نسوية لطفية الدليمي
يعرفُ عن لطفية الدليمي غزارة الإنتاج من مقالات وتراجم وقصص شرعت في نشرها منذ مطلع سبعينات القرن الماضي. تواصل عملها بدأب وتكتفي بدائرة محدودة من الأصدقاء والصديقات ممن تتواصل معهم بسخاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ولأنها صاحبة رأي فهي تعبّر عن آرائها بأمور كثيرة بعضها يثير جدالات ساخنة وبخاصة موقفها من موضوعة نسوية الأدب وإصرارها على أنْ ليس للأدب تقسيم جندري. لا وجود – بنظرها – لأدب نسوي وآخر ذكوري رجالي وهو أمر مفتوح للنقاش.
أتناول في هذه المقالة نسوية لطفية الدليمي، الكاتبة والمترجمة والروائية العراقية، لتسليط الضوء على نظرتها في هذا المجال من خلال مجموعة من القصص القصيرة التي تضمنها كتابها “ما لم يقله الرواة”، الذي صدر عام 1999 عن دار أزمنة في الأردن.
تأتي هذه الطريقة لتؤنسن الموضوع ولا تسمح بضياعه في غياهب التبسيط والعمومية؛ فكتاباتها تتسم بنسوية عراقية مرهفة ومتميزة أغفلها كثيرون ممن كتبوا عنها عندما اصطادوا جانباً وأهملوا جوانب. هذا لا يعني بالتأكيد أنّها تقرُّ الانضمام إلى “عشيرة” الأديبات من النساء مقابل “عشيرة” الأدباء من الرجال؛ فالأدب جنس ثقافي متميز ولا يميز ولكنه لا يخفي توجهات المشتغل فيه وبخاصة إذا كان صادقاً مرهفاً يكتب من صميم روحه ويقرن الكتابة كمهارة فنية بالموقف الأخلاقي بمعانيه الإنسانية الجوهرية الواسعة، وهذا ما رصدته لدى كاتبات كثيرات وعبرتُ عنه بمقالة نشرت لي في صحيفة المدى العراقية كان عنوانها “النساء يكتبن بطريقة مختلفة…”. لطفية الدليمي ليست استثناء من هذا الميل كما وجدت فيما أنتجته في هذه المجموعة من القصص القصيرة. يظهر إلى جانب نسويتها الواضحة – أي موقفها السياسي والأخلاقي من قضايا وهموم النساء – اهتمامها بالشأن السياسي والاجتماعي العام للبلد؛ فقد كتبت الدليمي هذه القصص في فترات متنوعة من التسعينات وهي الفترة التي شهدت فرض الحصار الاقتصادي على العراق والذي سرعان ما امتد ليشمل جوانب متعددة من حياة الناس ليصبح حصاراً ثقافياً وعلمياً وإعلامياً وصحياً صارماً ساهم بلا شك في تصحر المجتمع نتيجة العزلة والعزل. تركت أوضاعٌ قاسية من هذا النوع بصمات غائرة في صلب البنية الاجتماعية ومنظومتها القيمية والأخلاقية وحمّلت المشتغلين في ميدان الثقافة والمعرفة والعلم مسؤوليات كبيرة. صار لما كتب آنذاك وبخاصة في مجال الأدب قوة الوثيقة والتسجيل الذي عجزت عنه أقلام المشتغلين في ميادين أخرى ملزمة بتوجهات محددة.
يُلاحظ ابتداءً في هذه المجموعة القصصية أنّ كل البطلات نساء يأتين من فئات متنوعة؛ ففيهن الشابة الصغيرة التي تستكشف الحياة من خلال علاقة حب أو المرأة المسنة التي تحصي خساراتها وتلك التي بلغت سن النضج وصار عليها أنْ تواجه أقدارها دائماً من خلال – وبالعلاقة مع – رجل يظهر في مكان ما من حيواتهن.
تكتب لطفية الدليمي في “جياد في الليل” عن معاناة امرأة تتكدر بتصور احتلالات قادمة وهي تستمع إلى صهيل الجياد التي تكاد تقتحم سياج البيت الذي تقيم فيه وتردد “الرعب قادم”، وعندما تعود إلى هدأتها تستذكر حبيباً تلاشى في دخان الحرب، ويبدو أنّها تقصد الحرب العراقية الإيرانية، تستدعي حضوره وتقطع أنّه لو كان معها في هذه الليلة الموحشة “لأضحكها من تجليات خوفها”، وتمضي بمشاعر امرأة رقيقة وتتصور لو كان لها ابنٌ منه، يشبهه، “لكنهما الرجل والابن في غيب من الزمان بعيد.. ضاعا معاً في الغسق الممتد وراء الصيف، ودخلا لعبة النسيان وغمائم دخان الحروب”، وتتأمل في الحصار الاقتصادي الذي عصف بالعراق خلال التسعينات وتردد مع نفسها أنّها “معروضة للموت “، وتميز بين لغة الحياة ولغة الموت وتعبر عن ذلك بالقول “لغة الحياة تقال عبر الهمس والرعشة والنبض، لغة الموت لا تقال ولا تسمع”، وتسجل لسنوات الحصار وتكتب “نسوا ملذات الحب ومباهج الجمال وما عادوا يذكرون سوى الكوارث والمدن الظامئة.. وما عادوا يتلمّسون غير مذاقات الخبز الأسود والشاي ولسعة الجوع التي تعقبهما”. تميز بين مفهوم الرجال للحياة مقابل مفهوم النساء بالقول “يبدد الرجال أرواحهم.. في أسواق المضاربات وتجارة الأغذية.. بينما تبحث المرأة في الترف الزائل لحياتها عن زجاجة حليب وقرص دواء لأعراض ظهرت بعد الحرب وانتشار الحرائق والإشعاع…”، وتحاول مع ذلك “مثل أخت عاقلة” أنْ تسحبه من عالم الصفقات والمضاربات والمشاريع الخطرة. خُيل إليها أنّه شرع بالاستماع إليها ولكنها فوجئت به ينسى ما وعدها به ولكنها “لم تدهش كثيراً فقد وطّنت نفسها على استقبال الخذلان والخسائر”. يحاول معها، يحرّضها على كسر نظامها وتدرك مقدار العبث بتعلقها به. إنّه “يقترح حباً محجوباً سرياً مغلقاً لا يحمّله أيّ تبعات وتقترح لنفسها فضاءً مشمساً وطرقات مضاءة وبيتاً ضاحكاً له شرفات على النخل والموسيقى…”، وتقرر أخيراً أنْ تطلب منه أنْ ينسى ولم تفاجأ عندما وجدته ينسى “بأسرع مما تهب الريح”.
لم تستوقفني “مصادر الاستثارة الحسية” لدى نساء لطفية الدليمي كما يعبر د. حسين سرمك في المقتطف الذي ظهر في الغلاف الأخير من الكتاب، بل استوقفتني مشاعر الخيبة والخذلان التي تجتاح بطلة قصة “أخف من الملائكة” (1994) بعد أنْ فتحت محفظتها لتحصي ما حصلت عليه من مال عندما باعت مجلدات الفلسفة والتاريخ ولوحة فنية لفنان عراقي راحل كانت تملكها، وتتساءل مع نفسها: هذا ما بقي لي من النقود التي اشتريت بجزء منها خُفّاً جلدياً رديء الصنع بألفي دينار ونصف كيلو من القهوة بثلاثة آلاف دينار. تحدثُ نفسها بارتياع وتتساءل كيف أنّها أهدرت الفلسفة والتاريخ والفن مقابل سلع بائسة. ينتابها الشعور بالحمق وتندم على ما فعلت.
تسجل في فقرة أخرى مشاعر كثير من النساء الشابات خلال فترة الحصار تجاه الرجال الذين رحلوا ورحلت نفوسهن معهم، وتذكّر بالبرنامج السيء الذي كان يبثه تلفزيون بغداد في فترة الحرب العراقية الإيرانية، “صور من المعركة”، حيث تظهر على الشاشة “جثث متيبسة وجثث مبتورة الأطراف.. وأطفأت التلفزيون وهرعت إلى الحديقة”. تعود إلى وحشتها وتواسي نفسها المغلوبة وتتوصل إلى أنّ هذا كل ما انشغل به تأريخ الإنسانية منذ الأزل.
تبلغ الذروة في وضع الخطوط العامة الرئيسية لموقفها من النسوية في القصة القصيرة التي حملت عنوان الكتاب، “ما لم يقله الرواة “، فهي ترى أنّ الذكورية ورطت الرجال لأنّها غذّت في أنفسهم وخيالاتهم “صورة امرأة من زمنٍ آخر”، تمثلت فيما أطلِق عليه “شهرزاد”، وهذه نوع من الشخصية التي تسبح في عالم الخيال، وتضع الدليمي حياة الرجال بقدر تأثرهم بالمرأة في مرحلتين رئيسيتين تراهما الأكثر حساسية: الشباب وأول أعوام الكهولة، وتصف دورة حياة الرجال الوجدانية بأنّها تمر بالحالات الأربع التالية الغواية فالاستعباد فالإلغاء فالموت. لا تتوقف لتوضح هذه الحالات الأربع إنّما يستدل من الأولى، الغواية، المسعى للفت نظر الفتاة أو المرأة، وسرعان ما يدخل هؤلاء مرحلة الاستعباد من خلال الزواج التي يمكن أنْ تقود إلى إلغاء ذات المرأة، فالموت حيث الوقف والنهاية الكبرى للعلاقة الإنسانية بينهما. توجه لطفية الدليمي نقداً لاذعاً لمفهوم الذكورة في الحب الذي تراه يرتكز إلى فكرة “شهرزاد” بكل ما تعنيه من ذكاء وتلاعب وتملص وحياء وقدرة على الغواية. تعتبر الدليمي أنّ مفهوماً من هذا النوع هو الذي يقف دون أنْ يستمتع الرجل بحالة من الحب “الطبيعي” بعيداً عن الأوهام والتصورات المنزوعة من الواقع، وتفترض أنّ نمط التفكير هذا هو الذي يؤدي بالرجل إلى أنْ يفشل في علاقته مع زوجته ويتخلى عن حبيبته ويهجر صديقته لأنه يبقى أسير “شهرزاد”، وتواجهه من خلال بطلة القصة بسرّ أزمته الذكورية لتخاطبه بالقول “شخصتني مثلما أوهمك الرواة، صغت لي وجوداً من مادة أحلامهم. جعلوني مطابقة لمعارفهم عن امرأة مشتهاة…”، وتوجه نقداً حاداً لذكورية المعرفة بالقول “أشفق عليك.. لم تعلمك الكتب سوى أنْ لا تكون كما أنت”. تمتلئ هذه الكتب بالأكاذيب فهي “محض ورق مسوّد بالحبر والأخاديع”، وعندما يلحّ عليها لترفع النقاب عن وجهها ليراها تقول له ساخرة “هل يعنيك وجهي إلى هذا الحد.. هل ما زلتم تعتمدون رؤية العين وتنفون العقل والحدس وتعطلون الحياة!”.
تعبّرُ لطفية الدليمي في “رغوة الغرف الذابلة” (1994) عن خواطر امرأة تجد نفسها شبه “نصف أرملة” بعد أنْ عافها الحبيب. كان ذلك زمن وطريق “الصد ما رد” ، مثلٌ عراقي يستخدم لوصف الرحيل الذي يقرب من الموت مما اضطر إليه آلاف الشباب من الرجال آنذاك خلال فترة الحصار. تصف البطلة أيامها ولياليها بأنّها جمع خوف ووحشة وخرافة وقنوط يجعلها أشد “تعباً وأشد يأساً ووحدة ورعباً وحباً”، وتختتم بقصة “الريح”، وهي القصة الأخيرة، بامرأة تخلّى عنها رجلها فتقرر أنْ ترمي خاتمه في النهر ليجري كما يجري النهر عابراً المحطات.
هذه هي لطفية الدليمي في إحدى صفحاتها كما قرأتها، ولا بد أنّ فيها صفحات أخرى يمكن أنْ تُستكمل بقراءات متتالية.