لمحات حول منجز لطفية الدليمي في السرد والترجمة
بشغف قلّ نظيره، وحس مُرهَف، وبعزيمة لا تلين، وعشق للحياة والخصوبة، وإصرار على المغامرة والتمرد، وهوَس لا حدّ له بموسيقى الكلمات وعذوبتها، واجتراح ما هو جديد، وتخطي كلّ ما هو تقليدي، ومُحافظ، ومُتكلّس، وقَبَلي ومَذهبي وضيّق الأفق، وإيمان بقوة الأفكار الخلاقة، تمارس لطفية الدليمي، المولودة في بهرز، حيث الأزاهير والجداول والفراشات والعصافير والخضرة، حريتها في الكتابة والترجمة، وتصرّ على اكتشاف عوالم جديدة تهفو إليها، تُحبّها، تهواها، تحن إليها، تُريدها؛ تغمرها السعادة دوماً وهي تضغط بأصابعها النحيلة على لوح الأزرار كي تكتب رواية جديدة أو تُترجم كتاباً صدر حديثاً؛ هذه السعادة هي سببٌ من أسباب حيويتها، وإصرارها على مواصلة مشروعها السردي والمعرفي والتنويري.
نزعم أن لطفية الدليمي بفضل غريزتها العميقة وشجاعتها اللافتة تغلّبت على الكبت الهائل والهلع الشديد الناجم عن المحن التي تعرّضت لها وكابدتها. خلال سنوات حياتها كانت لطفية الدليمي تهرب في كلّ يوم، وكلّ لحظة، إلى عالَم التأليف والإبداع، لأنها تؤمّن إيماناً راسخاً أنّ الفن العظيم يولد من الرعب الهائل، من الوحدة القاتلة، من أنواع الكبت المختلفة، من أنواع عدّة من عدم الاستقرار، وقد عاشت هي وبنات جيلها والأجيال اللاحقة من النساء العراقيات هذه المكابدات المريرة على مدى عقود صعبة ومعقدة من تأريخ العراق المعاصر.. لم تُلجِمها الحياة الاعتيادية، الروتينية، ولا التهديدات بالخطف والتعذيب، وظلّت تهرب بشتى الطرق والوسائل، تهرب من دون الالتفات للوراء؛ ليس ثمّة جدران أو أسوار تعترض سبيلها، وليس ثمة معوقات تثنيها عن مواصلة البحث والتمحيص والتأمل، وتَحول دون تشرّبها بالعلم والمعرفة، واطّلاعها على كلّ ما هو جديد في ما ينتجه الغرب من فكر ونقد وثقافة ومعرفة بشتى صنوفها واتجاهاتها وتنوّعاتها.
تقضي لطفية الدليمي ساعات طويلة تقرأ هنا، وتقرأ هناك، وكلّ كاتب يرشدها إلى كاتب آخر، وكلّ كتاب يغريها بقراءة كتاب آخر أو عشرة كتب أخرى. هذا الاطلاع، وهذا الشغف، هو وحده الذي يُشبع فضول صاحبة “سيدات زحل”؛ حبُّ الاكتشاف هذا، و”الفضول المعرفي” هذا، هو وحده الذي يُبهج ويُسلّي سليلة شبعاد، وابنة بغداد؛ فظلت تطارد حلمها عبر سنوات الحصار والغربة والنفي، وأبت إلا إن تنقل تجربتها المريرة ومعاناتها هي ومعاناة النساء العراقيات الوحيدات، المهجورات، أمّهات الجنود الجرحى والعائدين من الحروب العبثية، والأبناء المقتولين في الحرب الطائفية، وزوجات الرجال المُتسلّطين، والشقيقات اللائي غادرن العالم في الجرائم المتعلّقة بالشرف؛ إلا أن صاحبة “عالم النساء الوحيدات” ظلّت تتشبث بحب الحياة والإيمان بجرأة المرأة العراقية وبسالتها وقدرتها على العمل والإنتاج والإبداع، وكانت تنكبُّ على الكتابة والترجمة كي تحرر روحها، كي تتخلّص من ألم الفقدان، ولوعة الغياب. عملها الأدبي، سرداً وترجمة، هو ترياقها الذي تخلّصت به من سموم التكرار والرتابة والفجاجة والاستسهال والشهرة الفارغة وغرور الصبايا، وكانت تضحّي بنفسها وبصحتها وبوقتها؛ تضحي بكلّ شيء كي تقدّم لقارئها العراقي والعربي كلّ ما يعتمل في فؤادها من مشاعر، وكلّ ما يجول في ذهنها من أفكار ورؤى وتطلّعات تنتصر للروح الإنسانية التوّاقة للخير والسعادة والأمان والاستقرار والكرامة. كانت تنهل باستمرار من أوقيانوس العلم والمعرفة، وتُطيل التفكير في ما ينتجه الكتاب والفلاسفة وعلماء الفيزياء والرياضيات والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا وسواهم، ومن ثم تنقل ما تقرأه وتهواه إلى لغة الضاد التي دَرَستها، وعلّمتها في المدارس الثانوية، قبل انتقالها إلى الصحافة الثقافية والتفرّغ للكتابة الإبداعية والترجمة.
إنّ حياة لطفية الدليمي وعملها، كلّ واحد منهما يُغذّي الآخر، كلّ واحد منهما يُنعش الآخر يُجدد الآخر، يُثري الآخر. هي تُريد دوماً أن تكون ثمةَ علاقة قوية بين حياتها وعملها. كانت تصبو دوماً إلى خلق وحدة كاملة، مطلقة، متماسكة بين الاثنين، كان هذا هو هدفها ومُرادها، ولا غرابةَ أن نجد بطلات رواياتها ورواياتها القصيرة وقصصها يشتركن بقواسم مشتركة معها، نجد ملامح من حياة لطفية الدليمي ورؤاها وطموحاتها لدى بطلاتها. دأبت أن تختارهن من بيئتها، من مجتمعها، من بلادها التي مزقتها الحروب وأفسدها الطغاة وشوّهتها الأحزاب الطائفية والميليشيات التي تستقوي على الحكومة وتهدد هيبتها وكيانها.
في سنوات شبابها كانت تحضر دروس الموسيقى والرسم على يد بياتريس أوهانيسيان ونزيهة سليم، لتنقل ذلك الولع كلّه إلى الصفحات البيض لاحقاً . كانت تتخيّل بطلاتها كما لو أنهن موديلات يقفن أمام رسامة بارعة، كانت تستنطقهن، تستجوبهن، تحاورهن، تضحك معهن؛ يطيب لها على الدوام أن تُخرج أعمق مشاعرهن، أنبل أحاسيسهن، نزواتهن، طيشهن، حكمتهن، رجاحة أفكارهن، تبّصرهن، آلامهن العميقة، يأسهن، فرحهن، كَربهن، محنهن، قوّة أرواحهن، عزيمتهن وإصرارهن، ولعهن بالزهور والعطور والفساتين الهفهافة التي يستقبلن بها حبيب العمر، والزوج العائد من السفر. كانت تستشعر هذا كلّه حين تكتب، أو لنقل ترسم بالكلمات ما خَبرنه من تجارب قاسية ومُوجعة مع الزوج والأخ الأكبر ورئيس العمل، تجارب مريرة مع المجتمع القَبَلي الذي صار يؤمن بالقيم التقليدية ويمارس العنف المنزلي ويُحرِّم السينما واللوحة التشكيلية والمسرحية، وينعت الشابة التي تلبس التنورة القصيرة بأبشع النعوت، ويُطارد الفتاة التي تتباهى بجمالها وأناقتها وأنوثتها ويُصفّر لها باستفزاز ووقاحة وقلّة تهذيب وعنجهية، ويتطلّع إليها باشتهاء وطمع حيوانيين، ويقسو على الموظفة الذكية، اليقظة التي تجادل رئيسها في العمل وتصحح أخطاءه الإدارية أو الفنية، وكانت الكاتبة العراقية في كلّ كتاباتها السردية ومقالاتها في الصحف ودراساتها تنتصر للفتيات القاصرات اللاتي تم تزويجهن لرجال مُسنين في عمر آبائهن وأحياناً أجدادهن وتدافع عن البنات اللواتي مُنعن من الانتظام في المدارس والجامعات، فتيات كثيرات يعملن من الفجر حتى الغسق كالحيوانات ويُضرَبن بنحو وحشي بشكل يومي وغالباً ما يُعذَبن وحتى يُذبَحن في حوادث قتل الشرف.
كانت لطفية الدليمي ولا تزال مدافعة جريئة عن حقوق المرأة العراقية والعربية، وكانت تسرد الحقيقة دوماً “إن سرد الحقيقة يتطلّب جهداً أما الكذب فهو أسهل بكثير”، كما تقول فيليس تشيسلر. كانت لطفية الدليمي دوماً تطرح الأسئلة الجريئة والقضايا المثيرة للجدل.
ما إن نفتح رواية من رواياتها حتى نشعر أن الكاتبة تأبى إلا أن تسطر لنا رواية ديستوبية؛ فتأخذنا إلى بلدٍ يسود فيه الفقر والظلم والجوع والفاحشة، عالم سوداوي كئيب أشبه بذلك الذي صورته مارغريت أتوود في روايتها “حكاية الخادمة” أو الذي صوّره جورج أورويل في روايته الشهيرة “1984”؛ غير أن شخصياتها النسائية على الرغم من كلّ ما خبرنه من ويلات ومحن ومضايقات مُفعماتٌ بالأمل والنشاط، شابات حالمات، يتملّكهن إصرار لا سبيل إلى مقاومته. إنهن ينشدن المضي إلى عالمهن الأثير المدهش، العالم المُتخيّل لكن الواقعي أيضاً؛ إلى “شانغري لا”، المكان المُتخيّل المُرادف لجنة أرضية، وصفه الكاتب البريطاني جيمس هيلتون في روايته “الأفق المفتوح”، حيث البشر خالدون ولا تظهر عليهم ملامح الشيخوخة إلا بشكل بطيء جداً؛ تأخذنا الدليمي إلى المدينة التي لا يهرم فيها الإنسان، ولا تذبل فيها النباتات والزهور، ولا يتوقف فيها هدير المياه.. هذه العوالم كلّها تستدعيها لطفية الدليمي عبر الكتابة، عبر التأمل، عبر المشاعر. كانت تحتاج إلى تلك المشاعر والأفكار والأحلام كي تسرد القصة وتُحيك خيوطها، وكان لا بد لنا أن نرهف السمع لهذا الصوت الأخاذ، العذب كغناء عندليب، المنداح مثل موسيقى صوفية. ما يُعجبنا فيه هو أصالته، رقته، عمقه، وواقعيته.
تقمصت صاحبة “عشاق وفونوغراف وأزمنة” أرواح شخصياتها الروائية وكانت مشاعر بطلاتها حاضرة دوماً في أعمالها السردية، وأصبح الكشف عن تلك المشاعر أشبه بحرفة لدى الكاتبة. ها هنّ بطلاتها يتحدّين الثوابت الاجتماعية والتابوات في مجتمع محافظ، ذكوري، تقليدي، غالبيته من المسلمين والمسلمات، وقفن بوجه المُهيمنات الأبوية (البطرياركية)، حالها حال كاتبات عربيات مرموقات من مثل حنان الشيخ، هدى شعراوي، فاطمة المرنيسي وسواهن.
كتبت لطفية الدليمي عن المدن التي سافرت إليها، وعاشت فيها ردحاً من الزمن، منفيّة قسراً، هاربة على مضض من العصابات الآثمة وتهديدات بالخطف والقتل والتصفية الجسدية لا لشيء سوى دفاعها عن الحرية والمساواة والعدالة، ودعمها للتغيير، وإنصاف المظلومين ومنهم النساء اللائي يكدن يفقدن صوابهن في صفقات السياسة والمال القذرة، ومطابخ الأزواج النهمين، وشُوّهت صورهن ومُسخت إنسانيتهن وصُودرت كرامتهن وانتهكت حقوقهن الإنسانية وحريتهن في دور البغاء وأجنحة الحريم، وانتقادها لوسائل الإعلام والدعاية التي حولتهن إلى بضائع تجارية، ومانيكانات مجرّدة من كيانها الإنساني، أو دُمى جنسية لإشباع شهوات الرجال الداعرين ونزقهم اللافت الذي لا حدّ له. كما خبرت معاناة النساء اللائي اصطففن في طوابير اللجوء الإنساني في المدن الغربية وهنّ يحاولن أن يبدأن حياتهن من جديد، أو يغيّرن حياتهن، ساعياتٍ وراء أحلامهن وطموحاتهن التي أجهضها الساسة والإسلاميون المتعصبون والمتاجرون بالدين والسماسرة، وراحوا يتعاملون معهن كالخادمات، كالمحظيات، كنساء الحريم، كالعبدات. نساء عرّضن أنفسهن للخطر لأنهن تحدين المجتمع وقيوده المُجحِفة، ساعيات وراء أحلامهن في أن يكنّ طبيبات ناجحات، وصحافيات بارعات، وكاتبات جريئات، وموظفات مخلصات لعملهن، يبذلن أقصى ما يستطعن من أجل إيقاف العنف الإسلامي المتطرف، والحد من المعاملة القاسية للنساء في المنزل والشارع وموقع العمل والمجتمع عموماً، ومنع البذاءة والسب والقذف، والثأر لكرامتهن المهدورة، وحقوقهن الإنسانية المشروعة، في ظل ظروف ملتبسة وغاية في التعقيد .
في أحد الحوارات معها، تقول لطفية الدليمي “إن كتابة الرواية تفتح لي مساراً مضيئاً في الزمن وتشحنني بقوى خفية وتضاعف تذوّقي للحياة وتعزّز روحي وأحلامي فكأنني أخوض تجارب أبطالي وأشاركهم جني نتائجها وخبراتها”.
عبر كتاباتها السردية، روايات وكتب رحلات وسيرة ذاتية، كانت لطفية الدليمي تحسّ أنها تكتشف نفسها عبر الكتابة، عبر التأمل؛ تسترجع ذكرياتها المريرة في بغداد إبّان سنوات الحرب والحصار والاحتلال والعنف الطائفي، وكانت تشعر أنها بحاجة إلى مساءلة التاريخ بحد ذاته، لأننا نعرف أنّه عبر الكتابة يحصل المرء على الفكرة الحقيقية للأشياء، وفي النهاية سوف يعرف القراء أنّ بوسعهم أن يحصلوا على الحقيقة من الكُتاب والكاتبات أكثر مما يحصلون عليها، لنقُلْ، من الصحف أو المحطات الفضائية أو السياسيين.
برهنت لنا لطفية الدليمي عبر ترجماتها الثرّة، سواء أكانت في الرواية أو الدراسات أو الحوارات مع الكتاب والمؤلفين أو الكتب النقدية والفلسفة، أن بمستطاعنا أن نُقيم جسوراً مع الآخرين، جسوراً تمتد بين القارات، بين الثقافات، بين اللغات، بين الديانات والعقائد، بين الأعراق والقوميات، جسوراً بين أفئدة البشر على اختلاف بشرتهم، بيضاء، سوداء، سمراء، برونزية، صفراء. بوسعنا أن نعيش سويّة، أن نعيش بوئام ومحبة وسلام، على الرغم من اختلافاتنا، وتنوعنا، لا بل أن هذا التنوع هو مصدر قوة لنا كبشر؛ فكلّ شعب يُثري الشعب الآخر، ويساعد في نهوضه الفكري والمعرفي، وازدهاره في الصناعة والزراعة والاقتصاد والتكنولوجيا وسواها من مجالات الحياة، وأن “بمستطاع المرء أن يستمتع بحليب النوق والديمقراطية معاً، أن يطارد الظِباء الصغيرة عبر البادية وأن يتوقف أيضاً عند علامات المرور الحُمر”، كما يقول الصومالي عبدي نور إفتين. نعم، بوسعنا أن نحترم اختلافاتنا، وتنوّع حيواتنا، وطرائق تفكيرنا، أو كما يقول المثل الشهير “عشْ ودع غيرك يعيش”. أجل، بوسعنا أن نعيش حياة غنية، مُثيرة، ولا يتعين علينا أن نستسلم لمآسي الحروب الداخلية والخارجية، ولا بد لنا من أن نغيّر طرائق كفاحنا، وألاّ نلجأ دوماً إلى معارك السلاح، فلا بدّ من الكفاح على المستوى السياسي والفكري والثقافي والاقتصادي . كانت لطفية الدليمي تؤمن إيماناً راسخاً بقول غوته “عندما تذبل الآداب القومية فإنها تنتعش وترى الحياة من جديد عن طريق الآخر”، أو قول سوزان سونتاج إن “الترجمة هي جهاز الدّوران الذي يضخّ العلوم والمعارف والآداب إلى شتى اللغات، ومختلف البلدان والقوميات”.
في كتابها “مملكة الروائيين العظام”، تكشف لنا الكاتبة أن كازنتزاكيس وهيسه وماركيز، هُم من كتّابها المفضّلين، وراحت تحاورهم وتناجيهم؛ الأمر الذي يكشف وحدة الفكر، وتناغم الميول والاهتمامات والتطلّعات، وكان هؤلاء يُثيرون خيالها، ويستفزّون غريزتها الكتابية، فتهرع إلى جهاز الحاسوب كي تسكب مشاعرها، وتصب أفكارها، وتموسق كلماتها كي تُثري معارفنا، وتُعمّق أفكارنا ووجهات نظرنا، كي ترشدنا إلى نبع المحبة، ونهر الحياة المتدّفق، كي تأخذنا إلى مملكة الحكماء والنبلاء الذين تخلّوا عن شهواتهم الدنيئة وحقدهم الدفين وضيق أفقهم المقيت، وكانت تسعى عبر ترجماتها إلى “إشاعة المعرفة الجميلة.. إلى مشاركة الآخرين الجمال والمعرفة وعشق العقل البشري الخلاق والروح المتطلّعة للحافات الطليعية في الفهم البشري للإنسان والكون”، كما قالت في حوار أجراه علاء المفرجي، نُشر في جريدة المدى، يوم الثلاثاء، الرابع من شباط/فبراير 2020.
لا يقدر المرء أن يفسّر توق الدليمي للمغامرة؛ أنا، من ناحيتي، أفهم أن بعض الناس، كالطيور والأسماك، لديهم حافز داخلي قويّ إلى السفر والاستكشاف أكثر من الآخرين. أنا أتخيّلها الآن، أنثى طائر، أفلتت من قفصها، هربت من سجّانها، سواء أكان هذا السجان نظاماً سياسياً مستبداً، أو سلطة دينية قامعة، أو مجتمعاً محافظاً، تقليدياً، وحلّقت – ولا تزال تحلّق – بعيداً عن قفصها، وسجانها، إلا إنها ظلت تنشد أغنية النفي، والرحيل، والفقدان، لأن هذا الغناء وحده هو الذي يحرّرها من اللوعة والعذاب ومن العيش لاجئة أو منفية في بلد عربي أو غربي، ومن فساد الشرطة وآلام الابتعاد عن مرابع الصبا، وبساتين بهرز، وشوارع “الكرادة” التي تظلّلها الأشجار. نحن نعرف أن هنالك منفيين في بلدانهم الأصلية، وليس بوسعهم أن يتعلّموا لغتهم، ومعرفة تأريخهم وجغرافيتهم وتراثهم الثرّ، وهنالك مُدن دُمرت ولا تزال تُدمر وتُطمس وتُمسخ، وأُسر بكاملها تُذبح، ونساء شابات يتعرضن للاغتصاب الجماعي في الحروب وسواها مثلما حصل للإيزيديات خلال احتلال داعش للعراق، وثمّة فتيات صغيرات ونساء ناضجات يُعرَضن للبيع في سوق النخاسة، ويُرغمن على العمل بأجور بخسة في المزارع والمصانع، في ظل ظروف قاسية، غير إنسانية، وصحفيات وإعلاميات، وناشطات نسويات، وصانعات أفلام وممثلات سينمائيات، وكاتبات يتعرّضن للتحرّش الجنسي والقتل والتهديد في مدن عراقية، ولا زلنا نستذكر بحرقة وألم الشاعرة والإعلامية العراقية أطوار بهجت التي قُتلت أثناء الحرب الطائفية، وكذلك في مدن عربية وأجنبية ومنها أفغانستان وباكستان وإيران، في سبيل المثال لا الحصر، من مثل سابين محمود الناشطة الباكستانية التي قتلوها في كراتشي بعد أن رعت مناظرة سياسية عن بلوشستان في مقهاها الخاص الذي تُقيم فيه الندوات المتعلقة بحقوق الإنسان، وبيبي عايشة الأفغانية ذات الثمانية عشر عاماً التي بتروا أذنيها وجدعوا أنفها؛ لكن فيما بعد احتلت صورتها غلاف مجلة “تايم”، وأصبحت قضيتها ذائعة الصيت، وسرعان ما عولجت جراحياً ونفسياً، ولا نزال نسمع عن نساء يشعلن النار في أنفسهن تعبيراً عن احتجاجهن ويأسهن في مجتمعات تمارس التمييز بين الجنسين، وتُمنع فيها النساء من مغادرة منازلهن، ويُرجمن بالحجارة حتى الموت إذا ما عصين أزواجهن أو أشقاءهن، أو رفضن الزواج من شيوخ عاجزين نفسياً وجسدياً وجنسياً، أو إذا ما ذهبن متخفيات إلى ملاعب الرجال الرياضية.
إن كلّ ما تبتغيه الدليمي هو أن تعيد اكتشاف ذاتها: إنها تُريد أن تكون إنسانة مختلفة. بوسعنا دوماً أن نكون أناساً مختلفين، وأن نحوّل ذاتنا من حال إلى حال، أن نعيش بصورة أفضل ممّا نحن عليه الآن. كانت الروايات التي تكتبها لطفية الدليمي بمنزلة تعبير عن إحساسها بالتضامن مع النسوة المُعذّبات، المحرومات من الحب والحنان. الروايات تعمّق إحساسنا بالألم، وتنمّي فينا الشعور بالرأفة. إنها باختصار “تكافح الجفاف العاطفي الذي تعاني منه أعداد غفيرة من البشر” بحسب تعبير سوزان سونتاج. فضلاً عن ذلك تضخّ الكاتبة في ثنايا عملها الروائي معلومات وافية وغزيرة في التاريخ، والجغرافيا، والسوسيولوجيا والفيزياء والاقتصاد والسياسة والأساطير والخرافات والملاحم والأمثال والأغاني والأشعار وسواها؛ وهذا ما فعلته لطفية الدليمي في روايتها الضخمة الموسومة “عشاق وفونوغراف وأزمنة” الصادرة عام 2016، وفعله الباكستاني ضياء حيدر رحمن في روايته الفذة التي يبلغ عدد صفحاتها بالإنجليزية نحو خمس مئة صفحة “في ضوء ما نعرفه” (In the light of what we know)، الصادرة عام 2014، حيث أننا نشعر أن الفكر الإنساني لا حدود له؛ فالشعر يمتزج بالسياسة، والفلسفة بالرياضيات، والاقتصاد بالحب الجارف، والأساطير بفن النجارة والديكور الداخلي، والخيال بالواقع، والجغرافيا بالأنثروبولوجيا. والاثنان الدليمي ورحمن يضعان اقتباسات لكتاب وشعراء وباحثين وعلماء في مطلع كلّ فصل من فصول روايتيهما الآسرتين.
لدى قراءتنا رواية الدليمي المذكورة آنفاً نجد اقتباسات من النفّري وابن عربي وقسطنطين كفافي وجلال الدين الرومي وإخوان الصفا ونيكوس كازنتزاكيس وجوزيه ساراماغو وحافظ الشيرازي وبرتراند رسل وأرنستو ساباتو وابن عطاء الصوفي وهيراقليطس وأمين معلوف وبابلو بيكاسو وسواهم.
تقول السيدة لطفية الدليمي، في مقالة لها بمجلة الفيصل، عدد تشرين الثاني/نوفمبر 2017 “وبعد عقود من ممارسة الكتابة السردية في القصة والرواية هناك شحنة حيوية متدفقة في لغتي انبثقت من منطقة وعيي بذاتي الإنسانية ورؤيتي للعالم من وجهة نظر (ذات محمولات معرفية وفكرية) وليست نسائية مجردة، وأجدني أقف في منطقة لا تفترض تناقضاً عدوانيّاً مع الرجال كما تفعل النسويات المُتطرّفات. واجهت المشهد الثقافي بخبرة نضال اجتماعي مبكر، ثم بشغف الأداء الإبداعي والمثابرة والبحث المعرفي”.
في روايتها “عشاق وفونوغراف وأزمنة” تتدفق كلمات الدليمي كالجدول الرقراق ونكاد نغفو على صوت الأمواج التي تدغدغ آذاننا؛ ففي الصفحة 295 تحدث نهى جابر الكتبخاني نفسها قائلة “أنصتي إلى موسيقى الليل الخفية التي تنبعث من أعماق الزمن البعيدة، موسيقى لم يؤلّفها أحد إنما هي من همهمات النساء وأشواقهن الدهرية.. أنصتي جيداً إلى أصوات السكون؛ ثمة أنين يتضافر مع الآهات وشهقات النشيج والنشوات وترنيمات الشوق واللهفة، أنصتي لموسيقى الليل التي تنهمر عليك يعزفها الشوق المكبوح والأرواح المكسورة والقلوب المحطمة”. وفي الصفحة التي سبقتها تُشير إلى الحرب ومآسيها قائلة “الحرب التي لا تشبع من لحم البشر”. وفي الصفحتين 100 و101 تكتب عن الأحلام المُجهَضة والرغبات التي قُتلت في أفئدة النساء العراقيات؛ فها هي نهى تقول “يبدو أن هذه هي حياتنا في هذا البلد… هكذا تجيء وهكذا تمضي مُضادة لأحلامنا وتوقعاتنا الساذجة؛ ولكن كيف نتقبل قتل أحلامنا ورغباتنا؟”.
هؤلاء النسوة المكافحات، على الرغم من كلّ شيء، لا يدعن ظلام الزمن يبتلعهن، إنهن يحاولن في كلّ مرة أن يبدأن من جديد، مُتسلحات بالصبر والحكمة والإصرار البطولي؛ عاشقات للحياة، مُحبّات للجمال والخصوبة، توّاقات للحمل والولادة، كارهات للعنف؛ إنهن يتعطشن للهدوء والتحضر والاستقرار .. يبتسمن بوجه المحنة، ويضحكن بوجه التهجير والخطف والتهديد بالقتل، مستشعرات الخطر؛ إلا إنهن يقفن بوجه النوائب والمحن، يسخرن من اليأس والظلم والموت، متشبثات بالأمل تشبث الطفل بثدي أمه .
ليس من المصادفة أن تختار الكاتبة العراقية لطفية الدليمي اسم “حياة” لثلاث بطلات لها، في رواية “حديقة حياة ” و”سيدات زحل” و”عشاق وفونوغراف وأزمنة”. هذا الأمر يحمل أكثر من دلالة، ولعل الدلالة الأكثر وضوحاً هو اعتزاز الكتابة بالهدية التي وهبنا إياها الباري، والمسؤولية الأخلاقية التي وُضعت أمامنا؛ ماذا تُرانا فاعلين بالحياة التي أعطانا إياها الخالق عبر الوالدين، ماذا سنقدّم لبلادنا، للعالم الرحب، لشعبنا، للبشرية جمعاء. إن حب الحياة هذا لا نجده إلا لدى النفوس الكبيرة التي تأبى الانكسار، والأرواح التي ترفض أن تتشظى، والإرادات التي تقاوم الرضوخ والعبودية، ولا عَجب بعد هذا أن تُسمي فريدا كاهلو، الفنانة المكسيكية الشهيرة التي عاشت حياة حافلة بالألم واللوعة والحرمان، آخر لوحاتها الفنية “تعيش الحياة” (Viva la vida)، كي تُشعرنا أنها لا تزال ترغب بالعيش سنوات أخرى، مع زوجها، مع أصدقائها وصديقاتها مع طلابها الصغار الذين كانت تُعلّمهم الرسم منبطحة جنباً إلى جنب معهم على الأرض، مع فنها الذي جسّدت من خلاله تجاربها ومعاناتها من العزلة وخيانة الزوج والإجهاض وسواها من المحن.
لطفية الدليمي كاتبة عراقية وعربية تنتمي إلى الشرق والغرب، متعددة الثقافات، تستوعب مستجدات العالم المعاصر، وتنقل ما تقرأه بالإنجليزية وتهضمه إلى القراء العراقيين والعرب بلغة جميلة، وبأسلوب سلس. إنها تنتمي للعالم بأسره، إنها مواطنة كونية بامتياز، وهذا هو حقها واستحقاقها، وهذه مكانتها التي تتبوؤها بفضل دأبها ونشاطها، وقد أحست دوماً أن عملها المثمر هذا يستحق العناء بكل معنى الكلمة.