أنا وأنتِ و…
ليس للبحر وجهه الذي أعرف وأنا أنتظرها، أنتظر عودتها بعد غياب شهرين وخمسة أيّام. ليس للبحر وجهه المعهود. لا أحد غيري وغير زوج من الشباب يجلسان على رخام الكورنيش، ظهراهما إلى البحر ووجهاهما إليّ. وجهه، أمّا وجهها فغاب تحت سواد النقاب. هل مرّ هذان الشّهران فعلا، وفوقهما أيّام خمسة؟ لن تريني، صرختِ. لن تريني، لن تري رائحتي بعد اليوم. وأنا وسط قهري وغبني وجنوني أصرخ: إلى الجحيييييييييم!. إلى قلب الجحيم الذي تخشينه قبل أن تدخليه. إلى الجحيم. لا أريد أن أرى منك شيئا. اخرجي من بيتي ومن قلبي ومن دمي. تضحكين تلك الضحكة التي أكرهها فيك وأكرهك فيها، تذكّرني بضحكته. أوووف! كلّ ما كرهته فيه صبَبْتُه فيك. أيّ حكمة في هذا؟ لن تريني قلتِ، لن تري رائحتي وأقسم على ذلك. هل تصدّقين؟ كنت أكرهك فعلا في تلك اللحظة، كيف تعلّمت كرهك؟ من علّمني إياه؟ سنة تقريبا من الخلاف والخصومات والتدافع. هل أنت ابنتي؟ هل أنت أمّي؟ وتضجّ الجدران بالسّباب. اتّقي ربّك يا امرأة، عودي إلى خالقك، لمّي نفسك وشعرك، اخرجي من هذا الضّيق يكشف فخذيك وصدرك. تأكلني النّار. من بين فخذيّ طلعتِ، وفي صدري نبَتّ يا ابنة الكلب!
كنت مرميّة في الصالون حين خرجت ملفوفة في السّواد من غرفتك، رأيت الحقيبة تطلّ قليلا قليلا فابتلعتني موجة من حزن لم أذق طعمه من قبل. أوَتتركني وتذهب فعلا؟ لم تجيبي عن سؤالي: إلى أين؟ قلتِ فقط: ربّي يهديك. وجذبت الباب وراءك. كم ساعة قضيتها مرميّة بعد خروجك في الصّالون؟ عيناي إلى السقف وقلبي هامد هامد هامد، لا شيء فيه غير الصّمت وطعم العجز، لم أكن أنظر ولا أفكّر ولا أحسّ، والبيت من حولي مضغوط بالسّكون والوحدة واللاّشيء. وجملتك تنتصب أمامي كعقرب بليد “ربّي يهديك”. حاولت أن أضحك فلم أقدر. تقول الطفلة لأمّها ربّي يهديك. وسوادك يقف حائلا بيني وبين البكاء. هل ذهبت فعلا؟ تحرجينني أمام رجال الحيّ. قلتِ، أحسّ بالخجل وأنت تعرضين ساقيك وزنديك وشعرك على بائعي الخضر والجرائد. اتّقي الله فيّ وفي نفسك.
ترمي بي كلماتك إلى موقد ضخم الجمرات متوهّج الألم، من علّمك كره جسدي؟ من سلّطك عليّ تحصين مساحات الجلد خارج الثوب. تدوّحين رأسك. تعرفين قيمة الجلد أنت؟ فاحفظيه، احفظيه قبل أن يشوى على النّار الربّانية الفائرة بما لا يحصى من ألسنة النار. ضربتك في ذلك اليوم، أفلت منّي الزّمام، انقطع حبل الصبر على امتداد أيّام من الصّراخ والصراع والغضب والسباب. لا أمل فيك! رفعت عينيك إلى السّماء: اللهمّ فاشهد. وأنت تشهدين عليّ الله انفلت مني الزّمام، دوّت الصفعة على وجهك المرفوع إلى السماء. قطرت عيناك دموعا وغلاّ. انتهى أمرك قلتِ. بلغتني صلواتك من خلف الباب، نفّست الصّفعة ما بي، استحليت أنني ضربتك. لعلّها تفيق قلت.
بعد أسبوع من رحيلك هاتفتني. كاد قلبي يتوقّف وأنا أرى صورتك ورقمك على شاشة المحمول: ألو ماما. غلبني البكاء وأنت تردّدين بحياد: ألو، ألو، اسمعيني هذي آخر محاولة، هل ستعودين إلى ربّك فأعود إلى البيت؟ جفّت دموعي فجأة كمن أغلق حنفيّة، نبتت في قلبي المترع بفرحة صوتك مئات الأشواك. كنت أكرّر بلا توقّف. أعود إلى ربّي؟ أعود إلى ربّي؟ وأنت تؤكّدين بلا بكاء ولا سؤال عنّي: نعم، ترجعين إلى ربّك وتحترمين شرعه. دهمني السّؤال: هل من شرع الله أن تكلّميني بهذه اللهجة؟ صعدت نبرة صوتك: ماذا قلتِ؟ قولي نعم، حتى أعود إلى البيت الآن. كنت كومة من القهر والعجز والحقد. أعود إلى ربّي؟ أعود إلى ربّي؟ وأنت تثقبين قلبي بالسّؤال: ماذا قلت؟ ماذا قلت؟
خطفتني موجة سوداء عاتية، نبتت لي مخالب وأنياب، الآن فهمت لِمَ تأكل القطط أبناءها في الحريق. وأنا آكلك لحمة طريّة حين أضعك في مغطس الماء، أقبّلك بقلبي وشفتيّ وأسناني، حتى أصبحت تضجّين: ماما يزّي من البوس. ثمّ أغلقتِ عليك باب الحمّام. كبرتُ يا أمي، سأغتسل وحدي. من أشعل حريق الفرقة بيني وبينك، من علّمك كلّ هذا الشكّ فيّ، من نصّبك جلاّدا على الرّحم الذي تخبّطت داخله وخارجه تسع عشرة سنة كانت لك وحدك، نتلاصق بالرّوح والجسد، نتقلّب مع الأيّام معا، وحدنا، متآنستين، ضاحكتين، نضجّ بالنّجاح والألوان والحياة والأفلام والأغاني وعروض الرّسم. وأنا أتيه بجمالك وذكائك على الخلق. وجسدك يرمح كحصان برّي وأنا أعبده في القرب وفي البعد، نتبادل القبل صباح مساء. تقولين ضاحكة عودي إلى أبي حتى تخلّصيني من فائض القبل الذي تعانين منه. أقبّلك أكثر، هو من تركني. فجأة غرقت في السّواد هكذا بلا مقدّمات.
كان البحر يترجرج بالزّبد والزّرقة، مرآة مضبّبة مجعّدة تناظرني بحياد، وأنا هنا، أنتظرك، أتآكل بالشّوق والمقت. لِمَ كلّ هذا؟ نتقابل خارج بيتنا كأنّك الغريبة أو كأنّي.. البارحة وأنا أرمي بحبّة النّوم في حلقي أضاءت شاشة المحمول إلى جانبي، رفعته فإذا أنت بضحكتك وشعرك المتطاير كعصافير الربيع، تقيسين خصلاتك على خصلاتي. شعري أطول، أقبّل خصلاتك. وشعري أجمل. تصرّين، لون شعري أحلى، أضحك.. تؤكّدين: نعم أحلى، أنت لونك صناعي، ابن أنبوب! أدّعي الإنكار، لا، لا، لونه ربّاني! ترمين رأسك على كتفي. ما أجملك ماما، صديقاتي يحسدنني عليك، يقلن: صحّة ليك، أمّك مثقّفة وجميلة، ننتقي معا ما سنلبس في المناسبات، تقولين: غيّري الحقيبة. أقول: غيّري الحذاء، ونخرج إلى الشارع هالتين من نور. عدت أنظر إلى رجرجة الموج وهيجان الزّبد. كأنّ البحر يبصق في وجه الرمل، نظرت إلى ساعتي. متى تطلّين؟ سأدخل أصابعي في أصابعك ونعود معا، نملأ السيارة بعلب العصير والشكلاطة وأكياس الغلال والبيتزا الساخنة، ونسهر حتى الصباح. لن أتركك، ستعودين معي وسنتّفق على كلّ شيء. لم تعد عندي قطرة من قدرة على البقاء بعيدة منك.
وأنا سادرة في ألمي، وأمّ صاحبتك وصاحبتك جالستان أمامي وسط جلبابين واسعين وخمارين هائلين يأكلان أكثر وجهيهما. لا تخافي على نور، إنّها معنا، وأنا سادرة في ألمي وفي بلادتي وفي عجزي. نور ديامونتة قالت الأمّ، يحسدك الناس عليها. أنا من نحتها تلك الديامونتة يا هذه! أنا من أفرغ فيها النور والألق، وهما تغادران البيت باسمتين سعيدتين ملتصقتين كنت أعوي ذئبةً ثكلى: نووووووووووور!..
ألو، أنا بخير. ألو، لا جديد فلماذا أهاتفك. ألو، أنت من يحدّد متى أعود إلى البيت. ألو، أنا في بيتٍ طاهر مبارك. ألو، ليس عندي ما أقول. لا حاجة بي إلى المال، لا تشغلي بالك بي. شهران وخمسة أيّام. ألو، نلتقي أمام البحر. لن أتركها، لن أعود إلى البيت إلاّ بها. لن أعطيها إليهم مرّة أخرى، سأهادنها وسأكذب عليها حتى نعود، وفي البيت سيكون لنا كلام.
تمتلئين بالغضب. تعلّمي المجاملة، راعي مشاعر الآخرين، قولي لهم ما ينبغي أن يقال. أصرّ لن أقول إلاّ ما أحبّ أن أقول، يرتفع صوتك. كلّمي الناس بلطف، احترمي قناعاتهم. يأكلني الغضب: كان عليهم أن يحترموا قناعاتي. تصرخين: عندك قناعات أنت؟ تشكّكين في ما لا شكّ فيه، وتستخفّين بالثوابت. أردّ على صراخك بصراخ أشدّ. من وسّطك بيني وبين قناعاتي؟ من حمّلك وزر أفكاري! أفكارك؟ أفكارك! عندك أفكار أنت؟ تشكّكين في ما لا شكّ فيه وتقولين عندك أفكار؟ ما هي أفكارك غير حقّك في التعرّي وعرض عضلاتك الجسدية واللغويّة؟ كان ذاك أوّل صدام حقيقي بيني وبينك، في بيت إحدى خالاتك، استقبلتنا في المطبخ ليلتها، تتعثّر في الحرج والاعتذار. سي أحمد قال اجلسي مع أختك وحدك. الله غالب، منذ تديّن. وسكتت. أحمد؟ زوج أختي الصّغرى؟ أنا من زوّجته أختي، طلبها منّي. أنا كبرى إخوتي الأيتام وأمّهم وأبوهم، وضعتُ يدها في يده ليلة عرسهما. أحمد من كان يقول لك: كوني مثلها في كلّ شيء. وأختي تهدّئ من غضبي وتترجّاني أن لا أرفع صوتي. مرقت من المطبخ كالغولة. رأيته يتربّع على مخمل الكرسيّ وعيناه على شيخ أبيض في الشاشة. لا تحبّ أن تجالسني يا أحمد؟ ارتبك، غضّ بصره. أستغفر الله، ليس الأمر كذلك. جلست بجانبه. فكيف هو؟ أنزل قدميه إلى الزربية الملوّنة تحته. لم ينظر إليّ. نحاول أمرا، قال. أيّ أمر؟ أيّ أمر! واندفعت بلا عقال، وأنت تحاولين غلق فمي وأختي تتوسّل باكية معتذرة. لمن كانت تعتذر؟ وفي السيارة كان الصدام بيننا على أشدّه.
وأنا أمرّر للمقود والعجلات جنوني وأرفس على الإسفلت صورة أختي تتعثّر في الخوف والحرج. لذلك لا تكادين تغادرين بيت خالتك منذ مدّة. من هنا جاءني البلاء. أيّ بلاء يا امرأة؟ يا امرأة؟! يا امرأة؟! لم أعد ماما؟ لم أعد أنا. وكان وجهك قبيحا وأنت تعلِّين صوتك حتى يبقى فوق صوتي: من حقّ الرّجل أن لا يجالسك في بيته، من حقّه أن يختار من يجالس ومن لا يجالس. دهمتني موجة من البكاء. ولكن هذا أحمد، وهذي أنا. رفعت كفّك كأنّك تشهدين عليّ أحدا: رجل وامرأة. ذكر وأنثى، لست أخته ولا أمّه ولا زوجته. ثمّ.. وارتعش صوتك. ثمّ ماذا؟ تكلّمي. لباسك. ولم تزيدي شيئا. وانهلت عليكم بالسباب، ما له لباسي يا بنت الكلب؟ أنا ألبس كما يلبس خلق الله جميعا. ألم نشتره معًا؟ ليلتها قلت قبل أن تغلقي باب غرفتك: سأتحجّب.
للبحر وجه امرأة تفكّر، للبحر وجه امرأة تصلّي. للبحر قلب امرأة مصلوبة. كنت أبحث عن جملة تليق بالبحر وبحزني، وفراشات الشوق إليك تتقافز من كلّ موضع فيّ، يا ابنة النور، والبحر شاهد على صخب أصيافنا في موجه، من أخذك منّي؟ من قلب زورقنا الصغير في اليمّ فوقعنا كلّ في موجة؟ والموعد فاتت عليه دقائق خمس، فمتى تهلّين هالة من نور وفرح؟ وعدت أنظر مرّة أخرى إلى الشاب والفتاة يقفان أمام البحر وحدهما مثلي في هذه الأمسية الخريفية المثقلة بالسحب والريح، هي سواد في سواد، يغطّي السواد وجهها ويديها ويمسح الأرض تحت قدميها كلّما تحرّكت أو التفتت أو اقتربت من الموج أو ابتعدت. وهو يضحك ملءَ صدره القويّ البارز من تحت جلبابه الضيّق، ولا يتوقّف وهو يحادثها عن تمسيد لحيته، يلاعب شعرها الكثّ ولا يتوقّف عن الكلام والضحك. وفتاته تطير حوله هنا وهنا كحمامة سوداء. كيف نرى البحر من وراء حجاب؟
ستّ دقائق على موعدك الذي ضربته لي يخلّفها العقرب وراءه بلا رحمة. التفتّ ناحية الكوبل فلم أجد أحدا، متى طارت الحمامة السوداء؟ لا أحد أمام وجه البحر غيري، وغير لهفتي على أن تطلّي عليّ، وأن ترتمي بين ضلوعي، وأن أثقب تلك القشرة الصّلبة التي دهنت بها نفسك وقلبك وجسدك، وألمسك وأراك كما أنت دائما، بلا خوف ولا تخويف ولا فزع من الآتي. كما أنت وكما أنا، فلماذا تأخّرت؟ وينك؟! ألو.. كنت أصرخ أمام البحر وحدي، لماذا تأخّرت؟ ألو ماما.. لم أتأخّر ماما، توحّشتك. وأنا أسأل بلا توقّف وينك؟ وينك؟ شبيك وخّرت؟ وبدا لي صوتك مملوءا بالبكاء. هكذا بدا لي. لم أتأخّر ماما.. وصلت قبل الموعد. مسحت بعينين ملهوفتين طول الشاطئ الممتدّ عن يميني وعن يساري. لا أحد، وينك؟ وينك؟ لا أرى أحدا. ضحكت، تلك الضحكة الصغيرة التي ترشينني بها حين تحاولين مُراضاتي أو الاعتذار عن إحدى حماقاتك. ما لقلبي ينقبض يا ربّي؟ وأنت تؤكّدين: رأيتك ماما وشبعت من وجهك. كنت أتصورّ أنّك ستعرفينني من الوهلة الأولى. ولكن، حتى حين تحرّكت وتحدّثت بصوت عال لم تعرفيني، ماما. كان الليل ينسرب إلى قلبي بعنف قاهر، وأنا أغصّ بالصوت بعد الصوت، وبالحرف بعد الحرف. أنت؟ تلك المنقّبة؟ لِمَ لَمْ تأتي إليّ؟ هذه المرّة كنت تبكين فعلا. لم أستطع يا أمّي، عن قريب إن شاء الله أزورك ماما. ثمّ لا شيء غير أنفاسك في أذني. ماما أبعدي وجهك قليلا عن رأسي، أنفاسك في أذني. لا أستطيع أن أنام. ابتعدي قليلا، فأحضنك أكثر، أضعك بين قلبي وكبدي وأنام. هل كان عليّ أن أسأل: من ذاك الذي كان معك؟ وهل كان عليك أن تجيبي بعد صمت طويل، زوجي يا أمّي.