ميليا غروس شاعر الحب الكوني
لا شك في أن طبيعة جدارا، تلك الكورة الصغيرة المتوزعة على ضفتي وادي اليرموك، الشمالية والجنوبية، هي التي صاغت ذائقة الشاعر ميلياغروس، مذ كان طفلاً، يجوس الوديان والهضاب المحيطة بمدينته، يعابث الفراشات، ويراقب القطعان المنتشرة على السفوح؛ وهي تلتهم العشب، على نغمات شبابة الراعي!
وربما، قضى أوقاتاً طويلة وهو يعدّد أنواع الأزاهير البرية المنتشرة على مد البصر، أو يراقب، من مدرج مدينته، بحيرة طبريا، وأشرعة الصيادين التي تتهادى على صفحة مياهها، وفي الأفق جبل الشيخ المكلل بالثلوج طوال العام.
ولا بد أنه زار الينابيع الحارة في الحمة، واستحم بمياهها الدافئة مع معلميه ورفاقه في الأكاديمية، حين كان فتى يافعاً، وهناك حدثهم المعلم عن عجائب إسكولابيوس في شفاء المصابين بالعلل المزمنة.
هذه الصور التي لاتزال حقيقة نابضة، في أمّ قيس الأردنية، والحمة السورية، سوف نجدها مرسومة بعناية في قصيدته الخالدة “الربيع”، ملهمة الكثيرين بعده، من شعراء وفنانين تشكيليين حاولوا مقاربة تلك الروح النابضة الوثابة التي أبدعت وصفاً غير مسبوق لقدوم فصل الحب والحياة والجمال.
لم تكن سوريا كوطن، غائبة عن قصائد الشاعر الذي حطت عصا الترحال به في جزيرة كوس اليونانية، ليس كذاكرة تخييلية فحسب، بل كوعي حضاري ومضمون إنساني يحفظ كلمة سر سحرية تقال في المناسبات كافة: في قمة الاحتفال، وفي لوعة الحزن والفقد. في لقاء القريب، وتحية الغريب، وفي الوداع. إنها كلمة سلام، التي أودعها شاعرنا كما هي، بلفظها المحبب، في قصيدة عظيمة من قصائد هذا الكتاب.
كانت جدارا أشبه بواسطة العقد في اتحاد المدن السورية العشر “ديكابوليس”، إذ أنها كانت تقع في المنتصف بين هذه المدن التي تبدأ جنوباً من عمّان (فيلادلفيا)، وتنتهي شمالاً في دمشق (دماسكوس)، مارة بجرش (جيراسا)، وذيبان (ديبون)، وعمتا (أماتا)، وبيسان (سكيثوبوليس)، وطبقة فحل (بلا)، وقنوات (كناثا)، وتل الأشعري (ديون)، والحصن وسرج سوسيا (هيبوس).
عاش ميلياغروس حياته للشعر والحب وتأمل الجمال وابتكار الصور الغريبة التي لم يألفها شعراء زمانه، ولم يسع طوال حياته إلا لكسب قلب امرأة أغرم بها، أو اقتناص صورة جميلة، أو اختزال مشاعره ببضع كلمات حول صديق غاب إلى الأبد!
وحتى حين كانت تغادره إحدى النساء اللواتي أحبهن، إلى رجل آخر، تجده يتمنى لها السعادة مع عاشقها الجديد، فقلبه لا يقوى على الغل والكره، فحتى عباراته التي توحي بالحقد والانتقام، تخرج منه من باب السخرية والمداعبة لا أكثر!
لقد قبل السوريون والمصريون الثقافة الهيلينية بعد فتوحات الإسكندر، طوعاً، وأضافوا إليها بعداً محلياً فكانت الثقافة الهلنستية، التي جمعت روح سوريا ومصر، بفلسفة وأدب أتيكا، والتي عادت بدورها، (أي الثقافة الهلنستية)، لتؤثر من جديد في اليونان نفسها، ولتغير من وعيها الثقافي والحضاري لذاتها، في عملية تفاعل فريدة، قلّ نظيرها في تاريخ الحضارات.
ميلياغروس كان أحد هذه الرموز التي أثَّرت في الغرب اليوناني واللاتيني، والأوروبي فيما بعد، فعلى الرغم من أنه كان يستخدم اليونانية في كتابة قصائده، إلا أن انتماءه لروح وطنه الأول ظل حاضراً على الدوام في شعره، وظلت نزعته الإنسانية التي تلقاها في أكاديمية مدينته الفلسفية، دليله الذي لم يحد عنه طوال حياته، تلك النزعة التي ميّزت أيضاً شاعراً آخر، مواطناً له، أطلق على نفسه اسم محب الإنسان “فيلوديموس”. ولا شك في أن هذه النزعة نابعة من طبيعة الحضارة السورية الضاربة في العمق، والمنفتحة على الآخر، والتي عبّر عنها خير تعبير، جَداري آخر سبق شاعرنا بنحو قرنين من الزمان، ألا وهو الفيلسوف الساخر مينيبوس (منيب)، إذ، حفرت فلسفته الزاهدة وسخريته المحببة عميقاً في روح شاعرنا الذي أعلن أكثر من مرة انتماءه لذلك الفيلسوف!
والغريب أن الكثير من المستشرقين الذين درسوا هذا المبدع؛ حاولوا تجريده من أصوله السورية بدعوى أن اسمه واسم والده يونانيان، ولكن هذه الطريقة البائسة في الدرس والاستنتاج أوهى من بيت العنكبوت، فإطلاق الأسماء اليونانية على أبناء تلك القرون، يشبه في عصرنا إطلاق المسلمين من غير العرب على أنفسهم أسماء عربية. فميلياغروس كان سوريّ الأبوين، وليس يوناني الأب وسوريّ الأم كما يزعمون، فلو كان والده يونانياً لقال ذلك، ولكنه أشار في أكثر من قصيدة إلى انتمائه السوري، ولو أنه بين الحين والآخر يعود للتأكيد على أن العالم كله بلد واحد، وأن الإنسان يأخذ قيمته من إنسانيته وليس من أيّ شيء آخر.
وأخيراً، لم يكن لهذه السلسلة، “سوريا الهيلنستية”، إلا أن تزيّن إكليلها بقصائد هذا الشاعر العبقري الذي لا نكاد نعرف عنه، نحن قراء العربية ومتحدثوها، إلا النزر اليسير اليسير، ولذلك احتل هذه الأولوية المتقدمة في مشروع ترجمات السوريين الذين كتبوا باليونانية، خلال تلك الحقبة الغنية من التفاعل الحضاري.
وعلى الرغم من أن ترجمة الشعر تفقده الكثير من خصائصه، إلا أن مضمون قصائد ميلياغروس ذي القيمة العالية، ساعد في احتفاظ قصائده بالكثير من ألقها حتى بعد نقلها إلى الإنجليزية والفرنسية، وأخيراً العربية على يد الأستاذ عادل خالد الديري، الذي بذل جهداً بحثياً استثنائياً في المقارنة بين الترجمات المتعددة للوصول إلى روح النص، وقد وفّق في ذلك أيّما توفيق.