واجهة دمشق البحرية
حلم كان يطل عليّ كثيراً في دمشق، هل دمشق الشام مدينة متوسطية؟ إذن لمَ لا تملك بحرها، شطها، ورملها. دمشق مدينة غير مكتملة في زمن سيء، بينما كانت مكتملة بناسها، وحاراتها وشوارعها، لم يكن ينقصها شيء سوى أن تمتلك واجهة بحرية، تفتح ضيق اجتهاد سكانها، وتخفّف من وعثاء الحياة اليومية على سكان الواحة الدمشقية التائهة في البادية العربية.
يقولون إن البحر معطاء، والبحر كريم كرم بلا حدود، والبحر أيوب الذي اختبره الصبر، ودمشق لمن يعرفها هي مدينة زاخرة عامرة، ولكن صبر أيوب يبدو صغيراً أمام الصبر الذي عاشته جلق الوديعة منذ سنوات وسنوات.
دمشق الصابرة، مدينة بألف وجه، لا يمكن وصفها بصفة واحدة وإن أصرت كل جماعة على شد بساطها نحوها، تبقى هي المدينة التي يرى كل داخل إليها نفسه في مرآتها، ولكنه في الحقيقة حينما يغادرها لا يرى إلا وجهها العريق، والعراقة من الحرية.
مدينة رصينة ومحافظة، خليعة وثائرة، حكيمة وعابرة، عجوز وصبية، يتبدل مزاجها كما تتبدل فصول السنة، وكما تتبدل السنوات السبع العجاف إلى سنوات الخير، مدينة المدارس الفقهية والصوفية والفلسفية، حيث كان الفلاسفة يجلسون على حافة النهر العذب، ويضعون أرجلهم في الماء الرائق، يأكلون التفاح وينظّرون في أبدية الكتاب والعالم والخالق، وأهمية العقل والفكر، بينما هم منغمسون في متع الدنيا حتى الثمالة.
مدينة تجنبها الأنبياء خوفاً من فساد تقشفهم، فالخير يبعث على الراحة والراحة تفك شدة العقيدة، فكلما اشتد التقشف زاد الإيمان بالغيب، بينما دمشق تلك، حاضرة وجاثمة منذ الأزل.
كانت الواحة الأخيرة قبل الصحراء، واحة بلا نخيل ولا سراب. مدينة تستظل بجبل وغابة فواكه، لا تحتاج إلا بحراً. كل شيء جاهز لبحر دمشق، فالمنارة مرفوعة والسفن تستدل على الميناء كما تستدل العقول الفارغة على الحكمة، وكما تستدل النحلات إلى زهر الغوطة في الربيع.
كل شيء جاهز لبحرها، الأمهات اللواتي تنتظرن أبناءهن، والعشيقات اللواتي ترغبن في الانتحار لهجران أحبتهن لهن، الصامتون ممن يرغبون في بث أبصارهم بعيداً في العمق السماوي، كل شيء جاهز للبحر، الغاضبون من دمشق ممن يرغبون في دفع أعمارهم ثمناً لعبور البحر للابتعاد عنها.
كل شيء جاهز، الأغاني والمواويل والآهات، حتى كؤوس الشاي وأقداح العرق قرب أصص الورود الحمراء والبيضاء، أسماء النباتات، السمك الملون، شجر الليمون والبرتقال والكباد والنارنج، حتى الملح على الجرح كان ولايزال حاضراً.
لن تشعر بالتعب وأنت تبحث عن منزل دمشقي حاول زراعة الموز وفشل، أو حاول زراعة شجر المطاط ولم ينجح، كل شيء كان جاهزاً في دمشق، كل شيء كان جاهزاً، إلا أن البحر لم يأت، ولم يأت الغيّاب، ولم يبحر الهاربون، ولم تنتحر الحبيبات.
دمشق عالقة في برزخ بين الصحراء والبحر، بين الجبل والشجر، برزخ قتل أهلها، وذوّب صبرهم في كاسات من ماء عكر. وما من شيء أشد قبحاً من حبيبة تنتظر بحر دمشق كي تنتحر فيه، والبحر ليس قريباً منها، كما هو الموت حينما ينوس فوق رؤوس العشاق.
يقولون إن أهل مدن البحر أصحاب مزاج مختلف عن أهالي مدن الداخل، وكذلك عن أهالي مدن الجبل والسهل، لكن الدمشقيين من شدة محبتهم للبحر والحرية، زرعوا الماء في كل شيء، زرعوه في البحيرات والفسقيات والنوافير والأنهار المتفرعة، في قصائدهم، في أغانيهم، في أحاديثهم الجافة وفي لغتهم وحكاياهم، حتى الغريب بات قريباً في دمشق.
ويبقى السؤال رغم كل هذا: هل دمشق الشام مدينة متوسطية؟ أم أنها تحايلت على الصحراء لتصنع لنفسها واجهة بحرية شبيهة بواجهة حيفا ويافا وعكا واللاذقية وإسكندرونة وبيروت وطرابلس والإسكندرية، كي تستقبل الشمس منها وتودع عليها النهار؟
نعم لقد صنعت الشام واجهتها البحرية على المتوسط.
هل واجهة دمشق البحرية مفتوحة على المتوسط، أم مردومة نحو الشرق والداخل.؟ هل دمشق مدينة متوسطية؟ أم مدينة محبوسة في الداخل؟. خلف جدران جبال لبنان؟ لم يكن ذلك ليحدث حتى لو كان يفصل دمشق وسوريا الداخلية عن المتوسط جبال الهيمالايا. تتحدث الكتب فيما تتحدث عن عروض جماهيرية ضخمة لمسرحيات الإغريق في المسارح السورية الدائرية، في بصرى وتدمر وشهبا وحتى في مسرح دمشق المندثر، قُدمت مسرحية الأورستيا، ثلاثية أسخيليوس الشهيرة على مسارح سوريا حينها، وقُدمت كذلك مسرحيات سوفوكل ويوريبيد. وفي يوم ما كانت المواطنة الرومانية منتشرة بين سكان المدائن السورية ومنها دمشق، ومن جنوب دمشق خرج أباطرة حكموا روما، ” فيليب العربي” كان هناك، وكذلك أبولودور الدمشقي الذي شيد للإمبراطور تراجان عموداً لا يزال قائماً حتى اليوم. لم تُدر الشام الكبرى والشام الصغرى ظهرها يوماً للمتوسط، بل كانت على الدوام تود الزحف نحوه، أو جلبه إلى تخوم سهلها. أما حلب فكانت توأم البندقية، ومن أرواد بزغت روح الشرق في الغرب. فهل نحن متوسطيين؟
رغم كون مدينة دمشق مدينة داخلية، إلا أنها تنتمي بشكل كبير للفضاء المتوسطي، قلباً وقالباً، ثقافياً واقتصادياً، كان القادمون إلى بر الشام الكبرى يهبطون في موانئ الساحل ويبيتون في دمشق، وإليها قدم من الأندلس الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، وابن خلدون، ومنها خرج للمتوسط ابن النفيس وابن الجزري، ويوحنا الدمشقي، وفاتحو الأندلس وأيضاً إليها جاء حاملاً شاؤول اسمه، ومنها خرج بولص الرسول وقد حولته إلى الهداية.
هؤلاء جميعاً وغيرهم الكثر الكثار، هم واجهة دمشق البحرية، التي يصطف التائهون على شاطئها يومياً، ويقف الصيادون يومياً في انتظار سمكة الحكمة، هؤلاء هم واجهة الشام البحرية تلك التي جعلتها ميناءاً للتائهين والراغبين في التحول، من وإلى.
المتوسط بحر لطيف، رحوم وبسيط، لا يعبأ بانقطاع الوصال، لأنه واثق أشد الثقة بأن دمشق رمت في زجاجة كنعانية رسالتها إلى العالم، ربما تاهت هذه الرسالة في موج المتوسط، على جزر إيجة أو قرب قبرص وكريت أو ربما قرب مالطا، أو قرب جبل طارق الذي تقول الأساطير الدمشقية إنه تاه يائساً في شوارع الشام بعد خذلانه في الأندلس. هناك ربما، ويوماً ما، سيفتح المتوسط والمتوسطيون رسالة دمشق المودعة في زجاجة فارغة، وسيعرف البحر كم انتظرته دمشق.