المتوسط الذي لي
"هذا البحر لي" – يُمكن لهذا السّطر الشّعري المتكوّن من ثلاث كلمات أن يُلخّص حياتي وعلاقتي بالبحر الّذي رأيتُ النّور على ضفافه. ليس هذا مجازا. وُلدتُ بالفعل على مرمى حجر من البحر الأبيض المتوسّط، في مكان يحمل اسما يتطابق معه وهو “مصحّة الزّياتين”، لأنّ المصحّة بُنيت في عمق غابة زيتون على الضفّة الشّماليّة للبحر المتوسّط لقرية حمّام سوسة الفلاحيّة الّتي صارت بفعل السّنين مدينة بأتمّ معنى الكلمة، أي قطبا اقتصاديّا وسياحيّا وجامعيّا وثقافيّا.
"هذا البحر لي" وهو بالفعل كذلك إذ أنّي تعلّمتُ العوم قبل المشي وخبرتُ قراءة الحروف والكلمات على ضوء الشّمس الّتي كنتُ أرقبُ بزوغها وغروبها في الصّيف كما في الشّتاء، حتّى خلال شهر رمضان حيث البحر ومباريات كرة القدم والشّطرنج والورق، وهي لذّة أخرى ودور فكري واجتماعيّ متميّز، تعلّمتُ منه أنّ فرض الصّوم ليس مشقّة بقدر ما هو تمرين بدنيّ ووجوديّ على حدّ السّواء.
“هذا البحر لي”، نعم، هو وكلّ ما يجمعُ بينه وبين السّماء والأرض، وبين الماضي والحاضر، من تين وزيتون، وماء وهواء، وحقائق وأكاذيب، وجمال وأساطير. يبدو أنّ نظرتي البسيطة والمعقّدة إلى العالم تتماهى مع مكان ولادتي، ومع علاقتي بالمتوسّط. وتمثّلني فقرة صغيرة عن الصّديقة المترجمة والمبدعة سيلفي دوازلي عن المتصوّف الفلمنكي روزبروك (1293 – 1381) “تبقى روح المكان بالنّسبة إلى أولئك الّذين ليس لديهم إحساس بالتّاريخ: المناظر الطبيعيّة والمناخ وألوان السّماء والأرض والآفاق والعنف أو غياب الرّيح وخطوط السّقف والممرّات وسحر الأسماء. أماكن الميلاد والموت، المخصّصة للعائلات والأشباح، أو الأماكن الّتي تحلم بها وترغب فيها – هي المغناطيس الّذي يحرّفُ قوة جاذبيّته خطوط الحياة. […] يعملُ مكان الولادة كقطب جاذب أو طارد في أيّ حياة أخرى. الجنّة المفقودة أو سيّئة الذّكر، هي علامة فارقة ومنها تكون الحياة فيها هروبا أو تأصيلا، ونفيا أو عودة، ورحلة أو دائرة: يولد خيال القريب والبعيد من مكان الولادة” (من كتاب “الصّديق اللاّمرئي”، باريس، منشورات لاتابل روند، 2006).
“هذا البحر لي”، دوما وأبدا، وإن صادف أن غُصْتُ فيه شمال المتوسّط، لم أتعرّف عليه ولم أعتبره بحري. وهذا ما يؤكّد صحّة الكلمات السّابقة، فهي ضاربة في ما يُسمّيه الكاتب التّونسي الكبير محمود المسعدي “تأصيلا لكيان”، لكن هذا ليس من باب الوطنيّة أو الشّوفينيّة الضّاربة في التطرّف، لأنّ شمال المتوسّط بحرا ومناخا ورملا ونورا، ليس جنوبه ولا شرقه. كلّ شيء مختلف، لا شيء يُشبه ما ألفتُ، بالرّغم من أنّي لا أبحثُ عن السّهولة ولا عن السّائد ولا عن المألوف. فأنا أتعمّقُ يوميّا في خطر الكتابة واللّغة والتّرجمة والبحث. هذا نصيبي من شخصيّة أوليس/أوديسيوس الّذي غاب عشرين عاما – عشرة خاض فيها حرب طروادة الّتي دمّرها في نهاية الأمر من خلال ابتكاره فكرة “حصان طروادة”، وعشرة أخرى تمثّلت في رحلة العودة إلى موطنه إيثاكا، وهي كما نعلم رحلة حافلة بالمغامرات والمصاعب والمخاطر –، كي يرجع إلى موطنه حيث تنتظره زوجته بينيلوب وابنه تيليماك وكلبه الوفيّ أَرْغُوسْ.
على عكس ملحمة هوميروس، حيث إيثاكا هي المصير المنشود لأوليس/أوديسيوس، ويشجّعُ الشّاعر اليوناني المعاصر الإسكندراني كونستنتين كافافي، في قصيدة “إيثاكا”، القارئ على قضاء الوقت في التّيه في رحلته والتعلّم من تجاربه قبل العودة إلى الجزيرة. فحسب كافافي ليس لإيثاكا ما تقدّمه، باستثناء أنّها قدّمت بالفعل الأفضل: وهي فرصة السفر.
إيثاكا
وأنت تنطلق إلي إيثاكا
فلتأمل أن تكون رحلتك طويلة
حافلة بالمغامرة حافلة بالاكتشاف
لا تخف من الليستريجونيات والسيكلوبات
ولا غضب نبتون
لن تجد شيئا من ذلك في طريقك
طالما احتفظت بأفكارك سامقة
طالما منعت روحك وجسدك من مسّ الأحاسيس السّاقطة
لن تقابل الليستريجونيات والسيكلوبات
ولا الشّرس نبتون
مالم تحملهم داخل روحك
ما لم تضعهم روحك أمامك
فلتأمل أن تكون رحلتك طويلة
ولعلّ صباحات الصّيف تكون كثيرة
ويا لها من متعة يا لها من بهجة
لتدخل موانئ تراها للمرّة الأولى
ولعلّك تتوقّف عند محطّات التّجارة الفينيقيّة
لتشتري أشياء جميلة
أمّ اللّؤلؤ والمرجان والعنبر والأبنوس
فوصولك إليها هو غايتك الأخيرة
لكن لا تتعجّل الرّحلة أبدا
فالأفضل أن تستمرّ لأعوام طويلة
حتّى لو كان للشيخوخة أن تدركك وأنت تصلُ إلي الجزيرة
غنيّا بكل ما جنيته في الطّريق
دون انتظار أن تمنحك إيثاكا الغنى
لقد منحتك إيثاكا الرّحلة الرّائعة
فدونها ما كان لك أن تبدأ الطّريق
ولكن ليس لديها ما تمنحه لك سوي ذلك
فإذا ما وجدتها فقيرة فإنّ إيثاكا لم تخدعك
فبالحكمة العظيمة التي جنيتها بهذه الخبرة الكبيرة
لا بدّ أنّك قد أدركت بذلك ما الّذي تعنيه إيثاكا.
(ترجمة شخصيّة انطلاقا من التّرجمة الفرنسيّة الّتي قامت بها عن اليونانيّة الأديبة الكبيرة مارغُريت يورسونار)
وهذا ربّما ما أعيشه يوميّا على ضفاف المتوسّط صحبة اللّغة الّتي اخترت – الفرنسيّة – والّتي تلعبُ دور السّفينة أُبحرُ فيها كلّ لحظة لأسافر وأستكشف وأغوص وأبحث عن النّجوم في الأعماق وعن اللآلئ في كبد السّماء. فعندما أستشهدُ بالرّاحل محمود درويش وأقول “هذا البحر لي”، أعني حقّا ما أقول وأستحضر وصيّته في “الجداريّة” (1999) الّتي شرع في خطّها في “مديح الظلّ العالي” (1982) بسؤاله الميتافيزيقي “عَمَّ تبحث يا فتيً في زورق الأوديسةِ المكسورِ؟”، ليُجيب بطرق عديدة قبل أن يطرح السّؤال – الجواب الّذي من خلاله يتراءى لنا مشروع درويش الشّعري والإنساني “هل أَكُونُ مدينةَ الشّعراء يوماً؟”.
ربّما يكون المتوسّط، من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، مدينة الشّعراء، أو بالأحرى الحوض الأبيض (لا الأحمر الإلياذي المضرّج بالدّم ولا الأزرق الأوديسّي المليء بالمخاطر) الّذي من شأنه أن يكون رحم الأرض من أجل ولادة جديدة تكون “إنسانيّة ضاربة في الإنسانيّة”. ربّما هي نظرتي الطّوباويّة إلى الأمور، لكن في المدينة الّتي رأيتُ النّور فيها جنوب غرب المتوسّط، من حقّ الشّعراء الوجود وإبداء رأيهم في الأمور العامّة. هي نقلة نوعيّة، فلا يحقّ للفلاسفة المزعومين ولا لرجال الدّين المزيّفين طردنا من “مدينة الشّعراء” الّتي يُمكنُ أن تكون مدينة البشر أجمعين.