قصتان
هي والأفعى
كان الضوء ساطعا من أعماقها مثل ضوء الشمس في القيلولة، قويا ومشعا وحارقا حتى العمى.
غرقت في عتمة الكون جذلى بعماها الذي أعفاها من رؤية شلال القبح الذي غمر المدينة.
عانقت ذاتها الخفيفة مثل ريشة السعادة وبكت، بكت بحرقة، بكت بمرارة.
ما يزال الضوء يغمر كيانها من الداخل حتى رأتها، مرت أمامها في كبريائها المعهودة وعنجهيتها التي تمقتها. اختفت منذ سنوات ولم تعد تتجلى أمامها لا في الحلم ولا في اليقظة.
رأتها حينئذ تخرج منها تتلوى وترقص مثل أفعى، تشد الأنظار اليها بحريتها، بطلاقتها، بعنادها…
ارتجفت المرأة وتشبثت بعقالها، بسلاسل القطيع، بلامبالاتها، بقناع تفاهتها، تشبثت بأيّ وتد يشدها إلى أرض الطمأنينة التي تدرك جيدا تفاهتها لكنها تحب أمانها.
قالت المرأة مدهوشة لسميّتها:
– أيتها اللعينة، المجنونة! أما زلت حية تتنفسين وأنا التي اعتقدت أنني دفنتك وتخلصت منك؟
قهقهت المجنونة عالية وتمايلت وهمست في سخرية:
– وأنا عدت معتقدة أنك ستسعدين لعودتي لأنفخ فيك نفسا حقيقيا من الحياة. لكن يبدو أن وجودي في حياتك خسارة… خسارة… ويبدو أنك تعودت على شبه الحياة في جسد الجثة كما القطيع.
تباعد خيال المرأة الأفعى حتى تلاشى.
انطفأت كل الأضواء وانكفأت المرأة تحت ملاءتها تداوي بملح دموعها جراح المعركة الطاحنة التي حدثت بينها وبين سميّتها.
بعد أسبوع انتشرت رائحة الموت بين الجيران. أخذهم خيط الرائحة إلى المكان. كسروا الباب ودخلوا ليعثروا على جثتي امرأتين متعانقتين.
وصل متأخرا
ظلّ واقفا أمامها وهي تتملّى كل تفاصيله الدقيقة.
بدا لها طويلا أكثر من اللازم، نحيلا. عظامه ناتئة والأكيد أنها ستؤلم عند أي حركة.
راقَها أنه حليق الرأس. نوعية شعره مجعّدة، ولن يكون جميلا لو أطاله أو حلقه على طريقة ما يفعله الشباب اليوم.
ملامحه بربرية أو رومانية أو لعلها تشبه الرجل البدائي!
(هل كانت تعرف ملامح الرجل البدائي؟).
لا، بدا لها مثل زوربا تماما. رقّ قلبها هنا تحديدا.
أمعنت في مزيد من التفاصيل.
عريض المنكبين. طويل الذراعين. يستطيع أن يحضن بكرم ضياعها، يتمها، شوقها.
لوح صدره عريض. تستطيع أن تلقي رأسها المثقلَ عليه. يمكن لها أن تبكي هناك أيضا. ستسيل دموعها وتترقرق مع بطنه اليابسة مثل كلب الصيد.
ستتجاوز فخذيه. هي لا تعرف إن كانتا مشعرتين أم لا. هو حليق الرأس واللحية.
وهي تحب الشعر على الصدر والفخذين.
أين وصلت دموعها.
تجمعت في كفيه العريضتين. فوجئ.
سائل غريب في كفيه مثل غدير.
رفع بصره إليها. نظراته تسألها.
وهي لا تدري بما تجيب.
لا هي تعرف جيدا بماذا ستجيب، غير أنها تخجل من العراء.
أيّ عراء وهي تجلس قبالته بكامل أقنعتها؟
لكنها أدركت منذ دعاها إلى الجلوس أنه قشّرها حتى بدت أمامه عارية تماما.
لعله اعتقد أنها ستخجل من ترهل الجسد وآثار السنوات على الجسد الذي لم يعد جميلا.
غير أنها لم تكن تفكر كذلك. الجسد مثل أي نبتة أو شجرة حالما تسقيه سيستعيد نضارته ويورق من جديد.
المشكلة بالنسبة إليها أن الروح انكمشت وتجعدت وترهلت وتبلدت وبردت.
كيف تعرّي روحا عجوزا تنتظر آخر أنفاسها بشغف؟
تنهدت حتى لفحت أنفاسها وجهه الأسمر.
قال لها: أنت تنفثين نارا مثل تنين!
ضحكت بمرارة وتمنت في سرّها لو كانت تنينا حقيقيا…لالتهمته.
ابتسمت في بلاهة متعمدة وهمست: ذلك وهج رماد نار قديمة كانت مستعرة في الأعماق.
صمتت. عادت تتملّى ملامح وجهه الزُّورْبيّة وأضافت بصوت هامس منكسر: أعتقد أنك حينئذ لم تولد بعد.