الرواية بين الخيال المسلوب والمرآة المكسورة
في مشهد الصف الشهير في رواية “أوقات عصيبة” لتشارلز ديكنز، يوجه السيد توماس جراد جرايند (رجل الوقائع رجل الحقائق والحسابات كما يعرف نفسه دائمًا) مُدرِّس الفصل إلى تعليم الطلاب "والطالبات" الحقائق، وفي نبرة حازمة وحاسمة يقول “ما أريده هو الحقائق، لا تُلقِّن هؤلاء الأولاد والبنات غير الحقائق، ولا نحتاج، في الحياة إلى أي شيء سوى الحقائق.. التزم الحقائق يا سيدي!”.
وبانتشاء مصطنع يتوجّه إلى طلبة الصّف كي يختبر نتائج وصاياه، فيسأل – تحديدًا – الفتاة (رقم 20)، التي تُعرف باسم سيسي جوب “بما تُعرِّفين الحصان؟” لنا أن نعرف أن سيسي جوب هي ابنة مدرب خيول السيرك، أي أنها أكثر دراية وخبرة بالحصان، إلا أنها تعجز عن تعريف الحصان في ضوء المعايير التي يتطلبها رجل الحقائق، ثم يتوجه السيد جراد جرايند إلى الطالب بيتزر ويقول له في ثقة “عَرِّفه لنا؟” فينطلق بيتزر هكذا “حيوان من ذوات الأربع، له أربعون سنا، يفقد جلده في الربيع، ويحتاج إلى حدوة من الحديد في البلاد الرطبة، نعرف عمره بعلامات في الفم” ويعقب رجل الحقائق بفخر “هكذا وأكثر من هذا يا بيتزر”.
يستمر السيد جراد جرايند في توجيه أسئلته لطلبة الصف؛ كنوع من اختبار فلسفته، ومدى جدية المعلمين في تعليمها للطلاب، فيقول “والآن افرضوا أنكم ذهبتم لشراء طنفسة لحجرة، فهل تشترون طنفسة مزخرفة بأزهار؟” وينقسم الأطفال بين أكثرية تقول (نعم)، وأقلية ومن ضمنهم سيسي جوب، تقول (لا). وهو ما يكون فرصة سانحة لاصطيادها من جديد، ويستمر في سؤالها – وهو ما يدعونا إلى التخمين بأن سؤاله الأول للفتاة رقم 20، لم يكن عشوائيًّا – عن لماذا قالت نعم؟ وعندما يأتي استخدامها للفعل (أتصور) يشتدُّ غضب السّيد جراد جرايند، ويصيح في غضب “يجب ألّا تتصوّري.. ينبغي ألّا تتصوري” . ويستمر “يجب أن تسيري على نظام الحقيقة، وتحكمك الحقيقة. ينبغي أن تنسي كلمة تصور تمام النسيان. الواقع أنك لا تسيرين فوق أزهار. ولذا لا يسمج لك بالسير فوق أزهار في الطنافس”.
الفرق بين تعريف بيتزر للحصان [المبني على وقائع ملموسة وموجودة في كتب العلوم]، ورؤية سيسي جوب [القائمة على الخيال]، هو الفارق بين الروائي صاحب نعمة الخيال وهو يكتب الرواية، ونقيضه المسلوب نعمة الخيال، فيقدم لنا الأخير ما نراه من حقائق واقعية (مع قناعتنا بأهميتها إلا أننا لا حاجة لها في عالم الرواية) دون أن يضفي عليها أيّ لمسة خيال. السيد توماس جراد جرايند كان يذهب إلى قتل الخيال بمبادئه التي تدعو إلى الأخذ [أو التمسُّك] بالحقائق، إلا أنّه كان في كل مرة يكتشف أن نعمة الخيال أكبر من أن تُصادر بقرار فوقي، أو بالتلويح بقائمة المحظورات.
لتقريب الرؤية أكثر أضرب مثالا آخر بعبارة أمبرتو إيكو “أن نقول الشيء نفسه” وقد جعلها عنوانًا لكتاب بذات الاسم، وهو يقصد بها الترجمة، وما تحدثه من أثرٍ في القارئ، حيث يجب أن يكون الأثر المترجَم “تأثيره نفس تأثير النص الأصلي”. هذا القول إذا انطبق على الترجمة، فإنه يدل على براعة المترجم وقدرته على إحداث تطابق في التأثير من خلال فَهم النظام الداخلي للغة وبنية النص الذي جاء في تلك اللغة، على الرغم من أن كل نظام لغوي يُجزئ المضمون بصفة مختلفة، تؤدِّي إلى استحالة تطابق اللغات فيما بينها تطابقًا كاملاً كما يقول إيكو نفسه.
التماثّل في الترجمة مرغوب لكن أنْ تكرِّرَ الرواية الواقع بعينه دون أن تضفي عليه الصفة التخيليّة التي هي مَيزة الفن والرواية بصفة خاصّة، فهذا يعود بنا إلى نظرية الانعكاس الآلية عند أفلاطون، وإن كانت النظرية الماركسيّة جاءت وتجاوزت هذا، بإعادة إنتاج الواقع، بالتغيير والخلق الجديد، وَفْقًا لشرائط الفن الذي هو “خلق وابداع وليس محاكاة للطبيعة” على حدّ تعبير إرنست فيشر. بل إن بيير ما شيري يذهب إلى أبعد بقوله إن “أثر الفن يكمن أساسًا في تشويه الواقع لا في محاكاته” أي مرآة مكسورة، تكون معبرة فيما لا تعكسه، بقدر ما هي معبرة فيما تعكسه”.
إشكالية كتابة الواقع
فكرة تمثيل الواقع بصورة مباشرة، بما يتضمنه من أحداث حقيقيّة يعرِفُها القارئ، وإعادة سردها في قالب حكائي أيًّا كان نوعه، في حدّ ذاتها فكرة محفوفة بالحذر الشديد، لأسباب عديدة من أهمها، خشية التطابق وإبعاد العمل عن الفن. وقد تعامل معها من قبل روائيون كبار، على نحو نجيب محفوظ الذي استلهم في بعض رواياته حكايات لها واقعية مرجعية كما في “القاهرة الجديدة” (1945) [حكاية أحد المديرين من الباشوات، وهو ما عرّضه لمساءلة قانونية كان القاضي فيها أحمد حسين (وهو أخو طه حسين) الذي توجّه له بنصيحة قال فيها «لماذا تكتب عن فضائح الباشاوات وتُعرّض نفسك للمشكلات، اكتب عن الحب أفضل وأكثر أمنًا»]، وكذلك “اللص والكلاب” (1961) [حيث حكاية السّفاح الشهير محمود أمين سليمان والتي انتهت بمقتله في صحراء حلوان عام 1960، وكان نشر خبر مقتله سببًا في تأميم الصحافة]، وأيضًا “الكرنك” (1974) [وتضمنت حكايات عن الاعتقالات والتعذيب اللذين مارسهما صلاح نصر، بل روى القاص سعيد الكفراوي أنه أحد أبطال الرواية] إلخ…. فمحفوظ لم يكتب الواقع، كما أن الرواية الواقعية ليست واقعية خالصة، إذ نجد فيها أشياء غير محتملة الحدوث. [روبرت إيغلستون “الرواية المعاصرة، مقدمة نقدية قصيرة جدّا”، ص 33].
لكن محفوظ لم يقع في فخ آلية نقل الواقع القارّ، بل ألبسه ثوب الفن، فهو يُدرك مهمته الحقيقية، التي تتوازى مع دور الفنان، في أن يعيد تشكيل الواقع، لكى يصنع واقعًا موازيًا، له قانونه الخاص. أي أن (محفوظ) اعتنى بالخلق والتكوين على التصوير والتعبير، وهو ما عبّر عنه قائلاً “ولمّا كتبتُ عنه [أي السفاح] فعلاً لم أكتبْ قصة محمود أمين سليمان، ولكن قصة فلسفية وجودية عبرت عن أشياء في داخلي كانت تصرخ طلبًا للتعبير عنها” (راجع غالي شكري: من الجمالية إلى نوبل”).
وقد تطوّر الأمر بصورة لافتة فيما بعد خاصة على يد جيل الستينيات، فراحوا يتساءلون عن: ما هو الواقع؟ وكيف يمكن تسجيله؟ فجاء تعاملهم مع الواقع لا باعتباره حقيقة مفروغًا منها، بل باعتباره إشكالية دائمة، وهو ما نتج عنه مواضعات جديدة لفن القصة، والكتابة، استطاعوا من خلالها التعبير عن واقعهم بكل خصوصيته، دون أن تقع أعمالهم في دائرة نقل الواقع أو استنساخه؛ لأنهم وعوا جيدًا لمفارقة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. فالكتابة كما خبروها لا تعني الإبلاغ فحسب، بل تعني أيضًا “اكتشاف الأشياء وعلاقاتها” كما يقول محمد بدوي [الرواية الحديثة في مصر، ص 269].
هل بعد هذه التحولات التي حلّت بمفهوم الواقع، وإعادة تمثيله، أو صوغه روائيًّا إن شئنا الدقة، نعود إلى الخلف من جديد، حيث نظرية المرآة التي قال بها ستاندال في “الأحمر والأسود” بأن “الرواية مرآة محمولة في طريق محتشد بالمارّة. في لحظة ما تعكس المرآة السموات الزرقاء، وفي لحظة أخرى تعكس الطين والأوحال اللزجة التي تَعْلق بقدميك”. من هذه الأعمال التي جاءت كارتداد لهذه التحولات التي شهدها مفهوم الواقع وإعادة تمثيله، رواية علاء الأسواني الأخيرة “جمهورية كأنّ” الصادرة عن دار الآداب – بيروت 2018.
الرواية التي جاءت في 521 صفحة من القطع المتوسط، منجمة في 73 وحدة، تتفاوت بين الطول والقصر، تعكس مأزق الطين والأوحال، الذي سعينا جميعًا لتفاديه أثناء العبور في الطريق، ومع ذلك يصرّ على أن يذكرنا بأنهما (أي الطين والأوحال) عالقان في أحذيتنا وذيل ألبستنا. نفس الشيء ينطبق على رواية عزالدين شكري فشير “كل هذا الهراء” (دار الكرمة 2017) الغريب أنها تتناول ذات الفترة التي تناولتها رواية الأسواني. بل ثمة تطابقات بينهما في الاعتداءات التي حدثت للثوريين، على نحو شهادة هند وما تعرضت له من اغتصاب، وهي أيضًا مأخوذة من موقع صحفي (موقع مدى مصر، بتاريخ، 9 يوليو 2014). [راجع، كل هذا الهراء: ص 145].
رواية الأسواني نموذج صارخ للروايات التي تتمثّل الواقع وكذلك شخصياته، وإن كان بتحوير قليل لا ينفي المطابقة، وكأن المؤلف لم يعِ أن الواقع ذاته تكسّر وتشرذم، كما يقول عباس عبد جاسم “فصار التشظي والانقسام من أهم سماته القارّة، فاختلط الثقافي بالاجتماعي، والثابت بالمتحوِّل، حتى انهارت الحدود التي كانت قائمة بين الرواية والأجناس الأدبية الأخرى” [إعادة تعريف الكتابة الروائيّة، القدس العربيّ، بتاريخ 7 أبريل2020]. وفي ظل هذه التبدلات والتغيرات صارت كتابة الواقع في حدّ ذاتها تثير في واقع الكتابة “الشك والتساؤل والاستفهام من حركة العالم ومصير البشرية، ولذا لم يعد ممكناً تقديم هذا الواقع بوصفه واقعية قارة. ورغم تغيّر مفهوم الواقع وتبدّل أنماط الحياة، وتغيّر مفهوم السرد وتبدّل أنماط الكتابة، فإن الواقعية لم تتغيّر بما يوازي حركية هذا التغيير، فتراجعت حتى تحوّلت إلى «واقعية رثة». [عباس عبدجاسم: إعادة تعريف الكتابة الروائيّة].
الغريب أن الأسواني في معظم إنتاجه – الروائي تحديدًا – نراه لا ينشغل بمسألة الخلق والتكوين، بقدر انشغاله بالتقاط المشاهد والتفاصيل، التي تؤكد [أو تنتصر] لأيديولوجيته المتعارضة دومًا مع النظام الحاكم، دون اعتناء بإعادة خلقها من جديد، تبعًا لقوانين خاصة تفرضها طبيعة الفن، وكأنه ينافس الكاميرا فيما ينقل من تفاصيل وجزيئات. غير عابئ بما يقوله شكولوفسكي من ضرورة “إخراج الشيء الواقعي من متوالية الواقع إلى متوالية أدبيّة”، ومن ثمّ يكتسب الشيء معناه من وضعه في المتوالية الجديدة. وبذلك تتحدّد وظيفة الفنان من كونه ليس مجرد ناقل لشيء مُلقى في الطرقات، وإنما “يعيد خلق العالم”. وهو ما يؤكّد مقولة هيدجر بأن “العمل الفني مصنوع” أي أنه يتجاوز واقعيته باللغة والمجاز.
الاستبداد والفساد والقهر بكافة أنواعه، وأشدّها قهر السُّلطة بمختلف أجهزتها الأيديولوجية، هو التيمة الرئيسيّة للرواية، وهذه التيمة ليست جديدة بل متكرّرة في معظم أعماله، بداية من روايته القصيرة “أوراق عصام عبدالعاطي” ثم ظهرت بصورة أوضح في عمله الشهير “عمارة يعقوبيان” (2002، مكتبة مدبولي) وهي الرواية التي قدمته للغرب باعتباره روائيًّا، ومعارضًا سياسيًّا للنظام في الوقت نفسه، فتُرجمت إلى العديد من اللغات المختلفة، كما حصل على العديد من الجوائز العالمية، بالإضافة إلى تحويلها إلى فيلم سينمائي عام 2006 من إخراج مروان حامد، وبطولة النجم عادل إمام ونور الشريف وخالد الصاوي ويسرا وهند صبري، وسمية الخشاب وآخرين، كما أغرت المنتجين بتقديمها دراميا أيضًا، فقدمها في 2007، السيناريست عاطف بشاي في مسلسل درامي، بإخراج أحمد صقر، ولعبت البطولة فيه لبنى عبدالعزيز، مع صلاح السعدني وعزت أبوعوف وروجينا وآخرين.
اُستقبلت الرواية بشيء من المديح عَقب نشرها مسلسلة في جريدة أخبار الأدب، قبل صدورها في كتاب عن مكتبة مدبولي عام 2002. فأشاد بها الروائي جمال الغيطاني فقال إنها “رواية خطيرة تتشابه مع الواقع، وأنا معجب بها”، كما أشاد “بالجرأة والشجاعة الإبداعيّة التي أثبتت أن المبدعين الحقيقيين لا يهابون ولا يخضعون لسلطة تأتي من خارج الأدب”. وأيضًا أشاد بها الناقد الرّاحل فاروق عبدالقادر، فاستهلّ بها دراسته عن “الرواية المصرية الجديدة” التي بدأ بنشرها في مجلة “الكُتُب وجهات نظر” (العدد 42، يوليو 2002)، مدشِّنًا بها للكتابة الجديدة التي راحت تسترعي انتباهه، وقد انتخب منها “المهمّ واللافت” مستبعدًا منها الكثير، لأنه “دون المناقشة الجادّة” ومن هذه النماذج المختارة كانت “عمارة يعقوبيان” لعلاء الأسواني ثم أعمال خالد إسماعيل، ومنتصر القفاش وميرال الطحاوي ونجوى شعبان وأسماء هاشم، وغيرهم (هن)، ممن أَوْلى الاهتمام بهم/بهن في سلسلة مقالات نشرت متعاقِبة في مجلة “الكتب وجهات نظر” عن هذا التيار الجديد. فكانت هذه المقالة تعريفًا به وبإنتاجه وقد “بذل ما في وسعه من الجهد في السعي لهذه الأعمال”. وقد أظهر في المقالة من خلال تحليله للرواية إعجابه بها، بل دافع عنها في مواضع عدة، وقد رأى أنها ستُحْدِثُ خلافًا، فتحايل بتسجيل ملاحظتيْن كانتا أشبه بالدفاع والتبرير أكثر من كونهما انتقاد للعمل. كانت الأولى عن الشذوذ الذي رأى أنه “لا ضير منه خاصة إذا كان موظفًا جيدًا”.
وفي سياق تبريره لما أُخذ على النَّص من بعض النُّقاد من إسراف في الجنس والشذوذ، ذهب إلى أبعد من ذلك، بذكره أنّ الشخصيّة التي تُمارِسُ سلوكًا شاذًا جنسيًّا موجودة في الرواية المصريّة منذ “حليم الأكبر” [كذا] (يقصد مليم الأكبر) لعادل كامل، و”زقاق المدق” لنجيب محفوظ، إضافة إلى بعض الشخوص الأخرى في “الثلاثيّة” و”المرايا” وسواها” (الكتب وجهات نظر، ص 31) بل دافع عن الإفراط في مشاهد الجنس التي احتوتها الرواية فيقول “أما التناول التفصيلي لحياة هذا المُـمارِس ومشاعره وتفاصيل ممارساته، فموجودة في الأدب العالمي المعاصر، عند جان جنينه، وسارتر وتنيسي وليامز وسواهم. ولست أجد في هذا تزيُّدًا مادام يضيف إلى شخصية صاحبه، وتكوينه النفسي – الجنسي، والعوامل التي أدّت به لأن يُصبح على ما هو عليه”. أما الملاحظة الثانية فكانت حول التناول التفصيلي والمسهب لمختلف المراحل التي قطعها طه في رحلته مع الجماعة الدينيّة. وهذه أيضًا لا يرى فيها تزيدًا “فتلك النماذج موجودة في مجتمعنا، وهي ليست قليلة ولا خاملة، ولا بأس بأن نراه في تحولها التدريجي من الهمِّ الخاص إلى العام. فهذا أدعى لتبيّن مواطن الخلل في الواقع السياسي – الاجتماعي الذي يَحرِمُ طالبًا ذكيًّا مجتهدًا من الالتحاق بالكلية التي يريدها، ثم يسجنه ويعذبه وينتهك رجولته بأكثر الأساليب غلظة ووحشية، فيخرج من سجنه قنبلة موقوته ، ساعية للانفجار والتفجير جميعًا”.
على الجانب الآخر فمع ترجمة العمل وذيوعه في الغرب، إلا أن هناك مَن انتقد العمل على نحو، ما فعل البروفيسور روجر ألن (أستاذ اللغة العربية والأدب المقارن، ورئيس قسم اللغات وحضارات الشرق الأدنى في جامعة بنسلفانيا الأمريكية) الذي اعتبره بيست سيلر على غرار رواية “بنات الرياض” للسعودية رجاء الصانع (وهي طبيبة أسنان مثل الأسواني). وأيضًا انتقدها بانكاج ماشير (وهو كاتب وصحافي مستقل ولد عام 1969 في شمال الهند، وينشر مقالات سياسية وأدبية في كبرى المطبوعات الغربية مثل: نيويورك تايمز ـ ونيويورك ريفيو أوف بوكس، والغارديان، ونيو ستيمتان، ولندن ريفيوا أوف وذي إندبندنت، وغيرها من المطبوعات، كما عمل أستاذًا زائرا في جامعات غربية، قال عنها “لكن الأسواني لا يملك شيئًا مطلقًا من مهارة أسلوب محفوظ المراوغ بحذر؛ فرواية “عمارة يعقوبيان” مكتوبة بأسلوب تفسيري مباشر لتصور مجتمع لا يوجد فيه توزيع عادل للدخل”، الغريب أن بانكاج كان قد جاء إلى القاهرة خصيصًا لإجراء مقابلة مع الأسواني، وبعدها كتب بروفايل عنه بعنوان “تفكيك علاء الأسواني”. (البروفايل ترجمه حمد العيسي، ونشر ضمن كتاب: “نهاية الرواية وبداية السيرة الذاتية”، من ص 101، إلى 135).
رواية “جمهورية كأنّ” تدور في ذات المنطقة، الشاغل الأساسي للأسواني في معظم أعماله؛ حيث الفساد المتغلغل في أوصال الدولة، علاوة على استبداد رجال الشرطة، وحالات القهر والتعذيب التي يُمارسها رجالها، وإن كانت هذه المرة ليست لقيادات الجماعات الإسلامية أو المعارضين السياسيين وفقط، وإنما أيضًا للثوّار والذين شاركوا في الثورة كنوع من العقاب على ما حدث في 25 يناير 2010. وعلى الرغم من هذه النبرة الهجائية في إدانة الشرطة، والكشف عن تجاوزاتها، وإن شاركتها هنا الشرطة العسكرية بعد نزول الجيش وتولّي المجلس العسكري إدارة البلاد، عبر شهادات الفتيات في القضية المعروفة بكشوف العذرية. إلا أن الرواية تميل إلى رثاء الثورة والثوّار بعدما لحقها هذا الغبن من جميع فئات المجتمع وتكالبوا عليها. والرواية بحسب الوصفة الحرّاقة أو الحبكة المتوهجة (الجنس والسياسة)، وخطها السردي النقدي اللاذع أحيانًا والتهكمي أحيانًا أخرى، كأنها تبتغي رضا القراء المحتملين. وما أكثرهم!
بناء الحكاية
يُحسب للمؤلف أنه بارع في تقديم حبكة قصصيَّة مشوِّقة، تجعل القارئ مشدودًا للحكاية عبر بناء هرمي متدرج من بداية ووسط يحتوي على عقدة وصولاً إلى نهاية تأتي دومًا عاكسة لنية الروائي “المحبّ لفعل الخير” بتعبير فاروق عبدالقادر (لاحظ نهاية “أوراق عصام عبدالعاطي”، تنتهي بالبطل الثلاثيني في المستشفى مجنونًا، وفي “عمارة يعقوبيان” تنتهي بزواج بثينة السيّد وزكي الدسوقي في بار، وكأنّ الزواج مكافأة لاثنين لقيّا معاناة في حياتهما، وفي “شيكاجو” بعد أن تجري شيماء محمدي حامد عملية إجهاض خوفًا من عقاب الله بسبب الطفل الحرام، يأتي لها طارق حسيب الذي أقام معها علاقة، ورفض الطفل من قبل، وقد “بدت دقنه غير حليقة، ووجه شاحبًا مرهقًا، كأنه لم ينم منذ فترة” (الرواية، ص 453) في إشارة لندمه على تعنته مع شيماء، فجاء كي يصحّح الوضع). فيبدو الروائي هذه المرة “إنسانيا مفرط في الإنسانية” بتعبير نيتشه، وهو يُصلح ما أفسده العند من قبل بهذا المشهد الختامي/التراجيدي العاصف بالمشاعر والعبر الإنسانيّة والدينيّة.
هذا البناء أو الهيكل الشكلي للرواية ممتدٌّ معه منذ رواية “عمارة يعقوبيان”، واستمرّ في “شيكاجو”، ونادي السيارات، وصولاً إلى هذه الرواية “جمهورية كأنّ”، فهو لا يفارقه دون أن يسعى إلى تطوير أدواته. الغريب أن بداياته في الكتابة لم تشهد مثل هذا النمط الكتابي فقصته الطويلة “أوراق عصام عبدالعاطي” التي صدرت ضمن مجموعة “نيران صديقة” يخالف هذا النهج الذي سار عليه في معظم أعماله اللاحقة، فالسرد هنا ذاتي، حيث البطل محمود تريبل أو عصام عبد العاطي الشاب المثقف المحبط، يسرد بالراوي (الأنا) ما عايشه من إحباطات، ومعاناة من فساد ونفاق، وأزمته الداخلية من تناقض ما يروّج له الإعلام من أصالة وعظمة حضارة المصريين، في مفارقة لما يراه على أرض الواقع، خاصة أنه “اقترب ورأى” ثم ثورته لهدم هذه الأصنام التي ينسجها الإعلام، فيبدأ ساخرًا بمقولة مصطفى كامل الشهيرة “لو لم أكن مصريًّا، لوددت أن أكون مصريًّا”، وصولاً إلى نهايته المأسوية بعدما ظن أن الجميع تآمر عليه بسبب تفوّقه ونجاحه، لم يستثنِ أحدًا، بما في ذلك أمه، وجدته العجوز والخادمة هدى، جميعهم وضعهم في دائرة الارتياب والتحالف ضده.
هكذا يسير السّرد إلى الأمام، ودون تقطيع بفواصل بالارتدادات الزمنية، والوقفات السردية، أو بسرد حكايات أخرى، ووصل ما انقطع كما يفعل في سائر أعماله. هذه المرّة يأتي السّردُ أشبه بدفقة في نَفَسٍ واحدٍ، وكأنّ بطله المعذَّب يودُّ أنْ يُلقي ما في جعبته مرّة واحدة كي يتخلّص مِن حِمْله من مرارة ووجع. ومع توالي أعماله الطويلة مع الأسف لم يستحدث مضامين جديدة، فذات التيمات مكرّرة في كل أعماله الروائية؛ الطويلة والقصيرة وأيضًا في مقالاته السياسيّة وإن كان بأشكال أخرى، فالسياسة وما تستدعيه من فساد ونفاق وقهر، والجنس والصراع الطبقي، هم محور هذه الأعمال جميعها على اختلاف أزمنتها “عمارة يعقوبيان” (2002) (زمن الملكية وما بعدها)، و”شيكاجو” (2007) (في التسعينيات وبداية الألفية الجديدة)، و”نادي السيارات” (2013) (زمن الملكية)، “جمهورية كأنّ” (بعد ثورة يناير 2011، تحديدًا فترة حكم المجلس العسكري) أو فضاءاتها (“شيكاجو”، درات أحداثها في ولاية شيكاجو الأميركية)، فهو يعمد إلى تقطيع الحكاية الواحدة، حيث تنتهي الوحدة على ترقُّب، ثم يبدأ الوحدة الجديدة، بحدث آخر يثير الذهن، ثم يعود مرة ثانية إلى الحدث المقطوع. وهو ينهج نهجًا كلاسيكيًّا حيث يعتمد على الحكاية، وليس كيفية صياغة هذه الحكاية. ومن ثمّ لم نجد أساليب جديدة يعتمد عليها في بناء الحكاية، فالشخصيات تكاد تكون مُقسَّمَة إلى فئتيْن؛ أخيار وأشرار، أقوياء وضعفاء، أسوياء ومُنْحَرِفين، بالتوصيف الكلاسيكي القائم على الثنائيات. وبالمثل الزمن فمع أن الزمن الأصلي يبدأ مع إرهاصات 25 يناير والحركات الاحتجاجية، وصولاً إلى أحداث ماسبيرو، إلا أن الزمن يعود إلى الوراء، ويستدعي أزمنة قديمة وهو يحفر في ماضي الشخصيات، أو تزويد القارئ بسيرة أرشيفية عنهم، لكن اللافت أننا لا نجد تطورًا في الشخصية باستثناء شخصية أشرف ويصا، بل ثمة ارتداد وسقوط مريع على نحو ما رأينا شخصية عصام شعلان، الذي ارتدّ عن أفكاره الشيوعية وصار مدجنًا.
أما اللُّغة فجاءت بسيطة قائمة على اللغة المحكية في كثير منها، حيث يتردّد شريط لغوي شائع في أوساط المجتمع المصري، في تعاملاتهم الشخصية، وكذلك في تعاملات السُّلطة معهم، وفي اللغة التي كانت سائدة في السُّلطة ثمة تحقير وتهميش للآخر، على اعتبار أنها سلطة قاهرة ذات سيادة. ومن ثم كانت تتردد ألفاظ السّب والقذف والتقليل من الشأن مثل: ولد، وكلب، وروح أمك، الرَّعاع، يا جربوع يا ابن الكلب، وغيرها. وفي معظمها كانت ذات خطاب آمر زاجر. كما أنها خالية من أيّ بلاغة وإن جاءت فهي قديمة على نحو “كما يداعب عازف الكمان المخضرم الأوتار قبل أن يعزف” وهو يصف التمهيد للعلاقة الجنسية بين إكرام وأشرف ويصا. أو “خرطها خراط البنات” في وصف نضوج الفتاة.. إلخ من صور وتمثيلات.
هذا البناء أو الهيكل الشكلي للرواية ممتدٌّ معه منذ رواية “عمارة يعقوبيان”، واستمرّ في “شيكاجو”، ونادي السيارات، وصولاً إلى هذه الرواية “جمهورية كأنّ”، فهو لا يفارقه دون أن يسعى إلى تطوير أدواته
حُبّ محرّم
الصّراع – الذي يحكم الرواية – نوعان؛ صراع طبقي وصراع سياسي. الطبقي يتجلَّى في العلاقة بين أشرف ويصا والخادمة إكرام من جهة، ومن جهة أخرى علاقة دانية ابنة رئيس جهاز مباحث أمن الدولة، وخالد مدني ابن السائق عصام شعلان الماركسي القديم والرأسمالي الجديد، الشيء البارز أن العلاقات جميعها غير متكافئة، بالنسبة إلى العلاقة الأولى؛ حقّق أشرف ويصا لها ما تطمح فيه من إعادة الاعتبار لآدميتها، والأهم أنهما خرجا معًا وكأنهما حبيبان كما طلبت منه، على الرغم من أن الذي يحكم العلاقة، هو المنفعة من طرف أشرف، والتعويض من طرف مريم، فالأوَّل يستغلها جنسيًّا في تعويض الحرمان الذي تعانده به زوجته ماجدة. والثانية تستعيض بما يغدقه عليها (أشرف) من كلمات حبّ أثناء الممارسة، تفتقدها من زوجها، ومن ثمّ هي تتوق لعلاقة إنسانية في المقام الأول، ومع هذه الفجوة إلا أن المؤلف يُحسب له أنه كشف لنا ضعف هذه النفس، وأنها تتوق لما يرفع من قدرها بأن تكون محبوبة.
العلاقة الثانية غير المتكافئة على المستوى الطبقي وهي من المفارقات، ممثّلة في علاقة خالد مَدني ابن السائق الخاص بسعادة اللواء علواني بابنته دانية. فإذا كانت أيديولوجيا الراوي أعطت دانية مساحة تعاطف مع حادثة أمّ خالد سعيد، فهذا لا يعني الإسراف في الخيال ويجعلها تهبط لحدوث علاقة حبّ بينها وبين خالد، وإن كانت تعلم نهايتها، فمهما حقَّق خالد من نجاح أو مال في النهاية، فهو في نظر أبيها ابن السائق. عوامل كثيرة طبقية حديثة تمنع حدوث مثل هذا التقارب أصلاً الذي حولّه المؤلف إلى حبّ محرّم. الغريب أنه (أي المؤلف) يتعامل مع هذه الطبقة في معظم مؤلفاته على أنها أساس الفساد والقهر، فلا أعرف سببًا لماذا أراد أن يقدم مصالحة معهم عبر هذه العلاقة، مع علمه باستحالة تحقُّقها على أرض الواقع، فهل يخدعنا أم يخدع نفسه؟! أم تدخل ضمن صفات المؤلف “المحب لفعل الخير” دومًا.
وبالنسبة إلى الصراع مع السُّلْطة. فيأتي من طرف الثوَّار وبالفعل كانوا في صراعٍ حقيقي، وغير متكافئ، وهو ما انتهى بالتنكيل بهم وتشويه صورهم عبر حوادث كشوف العذرية للبنات، وانتهاك ذكورية الرجال. ثم السُّلطة والثوّار باستخدام أجهزتها الأيديولوجية في قمع الثوّار بشتى الوسائل، وإعلامية من خلال تشويه الثوّار وما فعلوه، وهو الدور الذي لعبته المذيعة نورهان بمهارة. وهناك صراع آخر مكتوم، تمثّل في ضحايا الثورة ضدّ السُّلطة، ومثاله هنا والد خالد عمّ مدني مع ضابط الشرطة قاتل ابنه، بعدما برّأته المحكمة. ربما لجأ المؤلف إلى انتهاء الصراع لصالح والد خالد على الرغم من استحالة حدوثه على مستوى الواقع، حيث سلَّحه بأدوات المواجهة فمع أنّه يحمل هيئة “التابع المطيع” إلا أنه مع هذا المظهر يخفي “خلفه مقاتلاً شجاعًا يتمتّع بإرادة فولاذية ودأب نملة”، وهو ما ظهر في رغبة الانتقام، وإن تحقق (أي الانتقام) على مستوى الرواية فإنه لم يتحقق على مستوى الواقع. ربما المؤلف حمّل الأب العاجز والملكوم ما لم تقدر عليه الثورة، بأن ينتصر لها.
الوثائقيّة والمبالغة
في إطار انشغال الكاتب بفكرة التوثيق لحدث في الأصل تمّ توثيقه صوتا وصورة، غابت ملامح الفن وسيطرت الوثائقية، فحوى النص في داخله شهادات حقيقية لبعض الذين وقعت عليهم انتهاكات الشرطة، وإن جاءت هذه الشهادات دون توظيف في سياق الأحداث. فحضور شهادات سميرة إبراهيم، ورشا عبدالرحمن، وسلوى الحسيني، جاء للتدليل على انتهاكات النظام، وهي منقولة عن شهادات موثّقة عبر اليوتيوب، وبعضها مكتوب في مواقع إلكترونية. وبالمثل شهادات لبنى درويش، وبيشوى سعد، ومحمد الزيات عن أحداث الـ9 من أكتوبر أمام ماسبيرو. ومع هذه الوثائقية إلا أن ثمّة مبالغات في أحداث خاصّة بالإخوان ومرشدهم، وخيانتهم للثورة وتحالفهم مع المجلس العسكري. ومن المبالغات التي كان غرضها إبراز فزّاعة الجماعات الإسلاميّة، ما جاء في رسائل أسماء الزناتي لمازن من حالة المدرسة التي كانت تعمل بها، حيث المدير كان متشدّدًا يمنع أي تلميذة مسلمة غير محجبة من دخول المدرسة، كما يوقف الدراسة لأداء صلاة الظهر، ولو الحال كان في مدارس خاصّة كان من الممكن تقبُّل هذا، لكن هذه المدرسة تابعة للحكومة. والأسواني يعلم أن الموظفين ملكيين أكثر من الملك نفسه. الغريب أن هذا الناظر الأستاذ عبدالظاهر، يسعى جاهدًا لإجبار أسماء على إعطاء الدروس الخصوصيّة، بل وصف جميع العاملين بأنهم “عصابة هدفها ابتزز التلميذات وإجبارهن على الدروس الخصوصيّة” وهو ما يظهر تناقضًا في مواقفه، كيف يعمل الشيء ونقيضه في الوقت ذاته!
لا تقتصر المبالغات فقط في إيراد أشياء لا يمكن حدوثها على مستوى الواقع، كما فعل والد خالد باقتصاصه من الضابط، وإنما تأتي عبر صور متعدِّدة منها الصورة الاستهلاكيّة لرجل الدين، فصورة الشيخ شامل هي صورة مكرّرة لرجل الدين المتناقض الشخصية، والذي باع نفسه للسلطة مقابل المال والظهور الإعلامي. سبق أن أفرد لها إبراهيم عيسى رواية بعنوان “مولانا” (دار بلومزبري – مؤسسة قطر للنشر، 2012) لا تقل هي الأخرى خطابية عن هذه الرواية. فلم تختلف الصورة في شيء سواء في الشكل أو الجوهر، فالسيارة المرسيدس والملابس الفارهة والساعة الماركة والرائحة الذكيّة التي تفوح منه بمجرد نزوله من السيارة، والأهم حبُّه للنكاح هي أهم ما يميز صورته البارزة أثناء حضوره في الخطابات الأدبية، ثم خطابه الديني الاستهلاكي الذي يمزج بين تبسيط الدين إلى حد تفريغه من قيمه ومقاصده، وانطوائه على تلميحات جنسية. الغريب أن الصورة أيضًا مكررة حيث يبدأ أولا بمغازلة سيدات القصور وعلْية القوم. بالطبع هي صورة فجّة وإن وجدت في الواقع لا يعني أنها هي الصُّورة السائدة، فهناك رجال دين مشهود لهم بالالتزام. لكن التشويه العمدي لرجل الدين، وهو غير مقبول، لأن كل مهنة فيها النقيضان.
في الرواية جوانب إنسانيّة مهمّة ربما أحدها حالة العوز التي فيها أشرف ويصا من سوء معاملة زوجته وبالمثل حكاية أسماء الزناتي وعلاقتها بجدها التي جاءت على حساب والدها، الذي تركها وعاش في الخليج يجمع المال. وأيضًا علاقة مازن بعصام شعلان واعترافه بالدور الذي لعبه في حياته. وأيضًا إنسانية عصام ذاته مع مدني ومازن.
فكرة الرّسائل الإلكترونية بين أسماء الزناتي ومازن السقا لم تضف جديدًا، بل كان من الأولى أن يكتفي برسالة التعارُّف ثمّ يتمّ التواصل بينهما، حتى ولو كان الهاتف مراقبًا كما زعم، بالطبع الرّسائل أعطت الذات فرصة لتأمّل واقعها عن بُعد، ومن ثمّ قامت أسماء بعمل مراجعة لذاتها وعلاقتها بواقعها، إلّا أنها من الناحية الفنيّة لم تضف شيئًا للرواية. من الأشياء التي تُحسب للمؤلف، بناء شخصية أشرف ويصا، وهو رجل خمسيني أرستقراطي مسيحي، يحدث له التحوّل، مع دخول أسماء إلى شقته هربًا من مطاردة البوليس في الميدان. على الرغم من الارتباك في تعامله مع الثورة وردة فعله أثناء قبوله بإخفاء أسماء في شقته، وإن كان ثمة خلل في تفاعله مع الثورة، فهو لم يقتنع بكلام أسماء بل حاول إقناعها بالعكس، ثم بعد ذلك يتغير موقفه عند رؤية الجنود يطلقون النار على المتظاهرين بعد أن أنهى علاقة جنسيّة مع إكرام. وهو ما أعقبه التحوّل الخطير بعدما كان كل همّه مطاردة الخادمة، ومطارحتها الفراش في غياب زوجته ماجدة، لتنقلب حياته رأسًا على عقب، متفاعلًا مع الثوار وفتح شقته لهم. وهذه الشخصية بكل ما حملته من إسقاطات واقعية وأقنعة لشخصيات حقيقية أطلت من مشهد التحرير إلا أن المؤلف استطاع أن يقدمها في بناء محكم، حتى في صراعها النفسي مع زوجته، وعلاقته بالخادمة، وصولاً إلى حالة الترقي التي صعد بها متغلبًا على شهواته ونزواته، ليصير الوطن هو همّه الأول. وهو ذات البناء الذي قام به مع شخصية طه الشاذلي، فقدم لنا بداياته والإكراهات التي مورست عليه، وصولاً إلى قرار أن يتحوّل إلى قنبلة موقوته، وهذا يُحسب له، وكأنه يريد أن يربط بين تكوين الوعي والضغوط الاجتماعية والإكراهات السياسية. وهو ما يعكس تأثير المنظومة الاجتماعيّة والحقوق السياسية للمواطن على تشكيل هذا الوعي.
في تعامله مع باقي الشخصيات ثمّة عجلة في بنائها أو لنقل تناقضًا، ملامحها وتكوينها يتجافى مع الواقع. فشخصية اللواء أحمد علواني بما تحمله من صفات مماثلة لشخصيات واقعية، إلا أنها فارقت الواقع ليس في ملامحها وإنما فيما اكتنفها من مبالغات تفوق الخيال؛ حيث أضفى الراوي على الشخصيات صفات لا تجتمع في شخص واحد على الإطلاق؛ فهو على عكس كثيرين من أصحاب المناصب الرفيعة يفضل أن يناديه الناس بلقبه الديني “الحاج” أكثر من سيادة “اللواء أو الباشا”. بالطبع هذه مبالغة من الأسواني تتجاوز حدود المنطق، فأصغر عضو منتسب لهذه الأجهزة يرفض أن يُنادى بأقل من هذه الألقاب: بيه أو باشا، فما بالك برئيسهم. وبالمثل ما ظهرت عليه شخصية عصام شعلان المناضل القديم، والذي اغتصب من قبل، يسقط هذا السقوط المريع في أحضان السلطة، دون أن يقدّم لنا مبررًا لهذا السقوط، وإن كانت وراءه تلميحات لسقوط التيارات الشيوعية تحت قبضة الأمن، لكن تاريخ عصام الفردي ووقفته أمام الرئيس بمثابة صمام الأمان له من هذا السقوط الذي انتهى إليه هو والأحزاب التي يشير إليها.
فكرة الرّسائل الإلكترونية بين أسماء الزناتي ومازن السقا لم تضف جديدًا، بل كان من الأولى أن يكتفي برسالة التعارُّف ثمّ يتمّ التواصل بينهما، حتى ولو كان الهاتف مراقبًا كما زعم، بالطبع الرّسائل أعطت الذات فرصة لتأمّل واقعها عن بُعد
محاكمات على الورق
في ظني أن سبب سقوط الراوي في فخ التناقض والمبالغة، هو سعي الكاتب لمحاكمة الشخصيات الواقعية على الورق. فسعى الكاتب بتشويه صورتها. فجاءت شخصية أحمد علواني متناقضة؛ فهو تارة رجل متديّن يحرص على الصلاة وسط الجماعة، كما أنه لا يريد أن تكون له ولا لأسرته امتيازات تَفْرُقه عن الآخرين، على الرغم من أنه يتمتع بسلطة تسمح للجميع بخدمته وتقديم يد العون، إلا أنّه طيلة مسيرته العمليّة لم يستغلها، بل كان دائمًا يرفع شعار النزاهة والتجرد والبعد عن الشبهات والصفقات والتدخّلات. ومع هذه الصفات التي تجعل منه نموذجًا مثالاً إلا أنه ضعيف في نزواته الجنسيّة فيبرّر لنفسه مشاهدة أفلام البورنو، بتبرير سخيف وغير مقنع أيضًا، وفي ذات الوقت ينتشي طربًا وهو يرى رجاله أثناء التحقيق مع أحد المشتبهين يتخلوّن عن الإنسانيّة، بعبثهم بزوجة المتهم عربي السيد شوشة وبجسدها في مقابل انتزاع اعتراف منه. ثمّ بعد ذلك نراه بهذه الصّورة الوديعة، صورة الأب الذي آلمه فراق ابنته الصغيرة عند ذهابها إلى الحضانة، فترك عمله بالجهاز يومًا كاملاً ليرافق ابنته دانية في يومها الأول في حضانة المدرسة، فلم يطاوعه قلبه على تركها وحدها في الحضانة، حتى عودتها. أب بهذه المشاعر لا يمكن أن يحمل داخله مشاعر المستبد والسّادية، حتى في ممارسته العلاقة الحميميّة مع زوجته. فهو يقلد ما يراه في مزوشية.
في الرواية حشو تفاصيل كثيرة، بدّد تماسُّك بنية النص وشتّت القارئ، مثل حكايات محمد الزناتي والد أسماء وماضي عصام شعلان وغيرها من الحكايات العجيبة، حيث لم يفت على الكاتب أن يعطي كل شخصية تاريخا خاصًا، سواء أكان لها دور مهمٌّ أم لا. وبالمثل شهادة سميرة إبراهيم، ورشا عبدالرحمن، وسلوى الحسين جودة جاءت مقحمة في السياق فقط للتدليل على انتهاكات النظام، وهي منقولة عن شهادات موثقة عبر اليوتيوب، وبعضها مكتوبة في مواقع إلكترونية. وشهادة لبنى درويش عن الـ9 من أكتوبر أمام ماسبيرو وبيشوى سعد هذه الشهادات أخرجت الرواية إلى التوثيق والتاريخ.
في النهاية – وفي ظل التغيّرات التي لحقت مفاهيم الرواية بتداخلها وانفتاحها على أجناس كثيرة وثيقة الصلة بها أو منقطعة الصلة عنها، وحلول مفاهيم جديدة مثل الرواية ما بعد الحداثية بمعالجتها لثيمات أصغر بكثير من الثيمات الكبرى، والرواية ما بعد الكولونيالية، ورواية التعددية الثقافية بإعلاء فكرة التسامح والتعددية الثقافية والحفاظ على موروثات الشعوب، وطقوسها الفلكلورية، وغيرها من أشكال اندرجت تحتها كالرواية المهاجرة ورواية جماعة الأقليات، والرواية الرقميّة الرواية الميتاسرد، وغيرها، وأيضًا الواقعية (أصبحت الواقعية تخليص الواقعي من مبدأ واقعيته، بتعبير جان بودريار)، فالرواية أضحت جزءًا من عالم متغير يُحاكي ذاته، بل والأصح أن الرواية لم تعد «مرآة تسير في الطريق» مثلما وصفها ستاندال في مقدمة روايته «الأحمر والأسود» بل صارت تؤدي الوظيفة التي نهضت بها الأسطورة من قبل، أي “الفضاء الميتافيزيقي” الذي يلجأ إليه الأفراد للحصول على فسحة من “فك الارتباط” مع الواقع الصلب واشتراطاته القاسية والإبحار في عوالم متخيّلة لذيذة تشبه حلم يقظة ممتدًّا، كما رأتها لطفيّة الدليمي- أقول بعد هذا بكل طمأنينة إن هذه الرواية تفتقد للكتابة الخيالية، على غرار قول روجر ألن في مؤتمر الرواية العربية في إمارة الشارقة، عام 2008، عندما سأله صحافي عربي عن رأيه في رواية صدرت مؤخرًا (وقت المؤتمر) لها عدة طبعات عربية وهي “بنات الرياض” لرجاء الصانع، قبل أن يجيب سأله عن لماذا سأله عن هذه الرواية بالذات فأجاب: لأنها تستحق الترجمة والنشر باللغة الإنجليزية وبواسطة ناشر شهير ليس أقل من بنغوين بوكس. فكان ردّ روجر ألن أن “هذه الرواية تفتقد لجنس الكتابة الخيالية، بل أشار إلى ضرورة وضعها تحت إطار كتاب لا رواية”. بالمثل تبدو لي “جمهورية كأنّ” كتابة تفتقد للخيال، فالكاتب وقع كبطل كافكا في قصة “الأحراش المتأججة” في “أحراش معقدة متشابكة لا مخرج منها”، فلا هو كتب رواية بمفهوم الرواية، ولا كتب مقالاً سياسيًّا صريحًا، وإنما أشبه برقصة القوقازي بين البيتيْن بعد أن خانته قواه أثناء بناء بيت جديد بديلا عن البيت المتداعي، فصار لديه نصف بيت قائم ، وآخر نصف مبني، أي لا شيء على الإطلاق.
رحم الله المشعوذ الأخضر يحيى الطاهر عبدالله الذي تباهى بالخيال فقال “الحمد لله الذي لم يسلبني كل نعمة فمنحني نعمة الخيال”.
إذن، ماذا تكون؟ في ظني هي أقرب لمنشور سياسي مناهض لأجهزة الدولة، ومع الأسف هذا الوصف لا ينطبق على رواية الأسواني فحسب، بل هناك كتابات كثيرة خالية من الخيال. ويتعمد ناشرها ظلم القارئ بوضع كلمة رواية على غلافها الخارجي، كنوع من مغازلة الجوائز، وربما لو ترك الأمر مفتوحًا لاستطاع القارئ قراءة العمل برحابة دون التقيّد بمفاهيم وتقنيات الرواية. لكن يضيّقون الأمر وأرض الله واسعة.