلة”، أنهم إنما “يقفزون على أهم نقطة في العقيدة العربية، وهي علاقتها بماضيها… أي بالتراث بكافة معانيه”، والذي عنده، أي محمد سبيلا، بناء على الحيثية السابقة، أن من شأن الحداثة المرجوّة أنها “يجب أن تنبع من الداخل، من الثقافة نفسها؛ بمعنى أن ثقافتنا المغربية الإسلامية، العربية، العتيقة لم تتحول بعد إلى ثقافة حديثة وحداثية”.
على أن هذا لا يعني اعتبار التراث حداثتنا، وأن لا حداثة ثمة إلا في التراث وبالتراث ومع التراث. إذ لا يقبل محمد سبيلا أن يجري الحديث، كما كان الشأن عليه عند محمد أركون، عن “حداثة التوحيدي”، مثلا، ولا كما كان الشأن عليه عند محمد عابد الجابري، عن “حداثة ابن رشد”، فالتوحيدي وابن رشد وابن خلدون، ممن وجد فيهم البعض أنهم “حداثيون” قبل أن تولد الحداثة، عن الحداثة بمعزل. وذلك لأن حقيقة الحداثة، في عرف محمد سبيلا، أنها “منظومة معرفية إبستيمية ذات ملامح محددة في تاريخ الفكر الكوني”. فهي لها عنوان محدد: أوروبا، وتاريخ محدد: بدءاً من عصر النهضة. وما من سبيل إلى الحديث عن “حداثة” عند الأقدمين.
أما الدعوة إلى “القطيعة”، فإنها، عنده، ضرب من “الصلاة العدمية”. إذ يرى محمد سبيلا أنه “إذا كانت الدعوة إلى الحداثة هي دعوة إلى الفاعلية والإسهام الحضاري، فإن الخطر الذي يتهددها هو تحويل الأمة إلى أمة دون ماض، دون تراث، وخاصة إذا كان هذا التراث حيا وماثلا في المؤسسات والممارسات والنفوس. لذلك كثيرا ما تتخذ الدعوة إلى الحداثة بأي ثمن صورة صلاة عدمية”.
وأما الدعوة إلى الأصالة، فإنها وإن كانت تحقق للنفس الاطمئنان والاتصال والشعور بالدفء والانسجام مع الذات، إلا أنها تتضمن جزئيا “التخلي عن العالم وعدم استيعاب عمق التحولات التي حدثت فيه”، كما يعترضها “خطر تحول الأمة إلى مجرد بقايا تاريخية مهمشة”.
بناء على هذه المقدمات، يخلص محمد سبيلا إلى بيان “الجدل” القائم بين “الحداثة” و”التقليد” بدءاً؛ في تعريف كل من “التقليد” و”الحداثة”، ينبغي أن يراعى أنهما “بنيتان” “ديناميتان”. وهما بنيتان الشأن فيهما أنهما غير “متشابهتين”، وإنما هما “مختلفتان” الاختلاف كله. ثم إنهما بنيتان غير “رخوتين”، بل هما “صلبتان”. والحال أن من شأن بنيتين هذا حالهما من “الاختلاف” و”الصلابة” أن يتأدى بهما المآل، عاجلاً أم آجلاً، إلى صراع غير متكافئ، معقد وشرس، يحدث انجراحات وندوباً، بل شروخا في كلا البنيتين، ويدفعهما إلى التفاعل إما إيجاباً أو سلباً؛ أي إما بالتلاقح أو بالتنافي. في الحالة الأولى ينفتح باب التثاقف والاستعارة والتأويل المفتوح، وفي الحالة الثانية ينغلق باب الاجتهاد والتفاعل، وتنطلق آلية الرفض والإقصاء.
حداثة أم حداثات؟
يوضّح محمد سبيلا، في إجابته عن السؤال، الذي كثيراً ما يُطرح، وهو هل ثمة حداثة واحدة أم حداثات؟ أن وراء تنوع الحداثة ومظاهرها ومستوياتها وفضاءاتها نمطاً واحداً من الحداثة هو العقلنة. ويمكن الحديث عن درجات العقلنة أو عن شدتها. لكنه يتحدث في الوقت نفسه عن “خرائطيات الحداثة”، فثمة ما يسميه “الحداثة المرجعية” أو “الحداثة الأم”، وهي الحداثة الأوروبية، مقابل الحداثات الأخرى “للحداثة تواريخها وجغرافياتها أيضا”، ولها “دينامياتها” الخاصة، من إيطاليا سرت إلى ألمانيا وفرنسا وإنجلترا. وأوروبا الغربية هي “مسقط رأس الحداثة الأوربية، والتي أخذت تكتسب بالتدريج بعداً كونياً، وتتخذ بالتالي صورة حداثة مرجعية”. وإلى جانب هذه “الحداثة المرجعية” ثمة “الحداثة الموازية”، وهي الحداثة الأميركية التي يصفها بالحداثة المتسارعة أيضاً، ومن ثمة كانت فاتحة الحداثة البعدية. إنها حداثة من غير ميراث قديم، وعلى خلاف ما يدّعى ليست “بنت” الحداثة الأوروبية، لها فرادتها ومظاهر ريادتها بالقياس إلى التجربة الأوربية نفسها. بل أكثر من هذا الحداثة الأوروبية نفسها مدينة للحداثة الأميركية بالحداثة السياسية.
وثمة “الحداثة اللاحقة”، الحداثة اليابانية، وهي أيضاً حداثة فريدة، تقنية واقتصادية بالدرجة الأولى، لكنها على المستوى الثقافي حداثة مستوعبة للغرب، ومحافظة على الروح اليابانية عقائديا وسلوكيا.
وثمة “الحداثة الاستدراكية”، حداثة روسيا، وهي مثال آخر للحداثة، ونمط آخر، لكنها حداثة مسلوقة”.
إن الوقوف عند هذه النماذج من الحداثة تجعل سبيلا يتحدث أحيانا عن “حداثة خاصة”، وعن “حداثة جوانية المنشأ”، وعن “إبداع حداثة خاصة”، لكنه سرعان ما يبدي تحفظه، مؤكداً أن هذا الأمر يبدو مستحيلاً في نظره “لأن ثمة شكلاً واحداً ووجهاً واحداً للحداثة”.